الفاتيكان
12 آذار 2021, 12:15

واعظ القصر الرّسوليّ: حياتنا لا تنتهي مع الموت

تيلي لوميار/ نورسات
في التأمّل الثّالث خلال زمن الصّوم هذا، ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله صباحًا، في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، تحت عنوان "ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟" يسوع المسيح "الإله الحقّ"، فقال نقلاً عن "فاتيكان نيوز":

"للحديث عن المسيح اخترنا أضمن طريقة وهي العقيدة: المسيح الإنسان الحقيقيّ، المسيح الإله الحقيقيّ، المسيح شخص واحد. يتعلّق الأمر بإعادة إيقاظ العقائد، وإشباعها بالحياة، كما حدث عندما دخل الرّوح في العظام الجافّة الّتي رآها حزقيال "فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ". في التّأمُّل الماضي حاولنا أن نقوم بذلك فيما يتعلّق بعقيدة يسوع "الإنسان الحقيقيّ"، واليوم نريد أن نقوم بذلك مع عقيدة المسيح "الإله الحقيقيّ".

في عام 111 أو عام 112 بعد الميلاد، كتب بلينيوس الأصغر، حاكم بيثينيا وبونتوس، رسالة إلى الإمبراطور ترايانوس، يطلب منه توجيهات حول كيفيّة التّصرّف في المحاكمات ضدّ المسيحيّين. ووفقًا للمعلومات الّتي تمّ الحصول عليها- كتب إلى الإمبراطور- "كلّ ذنبهم أو خطئهم يتمثّل في اجتماعهم في يوم محدّد قبل الفجر والغناء، بين جوقين، ترنيمة للمسيح كإله". يحدث هذا في آسيا الصّغرى، بعد سنوات قليلة من وفاة آخر رسول، يوحنّا، والمسيحيّون، في ليتورجيّتهم، يعلنون ألوهيّة المسيح! إنَّ الإيمان بألوهيّة المسيح قد ولد مع ولادة الكنيسة. لكن ماذا عن هذا الإيمان اليوم؟ لنُعد بناءَ موجزٍ لتاريخ عقيدة ألوهيّة المسيح. لقد تمّ إقرارها رسميًّا في مجمع نيقيا في عام 235 بالكلمات الّتي نكرّرها في قانون الإيمان: "أؤمن بربّ واحد يسوع المسيح... إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوي للآب في الجوهر".

لقد استغرق ما يقارب قرن من الاستقرار قبل أن تقبل المسيحيّة بأسرها هذه الحقيقة في جذريّتها. وبمجرّد التّغلّب على عودة ظهور الآريوسيّة بسبب وصول الشّعوب البربريّة الّتي تلقت التّبشير الأوّل من الهراطقة، أصبحت العقيدة الإرث السّلميّ للمسيحيّة بأسرها، الشّرقيّة والغربيّة على حدّ السّواء. لقد حافظ الإصلاح البروتستانتيّ على العقيدة كما هي وزاد من مركزيّتها؛ ولكنّه أدخل فيها مع ذلك عنصرًا أدّى لاحقًا إلى تطوّرات سلبيّة. فيما وجد عصر التّنوير والعقلانيّة في هذا الأمر الأساس المناسب لهدم العقيدة. فبالنّسبة إلى الفيلسوف الفرنسيّ "Kant"، ما يهمّ هو المثال الأخلاقيّ الّذي اقترحه المسيح أكثر من شخصه. أمّا اللّاهوت اللّيبرالي للقرن التّاسع عشر يختزل المسيحيّة عمليًّا إلى البعد الأخلاقيّ وحده ولاسيّما في خبرة أبوّة الله، وقد جرّد الإنجيل من كلّ ما هو خارق للطّبيعة: المعجزات والرّؤى وقيامة المسيح. وبالتّالي أصبحت المسيحيّة مجرّد مثال أخلاقيّ سامي يمكن أن يتجاهل ألوهيّة المسيح وحتّى وجوده التّاريخيّ. أمّا الآن فعلينا أن نتمسّك بما نهدف إليه. فنترك جانبًا ما يعتقده العالم ونحاول أن نوقظ في أنفسنا إيمانًا بألوهيّة المسيح. إيمان مشرق، غير واضح وموضوعيّ في الوقت عينه، أيّ إيمانًا معاشًا أيضًا.

ننطلق من الأناجيل. في الأناجيل الإيزائيّة، لا يُعلن أبدًا عن ألوهيّة المسيح بشكل علنيّ، ولكنّها كانت تظهر بشكل ضمنيّ. لنتذكّر بعض أقوال يسوع: "إنَّ ابنَ الإِنسانِ لَه في الأَرضِ سُلطانٌ يَغْفِرُ بِه الخَطايا"؛ "فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلّا الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلّا الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه"؛ "السَّماءُ والأَرضُ تَزولان، وكلامي لن يَزول"؛ "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت. فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضًا"؛ "وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء". من، غير الله، يمكنه أن يغفر الخطايا باسمه ويعلن نفسه الدّيّان النّهائيّ للإنسانيّة والتّاريخ؟ ومثلما تكفي شعرة أو قطرة من اللّعاب لإعادة بناء الحمض النّوويّ للشّخص، كذلك فإنّ سطرًا واحدًا من الإنجيل، يُقرأ بدون أفكار مسبقة، كافٍ لإعادة بناء الحمض النّوويّ ليسوع، لكي نكتشف ما كان يفكّر فيه عن نفسه، ولكنّه لم يكن قادرًا على قوله علانيّة لكي لا يساء فهمه. إنّ السّموُّ الإلهيّ للمسيح يظهر حرفيًّا في كلّ صفحة من صفحات الإنجيل. ولكنَّ يوحنّا بشكل خاصّ هو الّذي جعل من ألوهيّة المسيح الهدف الأساسيّ لإنجيله، والموضوع الّذي يوحّد كلّ شيء. ويختم إنجيله بالقول: "وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه"، ويختتم رسالته الأولى بنفس الكلمات تقريبًا: "كَتَبتُ إِلَيكم بِهذا لِتَعلَموا أَنَّ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لَكم أنتُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِ ابنِ الله".

في أحد الأيّام قبل عدّة سنوات، احتفلت بالقدّاس في أحد الأديار، وكان المقطع الإنجيليّ من اللّيتورجيّا هو من إنجيل يوحنّا حيث يقول يسوع مرارًا وتكرارًا "أنا": " فإذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم... متى رَفَعتُمُ ابْنَ الإِنسان عَرَفتُم أَنِّي أَنا هو... قَبلَ أَن يَكونَ إِبراهيم، أَنا هو".  كنت أعرف، من خلال دراستي، أنَّ في إنجيل يوحنّا العديد من الـ"أنا"، ego eimi، الّتي نطق بها يسوع. كنت أعلم أنّ هذه حقيقة مهمّة بالنّسبة للكريستولوجيا، وأنّ يسوع قد أعطى لنفسه من خلالهم الإسم الّذي يقدّم فيه الله نفسه في سفر أشعيا: "لِكَي تَعرِفُوا وَتُؤمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ"، ولكن علمي معرفتي كانت معرفة كُتُب ولم تكن تثير فيَّ مشاعر معينة. لكنَّ ذلك اليوم كان مختلفًا تمامًا. كنّا في زمن الفصح وبدا لي أنّ القائم من بين الأموات هو الّذي يعلن اسمه الإلهيّ في حضرة السّماء والأرض، وكان قوله "أنا هو" ينير الكون ويملؤه.

يمكننا أن نندهش إزاء المشروع الّذي سمح روح يسوع ليوحنّا بأن ينجزه. لقد عانق المواضيع والرّموز والانتظارات، باختصار، كلّ ما كان حيًّا دينيًّا، سواء في العالم اليهوديّ أو في العالم الهلنستيّ، جاعلاً هذا كلّه مفيدًا لفكرة واحدة، لا بل لشخص واحد: يسوع المسيح هو ابن الله ومخلّص العالم. لقد تعلّم لغة أناس عصره، ليصرخ فيها بكلّ قوّته الحقيقة الوحيدة الّتي تُخلِّص، "الكلمة" بامتياز. مع هذه المقدّمات يمكننا أن نعود إلى تقييم كلّ البعد الذّاتيّ والشّخصيّ للعقيدة: المسيح "بالنّسبة لي" الّذي وضعه المصلحون في المقدّمة، والمسيح المعروف بفوائده وشهادة الرّوح الدّاخليّة. هذه هي أفضل ثمار المسكونيّة، ثمرة "التّوفيق بين الاختلافات"، وليس التّناقض، كما يقول الأب الأقدس.

يكتب القدّيس بولس: "فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إِلى البِرّ، والشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إِلى الخَلاص"؛ ويعلِّق القدّيس أوغسطينوس: "من جذور القلب يشرق الإيمان". في الرّؤية الكاثوليكيّة، كما في الرّؤية الأرثوذكسيّة، وكذلك في الرّؤية البروتستانتيّة لاحقًا، غالبًا ما اكتسبت اعتناق الإيمان الصّحيح، وهي اللّحظة الثّانية من هذه العمليّة، مكانة بارزة بحيث تركت في الظّلّ تلك اللّحظة الّتي تتمُّ في أعماق القلب. إنَّ فعل الإيمان الأوّل هذا وتحديدًا لأنّه يحدث في القلب، هو عمل "فرديّ"، لا يمكن أن يقوم به إلّا الفرد، وفي عزلة تامّة مع الله. في إنجيل يوحنّا، نسمع يسوع يسأل مرارًا وتكرارًا: "أتؤمن؟"؛ وفي كلّ مرّة يثير هذا السّؤال صرخة الإيمان من القلب: "نعم يا ربّ، أنا أؤمن!". علينا أيضًا أن نقبل بأن نمرّ في هذه اللّحظة ونخضع لهذا الفحص؛ وبالتّالي علينا نحن المؤمنين ورجال الكنيسة أن نهدم في داخلنا الإقناع الخاطئ بأنّنا ثابتون فيما يتعلّق بالإيمان، وبأنّه علينا أن نعمل على المحبّة. من يدري ما إذا كان من الجيّد، لبعض الوقت، ألّا نرغب في إثبات أيّ شيء لأيّ شخص، وإنّما أن نعمل على فهم إيماننا ونكتشف مجدّدًا جذوره في قلوبنا! علينا أن نخلق الظّروف مجدّدًا لكي نعيد إحياء الإيمان بألوهيّة المسيح. ونستعيد دفع الإيمان الّذي ولدت من خلاله عقيدة نيقيا. إذ لا يكفي أن نكرّر قانون نيقيا؛ وإنّما علينا أن نجدّد دفع الإيمان الّذي كان في ذلك الوقت في لاهوت المسيح والّذي لم يعد له مثيل على مرّ القرون.

لقد كان القدّيس أوغسطينوس يقول: "ليس بالأمر العظيم أن تؤمن بأنّ يسوع قد مات؛ وهذا ما يؤمن به الوثنيّون والأشرار. هذا ما يؤمن به الجميع. ولكنّه لشيء عظيم حقًّا أن تؤمن بأنّه قام". ويختم: "إنّ إيمان المسيحيّين هو قيامة المسيح". وبالتّالي يجب أن يقال الشّيء نفسه عن بشريّة المسيح وألوهيّته، اللّتين يمثّل الموت والقيامة تجسيدًا لهما. يؤمن الجميع أنّ يسوع كان إنسانًا، ولكن ما يجعل الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين هو الإيمان بأنّه إله أيضًا، وإيمان المسيحيّين هو ألوهيّة المسيح! لقد سمعنا أنَّ "معرفة المسيح هي إدراك فوائده". وبالتّالي نختتم بالتّذكير ببعض هذه الفوائد القادرة على الاستجابة للاحتياجات العميقة للإنسان اليوم ودائمًا: الحاجة إلى المعنى ورفض الموت. قال يسوع: "أنا نور العالم. من يتبعني لا يمشي في الظّلام". إنَّ الّذين يؤمنون بالمسيح لديهم الفرصة لمقاومة الإغراء الكبير لغياب معنى الحياة الّذي يؤدّي غالبًا إلى الانتحار. لأنّ الّذي يؤمن بالمسيح لا يسير في الظّلمة: يعرف من أين أتى، ويعرف إلى أين يتّجه وماذا يجب أن يفعل في هذه الأثناء. ولكنّه يعرف بشكل خاصّ أنّه محبوب من قبل شخص ما وأنّ هذا الشّخص قد ضحّى بحياته ليثبت له ذلك! كذلك قال يسوع أيضًا: "أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحيا" ويكتب الإنجيليّ يوحنّا بعدها للمسيحييّن: "كَتَبتُ إِلَيكم بِهذا لِتَعلَموا أَنَّ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لَكم أنتُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِ ابنِ الله... ونَعلَمُ أَنَّ ابنَ اللهِ أَتى وأَنَّه أَعْطانا بَصيرةً لِنَعرِفَ بِها الحَقّ. نَحنُ في الحَقِّ إِذ نَحنُ في ابنِه يسوعَ المَسيح. هذا هو الإِلهُ الحَقُّ والحَياةُ الأَبدِيَّة"؛ وبالتّالي لأنّ المسيح هو "الإله الحقيقيّ"، فهو أيضًا "الحياة الأبديّة" ويعطي الحياة الأبديّة. هذا الأمر لا يزيل بالضّرورة خوفنا من الموت، لكنّه يمنح المؤمن اليقين بأنّ حياتنا لا تنتهي مع الموت."