هذا ما كتبه المتروبوليت موسي في عيد هامتي الرّسل!
"في معرض التّهيئة للاحتفال بعيد هامتَي الرّسل، استوقفتني افتتاحيّة رسالة بولس الرّسول الثّانية إلى ابنه في الرّوح وتلميذه ومعاونه تيموثاوس: "بولس، رسول يسوع المسيح بمشيئة الله، لأجل وعد الحياة الّتي في يسوع المسيح، إلى تيموثاوس الابن الحبيب: نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والمسيح يسوع ربّنا" (2 تيموثاوس 1: 1-2).
فمن جهة، لفتني كيف يقدّم نفسه: إنّه "رسول يسوع المسيح بمشيئة الله". وهذا حصل "ليس بحسب إنسان... بل باعلان يسوع المسيح" (غلاطية 1: 11-12)، فهو "رسول لا من النّاس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الّذي أقامه من الأموات" (غلاطية 1: 1). هذا حصل لأوّل مرّة على طريق دمشق حينما ظهر له يسوع ودعاه بهذا العتاب الرّقيق: "شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟" (أعمال 9: 4؛ 22: 7؛ 26: 14)، كونه كان قاصدًا دمشق ليلقي القبض على المسيحيّين فيها.
ومن جهة أخرى، لفتني ما يقدّمه، أيّ من أين يأتي هو ومن أين ينبع كلامه وما هي العطيّة الّتي يحملها إليه: "نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والمسيح يسوع ربّنا". هذه هي صلب خدمته الرّسوليّة والّتي سكب من أجلها أتعابًا كثيرًا حتّى تصير حقيقة ملموسة في نفوس المؤمنين وواقعًا معيوشًا في الجماعة المسيحيّة.
ما تبدّى لنا في هذه الافتتاحيّة لم يبقَ محصورًا في جدار الزّمن الّتي حدثت فيه ولا في حدود الشّاهد الّذي يتحدّث عنها ويشهد لها. فرسوليّة الدّعوة والعطيّة الرّسوليّة لازمتا شهود المسيح عبر العصور في آباء الكنيسة وشهدائها وأبرارها دون أن تنقطع الميزة الرّسوليّة في شهود أحياء يحملونها ويعكسونها في سيرتهم وقداستهم وإشعاعهم المستمرّ.
هذا ما قادني إليه ما لمستُه في شهادة مَن أُعطيتُ اسمه، أعني القدّيس سلوان الآثوسيّ (1938 +). فهو، على غرار الرّسل الأوّلين، صيّادي السّمك، قد أتى من بيئة بسيطة للغاية، بيئة قرويّة، ويعمل في البناء ولا يحمل شهادة مدرسيّة. لكنّه بفعل جهاد روحيّ على مدى فاق الأربعة عقود، تحوّل إلى رسول للمسيح مرسَل إلى عالمنا المعاصر المتخبّط، أكثر من أيّ يوم مضى، في اليأس والإحباط. هذا حصل بفعل خبرته المحوريّة الّتي وصلتنا من جرّاء صراعه الشّخصيّ المرير مع اليأس وقبوله كلمة المسيح الموجّهة إليه دواء وسبيلاً للتّخلّص منه: "وطّنْ نفسك على العيش في الجحيم ولا تيأسْ". منذ ذلك الحين، سعى هذا القدّيس أن تكون نفسه مشدودة إلى الرّجاء بالله، وذلك من قعر الجحيم الدّاخليّ الّذي كان يعيشه. ومن هناك استطاع أن يدوّن لنا خبرته وشهادته حول علاقته بالله الّتي تضيء على واقعنا بنور لافت، وعذوبة خارقة، وثقة مشجّعة.
لقد وعيتُ، أثناء دراستي اللّاهوتيّة، كم أنّ كتاباته البسيطة قد أسرَتْ قلوب كثير من الشّبّان حول العالم وجذبتهم ليس فقط إلى الإيمان بالمسيح بل إلى تكريس ذواتهم له. ثمّ اكتشفتُ في خدمتي كم أنّ كتاباته العذبة على القلب، والهادية للنّفوس، قد اخترقت، بفضل ترجمتها إلى عشرات اللّغات، حواجز الثّقافات والعقليّات والمشارب المتنوّعة، ودخلت قلب الإنسان وأضاءت عليه بنور الله.
هكذا لمستُ في هذا القدّيس، وهو مثال بين كثيرين، كيف أنّ الرّسوليّة قد استبانت مستمرّة وفاعلةً بشكل لافت في عالمنا المعاصر الشّديد التّعقيد، وأنّه بمقدور إنسان واحد مثل القدّيس سلوان أن يخاطبه بفعل صلاته الخفيّة الّتي كان يحمل فيها كلّ الإنسان من جرّاء ما تعلّمه من محنته الشّخصيّة. كيف يعقل أن يقدر شخص واحد أن يخاطب عالمنا اليوم وأن يجد له من يصغي إليه من شعوب ومختلفة؟ أَليس هذا شاهد على فعل العنصرة المستمرّ حينما كان الجمع يسمع الرّسل يخاطبونه كلّ واحد بلغته الخاصّة؟
هوذا إذًا شاهد أنّ الكنيسة رسوليّة، يرسلها يسوع إلى العالم لتخاطبه بكلمة الحياة الّتي يلقيها فيها، وأنّ الرّسوليّة، في دعوتها وعطيّتها، حاضرة في العالم بفعل عمل الرّوح القدس المستمرّ في مَن أسلموا ذواتهم، في العمق، إلى المسيح، فعزّاهم وتحوّلوا بدورهم تعزية مرسَلة إلى إخوتهم وأترابهم.
فرح العيد يتمّ في تحوّلنا هذا، فهو جوابنا على أتعاب بطرس وبولس وصلاتهما وخدمتهما، كما وأتعاب سائر الرّسل على مرّ العصور. عالمنا يعيش في تخبّط كبير، ولا يدرك معنى هذه الرّسوليّة وفاعليّتها ومنفعتها لحياة العالم. رجائي ألّا يحرمنا الرّبّ من خبرات كهذه تشدّدنا وتنهضنا وتثبّتنا في الإيمان الحيّ كلّ يوم. عسانا نكون من هؤلاء الرّسل، رسل من العالم المعاصر المرسَلين إليه.
لا يسعني سوى أن ألتفت معكم إلى مَن هو بيننا، وهو من عداد هؤلاء الرّسل، أعني به سلفي، صاحب السّيادة المتروبوليت جاورجيوس، الّذي يرعانا بصلاته وتوبته وكلمته، وأتقدّم معكم منه بالشّكر والامتنان في سياق عيش هذه الرّسوليّة بيننا وتقديمها لنا على النّحو الّذي يفعله اليوم.
أضمّ صلاتي إلى صلاته وصلاتكم من أجل أن يفتقد الرّبّ عالمنا وكنيستنا وأبناءها بالرّحمة والفرج والتّعزية، وينير درب شهادتنا بنور نعمته الإلهيّة في الظّروف القاسية والمؤلمة الّتي نعيشها كلّنا".