هذا ما طلبه البابا فرنسيس من الفنّانين!
أثناء القدّاس قرأ المحتفل عظة البابا الّذي غاب لتواجده في المستشفى، وقد توقف فيها عند أهمّيّة الدّور الواجب أن يلعبه الفنّانون في عالم اليوم، مشدّدًا على ضرورة الالتزام في بناء الجسور وخلق فسحات للّقاء والحوار.
وفي التّفاصيل، وبحسب "فاتكيان نيوز"، تطرّقت عظة الحبر الأعظم إلى إنجيل اليوم "الّذي يحدّثنا عن الرّبّ يسوع فيما كان يعلن التّطويبات لتلاميذه ولحشد كبير من النّاس. لقد سمعنا التّطويبات مرّات عديدة، ومع ذلك لم تتوقّف عن إدهاشنا "طوبى لكم أيّها الفقراء، لأنّ لكم ملكوت الله. طوبى لكم أيّها الجياع الآن لأنّكم سوف تشبعون. طوبى لكم أيّها الباكون الآن، لأنّكم سوف تضحكون". هذه الكلمات تقلب منطقنا الدّنيويّ وتدعونا إلى النّظر إلى الواقع بعيون جديدة، بنظرة الله، حتّى نتمكّن من رؤية ما وراء المظاهر والتّعرّف على الجمال حتّى وسط الضّعف والمعاناة.
يحتوي الجزء الثّاني من مقطع الإنجيل على كلمات قاسية ومنبّهة: ولكن ويل لكم أيّها الأغنياء، لأنّكم قد تلقّيتم عزاءكم، ويل لكم أيّها الشّباعى الآن، لأنّكم سوف تجوعون. ويل لكم أيّها الضّاحكون الآن لأنّكم سوف تحزنون وتبكون. إنّ التّناقض بين "طوبى لكم" و"ويل لكم" يذكّرنا بأهمّيّة التّمييز حيث نجد أمننا."
وتوجّه البابا في عظته إلى الحاضرين في البازيليك الفاتيكانيّة وقال لهم: "كفنّانين وممثّلين عن عالم الثّقافة، أنتم مدعوّون لأن تكونوا شهودًا على الرّؤية الثّوريّة للتّطويبات. مهمّتكم ليست فقط لخلق الجمال، ولكن للكشف عن الحقيقة والخير والجمال المخبّأ في طيّات التّاريخ، ولإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، لتحويل الألم إلى رجاء.
إنّنا نعيش في زمن الأزمات الماليّة والاجتماعيّة المعقّدة، لكن أزمتنا هي قبل كلّ شيء أزمة روحيّة، أزمة معنى. دعونا نطرح على أنفسنا أسئلة حول الوقت والمسار. أنحن حجّاج أم نتجوّل وحسب؟ هل رحلتنا لها وجهة، أم أنّنا نفتقر إلى أيّ وجهة؟ الفنّانون لديهم مهمّة مساعدة الإنسانيّة على عدم فقدان طريقها وأفق الرّجاء.
الرّجاء ليس سهلًا أو سطحيًّا أو مجرّدًا، إنّ الرّجاء الحقيقيّ متشابك في مآسي الوجود الإنسانيّ. ليس ملاذًا مريحًا، بل إنّه نار تحرق وتشعّ نورًا مثل كلمة الله. لذا فإنّ الفنّ الأصيل يعبّر دائمًا عن لقاء مع ما هو غامض، مع الجمال الّذي يفوقنا، مع الألم الّذي يسائلنا، مع الحقيقة الّتي تدعونا. وإلّا هناك الويلات، إذ إنّ الرّبّ صارم في ندائه هذا."
هذا وذكّرت عظة البابا بكلمات الشّاعر جيرارد مانلي هوبكنز، الّذي كتب أنّ "العالم مشحون بعظمة الله، وهي تبرق كلمعان الرّقائق المهزوزة". مهمّة الفنّان هي اكتشاف هذه العظمة الخفيّة والكشف عنها، ما يجعلها محسوسة لأعيننا وقلوبنا. كما أدرك الشّاعر نفسه "الصّدى الرّصاصيّ" و"الصّدى الذّهبيّ" في العالم. إنّ الفنّانين حسّاسون لهذه الأصداء، ومن خلال عملهم، ينخرطون في التّمييز حول الأصداء المختلفة لأحداث هذا العالم ويساعدون الآخرين على فعل الشّيء نفسه.
من هذا المنطلق فإنّ الرّجال والنّساء الّذين يمثّلون عالم الثّقافة مدعوّون لتقييم هذه الأصداء، وشرحها لنا وإظهار المسار الّذي يقودنا إليه. إمّا أنّها أغاني مغرية أو دعوات إلى إنسانيّتنا الحقيقيّة. ولا بدّ من تقديم نظرة ثاقبة للمساعدة في التّمييز بين ما يشبه "القشور المتناثرة بفعل الرّياح" وما هو صلب، "مثل الأشجار المزروعة عند مجاري المياه"، القادرة على أن تؤتي ثمارها.
أيّها الفنّانون الأعزّاء، أرى فيكم حرّاس الجمال الّذي يعرف كيف ينحني على جراحات عالمنا، وكيف يستمع إلى صرخة أولئك الفقراء والمتألّمين والجرحى والسّجناء والمضطهدين واللّاجئين. أرى فيكم حرّاس التّطويبات. إنّنا نعيش في زمن يتمّ فيه تشييد جدران جديدة، عندما تصبح الاختلافات ذريعة للانقسام بدلًا من فرصة للإثراء المتبادل. ولكنّكم، أيّها الرّجال والنّساء في عالم الثّقافة، مدعوّون إلى بناء الجسور، وإلى خلق مساحات للّقاء والحوار، وتنوير العقول وتدفئة القلوب. قد يقول البعض: ما الجدوى من الفنّ في عالم جريح؟ أليست هناك أمور أكثر إلحاحًا، وأكثر واقعيّة وأكثر ضرورة؟
الفنّ ليس ترفًا، لكنّه شيء تحتاجه الرّوح. إنّه ليس هربًا من الواقع، لكنّه مسؤوليّة ودعوة إلى العمل، إنّه نداء وصرخة. والتّربية على الجمال الحقيقيّ هي تربية على الرّجاء. والرّجاء لا ينفصل أبدًا عن مآسي الوجود: إنّه يمرّ عبر نضالاتنا اليوميّة، ومصاعب الحياة وتحدّيات عصرنا.
في الإنجيل الّذي سمعناه اليوم، يقول يسوع: طوبى للفقراء والمتألّمين والودعاء والمضطهدين. إنّه قلب للمنطق وثورة في المنظور. والفنّ مدعوّ للمشاركة في هذه الثّورة، كما أنّ العالم يحتاج إلى فنّانين نبويّين وإلى مثقّفين شجعان ومبدعين للثّقافة."
في ختام العظة، طلب البابا من الفنّانين أن يتركوا إنجيل التّطويبات يرشدهم، وتمنّى أن يكون فنّهم إعلانًا لعالم جديد، آملًا أن يُظهر ذلك شعرُهم، وشجّع الجميع على عدم التّوقّف عن البحث وعن طرح التّساؤلات وعن المجازفة. وكتب فرنسيس أنّ "الفنّ الحقيقيّ ليس أبدًا أمرًا مريحًا إذ يوفّر سلام الأرق." وذكّر بأنّ "الرّجاء ليس وهمًا وبأنّ الجمال ليس يوتوبيا"، وإختتم مؤكّدًا أنّ "موهبتهم ليست بفعل الصّدفة، لكنّها دعوة لا بدّ من التّجاوب معها بسخاء وشغف ومحبّة."