الأراضي المقدّسة
29 كانون الأول 2022, 12:50

هذا ما تعلّمنا إيّاه مريم العذراء أمّ الله!

تيلي لوميار/ نورسات
عشيّة الاحتفال بسيّدتنا مريم العذراء أمّ الله، في الأوّل من ك1 ديسمبر، تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بحياة مريم على ضوء إنجيل لوقا ٢: ١٦-٢١، وما تعلّمنا إيّاه، فيقول بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ:

"إحتفلنا قبل أيّام بميلاد سيّدنا يسوع المسيح، وتذكّرنا ما حدث في التّاريخ لمّا اتّخذ كلمة الله جسدًا مثل جسدنا.

والآن نتابع احتفالنا بعيد الميلاد لأنّه حدث لا يتوقّف، بل هو حدث دائم فاعل فينا. كلمة الله يولد دائمًا وينمو ويوجد في حياة كلّ مسيحيّ، بل كلّ إنسان، في سرِّ الله الّذي لا يُدرَك. ميلاد يسوع فينا ليس حدثًا يحدث في لحظة: إنّه مسيرة طويلة، يتطلّب زمنًا وصبرًا، وينفذ في أعماقنا شيئًا فشيئًا حتّى يشمل كلّ كياننا.

إنجيل اليوم يقدّم لنا لمحة من حياة مريم في روحها، والطّريقة الّتي تعلَّمت بها أن تقف كلّ يوم أمام سرّ هذا الطّفل الإلهيّ، الّذي صار ابنها. يقول لنا القدّيس لوقا إنّ الرّعاة، بعد أن وجدوا العلامة الّتي أنبأهم بها الملائكة، روَوْا "ما قيل لهم عن الولد" (لوقا ٢: ١٧). تعجَّبوا ممّا حدث: أمامهم بكلّ بساطة طفل صغير مثل كلّ الأطفال، وُلِدَ في ظروف أصعب من ظروفهم. وعَرفوا أنّ ولادته رافقها ظهور سماويّ وأحداث عجيبة.

السّرّ يتقدَّمُنا، ويفوقنا ويفاجئنا دائمًا. وفيه دائمًا شيء لا نعرفه من قبل، جديد، لا يُفهَم مباشرَةً. أمام الجديد في هذا السّرّ، يقول الإنجيليّ "إنّ مريم كانت تحفظ كلّ ذلك الكلام وتتأمّل فيه في قلبها" (لوقا ٢: ١٩). هذا موقف مريم العاديّ من الحياة، أمام الله. كما جاء في رواية نهاية أحداث الطّفولة، في حادثة فقدان يسوع في الهيكل: كان يسوع عمره اثنتي عشرة سنة، ضاع، ثمّ وجدوه في الهيكل في القدس. إستخدم لوقا عبارة شبيهة ليصف موقف مريم: "كانت أمّه تحفظ ذلك كلّه في قلبها" (لوقا ٢: ٥١).

في كلا المرّتين، مريم لا تفهم ماذا يحدث. في حادثة القدس، يقول الإنجيليّ بوضوح: "لم يفهما ما قال لهما" (لوقا ٢: ٥٠). أن تحفظ في قلبها هذا موقف إيجابيّ، وعمل في داخل النّفس. إنّه تفكير في الأمر، نعم، لكنّه أيضًا قبول لما يحدث، مع أنّ مريم لا تفهم كلّ ما يحدث. أسرع الرّعاة إلى المغارة، ورأَوْا وشهدوا، وأثاروا الدّهشة. إنّهم يعرفون. رأَوْا، ويَروُون ما رأَوْا. مريم صامتة. ومع ذلك، هذه قصّتها، وعلاقتها مع الطّفل، ربِّها وابنها. أعطت الحياة لمن هو الحياة. مرّت مريم قبل الآن باختبارات كثيرة مع سرّ الله. وحتّى الآن، هي لا ترى الواقع بكامله في كلّ ما حدث معها. إنّها تحفظ في قلبها فرح البشارة، والنّشيد الّذي تدفّق من قلبها عند لقائها مع أليصابات، واللّحظة الفريدة والمدهشة الّتي شعرت به لأوّل مرّة يتحرّك في أحشائها. ثمّ الأمر بالإحصاء، فتركت بيتها وذهبت في سفرة طويلة مع يوسف حتّى وصلت إلى بيت لحم، حيث لم يكن لهم مكان، والولادة في المغارة... كم من الأسئلة راودت قلب فتاة النّاصرة وذهنها. "أمّا مريم فكانت تحفظ كلّ هذه الأمور وتفكّر فيها في قلبها".

حفظت وأكثر من ذلك، تركت الزّمن يكشف لها ما حدث معها. حفظت ليزداد القلب فهمًا، القلب المصغي إلى صمت الله.

قبلت مريم أن تعطي الحياة فيها، أن تفسح في ذاتها مكانًا لآخر، أن تستقبل الحياة القادمة، من دون أن تكون هي المالكة. قبلت مريم أن يكون ابنها هذا هو ابن الله: قبلت أن تكون الحياة فيها غير ما توقّعت وطلبت. ظلّت واثقة بالله، وظلّت تنتظر أن يحمل هذا السّرّ ثمرًا، وسيكون الخلاص هو ثمرته.

كانت تحفظ في قلبها، يعني كانت تتذكّر، ولا تنسى شيئًا ممّا حدث، ولم تفكِّر قط أنّ شيئًا ممَّا حدث، لا معنى له.

أن تحفظ في قلبها، يعني أنّ الإيمان ليس عمل لحظة عابرة، ولو كان عملًا بطوليًّا، بل هو عمل عاديّ ويوميّ في ذهن من يؤمن أنّ في الحياة ما بعد الحياة. أنّ هذه الحياة ليست فقط ما نراه بعيوننا.

نحفظ في قلبنا ما هو أكبر بكثير من قلبنا، وأحيانًا ما هو غير واضح، لكنّنا نحفظ أيضًا ما هو ضعيف وهشّ، ويحتاج إلى عناية واهتمام أكبر.

حضور يسوع هو هذا، ليس امتلاكًا، ليس جوابًا واضحًا، بل هو سؤال، بذرة تنمو شيئًا فشيئًا حتّى تدرك مِلءَ نمُوِّها. ولهذا تحتاج إلى عناية خاصّة. إلى أن نجد أخيرًا بين يدينا شيئًا ثمينًا جدًّا.

هَشٌّ ضعيف مثل طفل، ثمين مثل الابن.

أمام السّرّ يمكن أن نتّخذ عدّة مواقف: يمكن أن ننكره (كما فعل هيرودس الّذي ارتعب أمام السّرّ، وحاول أن يقتل يسوع). يمكن أن نتجاهله (مثل رؤساء وكبار الشّعب، الّذين سمعوا بميلاد يسوع في بيت لحم، ولم يسعوا للبحث عنه). ويمكن أن نحاول أن نفهم، لكنّا نحصره في ما نعرف ونفهم، في بعض الأطر الّتي تطمئننا (هذا ما سيصنعه الفرّيسيّون ورؤساء الشّعب). ويمكن أن نفقده على الطّريق. أو يمكن أن نحفظه.

سيتكلّم يسوع في ما بعد عن الطّرق المختلقة لاستقبال السّرّ، في مثل الزّارع والأرض (لوقا ٨: ٤-١٥). سنكتشف في المثل أنّ الأرض الطّيّبة، ليست كذلك لأنّها أفضل من غيرها، لكنّها طيّبة لأنّها قادرة على حفظ الزّرع. هي الثّبات اليوميّ المتواضع الّذي يسمح للبذرة بأن تموت ثمّ تولد من جديد وتعطي ثمرًا.

إحدى طرق الحفظ هو المشاركة: الحفظ في القلب لا يعني أن نُخفِيَ في القلب (مثل الوزنة الّتي دفنها صاحبها في التّراب)، ولا أن نتمسّك بها بشدّة لنفسنا. الحفظ هو في هذه المفارقة: هو في العطاء والمشاركة. هكذا فقط يصل الإنسان إلى أن يُعطَى الرّؤية الّتي تسمح له أخيرًا بالدّخول في السّرّ، وأن يفهم لا بمجهود عقله البشريّ، بل بحياة تصبح هي نفسها سرًّا.

السّنة الّتي تبدأ أمامنا، لا شكّ أنّها تحمل سرًّا. يعود لنا أن نعرف كيف نحفظه كما صنعت مريم مع ابنها، فننتظر نحن أيضًا أن تكشف لنا كلّ حادثة في حياتنا وتكمِّل سرّ الحياة والخلاص الّذي نحمله."