الفاتيكان
26 كانون الثاني 2024, 12:15

هذا ما أوصى به البابا فرنسيس قضاة وموظّفي محكمة الرّوتا مع افتتاح السّنة القضائيّة!

تيلي لوميار/ نورسات
مع افتتاح السّنة القضائيّة، أوصى البابا فرنسيس قضاة وموظّفي محكمة الرّوتا بالطّاعة للرّوح القدس والاستعداد ليكونوا صانعي عدالة في جميع الظّروف، وذلك خلال استقبالهم صباح الخميس في الكرسيّ الرّسوليّ.

توصية البابا هذه أتت في كلمة ألقاها على مسامعهم قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "أودّ اليوم أن أتأمّل معكم في جانب مهمّ من هذه الخدمة، وهو الجانب الّذي رجعت إليه كثيرًا، حتّى من خلال سلسلة من التّعليم المسيحيّ، وهو موضوع التّمييز. أنوي أن أركّز على هذا التّمييز المحدّد الّذي عليكم أن تقوموا به في سياق الدّعاوى الزّوجيّة، فيما يتعلّق بوجود أو عدم وجود أسباب إعلان بطلان الزّواج.

إنّه موضوع آنيٌّ على الدّوام، ويهمُّ أيضًا مجال الإصلاح المطبق في عمليّات بطلان الزّواج وكذلك في رعويّة العائلة، المستوحاة من الرّحمة تجاه المؤمنين الّذين يعيشون في حالات إشكاليّة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ إلغاء شرط العقوبة المزدوجة في حالات البطلان، وإدخال الدّعوى الأقصر أمام أسقف الأبرشيّة، فضلاً عن الجهود المبذولة لتبسيط عمل المحاكم وجعله أكثر سهولة، جميع هذه الأمور، لا يجب أن يساء فهمها أبدًا ولا يجب أن تغيب الضّرورة لتقديم خدمة للمؤمنين تساعدهم على فهم حقيقة زواجهم. وكما ذكرت في مقدّمة الإرادة الرّسوليّة Mitis iudex Dominus Iesus، فإنّ الهدف هو تعزيز "لا بطلان الزّواج، بل سرعة المحاكمات، بالبساطة الصّحيحة، لكي، وبسبب تأخّر تحديد الحكم، لا تُثقَّل بظلمة الشّكّ طويلاً قلوب المؤمنين الّذين ينتظرون توضيح حالاتهم". لذلك، وعلى خطى أسلافي، أردت "أن تتمَّ معالجة أسباب بطلان الزّواج بالسّبل القضائيّة، وليس الإداريّة، ليس لأنّ طبيعة الأمر تفرض ذلك، وإنّما لأنّ هذا ما تفرضه ضرورة حماية حقيقة الرّباط المقدّس: وهذا بالضّبط ما تكفله ضمانات النّظام القضائيّ".

في الوقت عينه، فإنّ تسليط الضّوء على أهمّيّة الرّحمة في رعويّة العائلة، كما فعلت بشكل خاصّ في الإرشاد الرّسوليّ "فرح الحبّ"، لا يقلّل من التزامنا بالسّعي إلى تحقيق العدالة فيما يتعلّق بأسباب البطلان. بل على العكس، لأنَّ التّمييز القضائيّ حول البطلان هو مهمّ جدًّا في ضوء الرّحمة تجاه الأشخاص وضمائرهم. فهو يملك قيمة رعويّة لا يمكن تعويضها، ويندرج بشكل متناغم مع الرّعاية الرّعويّة الواجبة للعائلات. فيتحقّق هكذا ما قاله القدّيس توما الأكوينيّ: "إنَّ الرّحمة لا تنزع العدالة، بل هي ملء العدالة". وكما تعلمون جيّدًا من خبرتكم، إنّ مهمّة الحكم ليست سهلة في كثير من الأحيان. وبلوغ اليقين الأخلاقيّ حول البطلان، والتّغلّب على افتراض الصّحّة في الحالة الملموسة، يعني استكمال التّمييز الّذي تطلبه الدّعوى برمّتها، ولاسيّما التّحقيق. يشكل هذا التّمييز مسؤوليّة كبيرة توكلها إليكم الكنيسة، لأنّه يؤثّر بقوّة على حياة الأشخاص والعائلات. وبالتّالي علينا أن نواجه هذه المهمّة بشجاعة ووضوح، ولكن من الأهمّيّة بمكان أوّلاً أن نعتمد على نور الرّوح القدس وقوّته. في الـ Adsumus، الابتهال الجميل للبارقليط الّذي يُتلى في اجتماعات محكمتكم تقولون: "نحن هنا أمامك، أيّها الرّوح القدس، مجتمعين باسمك. تعال إلينا، ساعدنا، انزل إلى قلوبنا. علّمنا ما يجب علينا فعله، وأظهر لنا الدّرب الّذي يجب أن نتبعه جميعًا معًا. لا تسمح لنا نحن الخطأة بأن ننتهك العدالة، ولا تسمح للجهل بأن يضلِّلنا، ولا تسمح للتّعاطف البشريّ بأن يجعلنا متحيّزين، لأنّنا واحد فيك ولا نحيد عن الحقّ في شيء". لنتذكّر هذا الأمر على الدّوام: إنَّ التّمييز يتمّ ونحن "جاثين"، طالبين عطيّة الرّوح القدس: بهذه الطّريقة فقط يمكننا التّوصّل إلى قرارات تسير في اتّجاه خير الأشخاص والجماعة الكنسيّة بأسرها.

من ثمّ تتطلّب موضوعيّة التّمييز القضائيّ أن نكون أحرارًا من أيّ تحيُّز، لصالح أو ضدّ إعلان البطلان. وهذا الأمر يعني أن نتحرّر من صرامة الّذين يدّعون اليقين المطلق، ومن الموقف المستوحى من الاعتقاد الخاطئ بأنّ الإجابة الأفضل هي البطلان على الدّوام، وهو ما سمّاه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني "خطر رحمة أُسيء فهمها [...]، تكون راعويّة في الظّاهر فقط". ويضيف "إنّ المسارات الّتي تنحرف عن العدالة والحقيقة تؤدّي في نهاية المطاف إلى المساهمة في إبعاد الأشخاص عن الله، والحصول على نتيجة عكسيّة لما كان يُطلب بحسن نيّة". إنَّ تمييز القاضي يتطلّب فضيلتين عظيمتين: الحكمة والعدالة، اللّتين ينبغي أن تكونا مبنيّتين على المحبّة. هناك علاقة وثيقة بين الحكمة والعدالة، لأنّ ممارسة الحكمة القانونيّة تهدف إلى معرفة ما هو صحيح في الحالة الملموسة. وبالتّالي، فهي حكمة لا تتعلّق بقرار تقديري، وإنّما بفعل إعلاني حول وجود أو عدم وجود خير الزّواج؛ ولذلك، على الحكمة القانونيّة أن تكون عادلة لكي تكون رعويّة حقًّا. إنّ التّمييز الصّحيح يتضمّن فعل محبّة رعويّة، حتّى عندما يكون الحكم سلبيًّا. إنّ تمييز صحّة الرّباط هو عمليّة معقّدة، لا يجب أن ننسى إزاءها أنّ تفسير القانون الكنسيّ يجب أن يتمّ في ضوء الحقيقة حول عدم انحلال الزّواج، الّتي تحفظها الكنيسة كحقيقة وتنشرها في تبشيرها ورسالتها. وكما علم البابا بندكتس السّادس عشر، "يجب أن يتمّ تفسير القانون الكنسيّ في الكنيسة. ولا يتعلّق الأمر بمجرّد ظرف خارجيّ وبيئيّ: بل هو تذكير بروح القانون الكنسيّ عينه والحقائق الّتي ينظّمها. وبالتّالي أن نشعر مع الكنيسة يأخذ معناه أيضًا في الانضباط، وذلك بسبب الأسس العقائديّة الموجودة على الدّوام والعاملة في القواعد القانونيّة للكنيسة.

أخيرًا، أودّ أن أذكّركم بأنّ التّمييز حول البطلان يُدعّم ويُضمن بكونه سينودسيًّا. عندما تكون المحكمة جماعيّة، كما هو الحال عادة، أو عندما يكون هناك قاض واحد لكنّه يتشاور مع المسؤولين، يتمّ التّمييز في مناخ من الحوار أو المناقشة، يكون فيه الصّراحة والإصغاء المتبادل أساسيَّين، من أجل بحث مشترك عن الحقيقة. وكما سبق أن قلت، من الأهمّيّة بمكان في هذه الخدمة أن نستدعي الرّوح القدس، بينما نسعى جاهدين لاستخدام جميع الوسائل البشريّة للتّأكّد من الحقيقة. ولهذا السّبب، من المهمّ أن يتمّ التّحقيق بعناية، لكي لا نصل إلى حكم متسرّع ومُسبَق، كما أنّه من الضّروريّ على القاضي، لكي يقوم بواجباته بشكل مناسب، أن يعزّز تنشئته المستمرّة من خلال دراسة القانون والعقيدة الشّرعيّة. تقع على عاتقكم، أيّها الأساقفة المستمعين، مسؤوليّة خاصّة في الحكم: لذلك أوصيكم بالطّاعة للرّوح القدس، والاستعداد لأن تكونوا صانعي عدالة في جميع الظّروف. أوكل عملكم إلى العذراء مريم الكلّيّة القداسة، وأبارككم من كلِّ قلبي ولا تنسوا من فضلكم أن تصلّوا من أجلي."