لبنان
20 أيلول 2017, 07:33

نذور في الرّهبانيّة الأنطونيّة

احتفلت الرّهبانيّة الأنطونيّة بالنّذور المؤّبدة للأختين سنتيا القسيس وجويل أسعد، وبلبس ثوب الابتداء للطّالبة اليسا عبدالله، وذلك يوم السبت الماضي في دير الأم مار ضومط بحضور حشد من الراهبات والرهبان والكهنة والأهل والأصدقاء.

 

وللمناسبة، ترأّس الرئيس العام الأباتي مارون أبو جوده الذّبيحة الإلهيّة الذي قال في عظته:

"شاءت العنايةُ الالهيّة أن أدشّنَ باكورةَ احتفالاتي بتكرّسٍ رهباني، مع أخواتِنا الراهباتِ الأنطونيّات، لأؤكّدَ لهنَّ أوّلا، لا التزامي والمجلس الجديد ما أرساهُ المجلسُ العام السابق وَحَسْب، بل حتميّةَ تاريخٍ مجيدٍ من التلاقي العميق في حشى الأنطونيّة، بين الرهبان والراهبات، يمتّنُ مشاعرَ الأخوّةِ وَرَوَابِطَها، ويَشُدُّنا بأسلاك المسيح المتينة إلى مواصلةِ مشاريعِ قداستِنا بشراكة الروح ومحبّةِ أبناءِ العائلةِ الواحدة. فنحنُ نعتبرُ ازدهارَ الراهبات ازدهارٌ للرهبان في الوقت عينه، والعكس أيضًا، والكلّ ُ كي تبقى شهادةُ الأنطونيّة، بذراعيها، ناصعةً أينما حلّت، ومتأصّلةً في صميمِ دعوتِها الخلاصيّة.
وبعد، منذ ستّ سنوات، أعلنت أختانا سينتيا وجويل نذورهما الموقّتة، وتمرّستا في الحياة الرهبانيّة، فاختَبَرَتا حلوَها ومرَّها، وعرفتا أنَّ على من أراد أن يتبعَ المسيح، أن يحملَ صليبَه كلَّ يوم، لا في مشهديّة حفلِ النذور فقط، ويتبَعَه. وبعد مسيرةٍ صادقة وتفحّص طاقةِ التجاوب مع نعمة الله والاتّكال على نفحِ روحه، بتفاعلٍ مع الجماعة، ها هما تعلنان اليوم، بكلِّ عزم وإيمان، تأكيدَهما على نهائيّة قرارِهما واختيارهِما، عالمتان أنّهما اختارتا الصليب، وإن كان جهالةً للأمم، في حين أنّه لهما ولنا قدرةُ الله، وهو سببُ تمجّدِ ابنِ الانسان. 
وإنّ أكثرَ ما يُحوج شعبَنا اليوم هو الشهادةُ على الأصالة، وصُدقيّةُ الحياة، بتطابقها مع الشعارات المرفوعة. إنّ وعي اختينا هذه الحاجة جعلهما تتأمّلان مليًّا لتكونا مستعدّتين استعدادًا صادقًا للالتزام بسخاء، وهذا دليل إضافي على النضج الإنساني والعاطفي الذي اكتسبتاه وتتطلّبه كلّ ديمومة عهد. 
إنّ من أولى اهتماماتِ الراهب والراهبة أن يُبقيا النبوءةَ في حياتهما، في المكان الأول، وأن يجعلا مسيرَتَهُما مناداةً بذاتها لاتّباع طريق الانجيل، وإن شاقًا، وأن يتّقيا خطرَ الانجرافِ إلى تسطيحِ حياتِهما بوقفها على الانشغالاتِ اليوميّة، وإلّا فقدا جاذبيّة الشهادة. نحن مدعوّونَ لأن نكونَ أنبياءَ يملّحون طعامَ العالم، وليس أشخاصًا ينزلقون في اليأسِ من دعوتهم، أو في تشويه معالِمِها عبر التشبّه بأنماط لا ترهّبَ فيها! علينا أن نتفحّص تعابيرَ هذه النبوءة. هذه التعابير، يجب أن تتجلّى أوّلًا في مواقِفِنا المحصّنةِ من مصاعبِ الحياة ومشقّاتها اليوميّة، لتكون لنا سلَّمَ ارتقاءٍ وانتصار، وفي تجليّات التفاعل في الحياة الجماعيّة، فنُسهمَ في بنائها، لا في زعزعتها أو في هدمها. إنّ النبوءة تكمنُ في الانتصارِ على التمجيدِ الذاتيّ والهوسِ بأنفسِنا، من خلال إخلاءِ الذاتِ الذي يحملنا إلى تقديمِ ذواتِنا بسخاءٍ على مثالِ المسيح.
أختانا العزيزتان، لا بدّ وأن يتعزّزَ البعدُ النبوي معكما، بما عُرفتما من صدقيّةٍ والتزامٍ وحبٍّ للمسيح، وغَيرةٍ على الرهبانيّة، فتكونان "نارًا تُشعل نارًا جديدة". أنتما ستقفان سدًّا منيعًا بوجه إغراءات المجتمع الاستهلاكي، والأسلوب الضارب ببعض القيم الأساس، وأمامَ حضارةِ الرخاء أو اللهثِ بالمناصب، فمن المهمّ أن نبقى جميعُنا كمكرّسين، في حالة تنشئة متواصلة على هذا الصعيد، وأن نملّي وقتَنا بالصلاة والنهلِ من الكتاب المقدّس كما جاء في دستور قداسةِ البابا فرنسيس الأخير للراهبات وعنوانُه "البحثُ عن وجهِ الله". فنحن الذين لنا "باكورة الروح"، نئنّ منتظرين التبنّي افتداءً. نئنّ، إنمّا في غمرة الرجاء الذي لا يُخزى. لأنّ الروح يعضدُ ضعفَنا.
فكيف لراهب أو راهبة أن يتفاجآ إذا واجَهَتْهُما مصاعب؟ أليس هذا ما نعلنه اليوم في هذه الرتبة؟ ما هو الجوهري في حياتهما؟ أليسَ أساسُ دعوتِنا هو الصليب، ونبوءةُ الصليب، وأن نشهد أمام العالم أنّنا نحمل صليبَنا حملًا، لا جرًّا، فلا نتململُ منه، ولا نرزحُ تحتَه. فلنسأل أنفُسَنا عن الجوهري الذي اتخذناه في حياتنا وعن الهمّ الأساس الواقعي في تَمَوْضُعنا؟ 
ففي هذه السنة التي تباشرُ فيها الدوائرُ الرومانيّة تفحّصَ مسيرةِ حياةِ المجدّدة، أمةِ الله، الأمّ إيزابيل خوري، نعود معها للسعي الى وسمِ حياتِنا بالجمع بين خدمةِ الجموع البشريّة، لا سيّما الضعيفة والمجروحة، من دون إغفالِ أو إهمالِ التمسّكِ الشديد بحيِّز ٍكافٍ من التأمّل والصلةِ المباشرة بشخصِ يسوع المسيح. فقد نادت الأم ايزابيل بمحبّة الفقير، وبالبساطة الانجيليّة، وبالروح العائليّةِ المطبوعة بالمحبّة والتضامن والغفران والفرح، فجاءت هذا الدير العريق بإرادة الرئيس العام الأباتي العراموني لتعزّزَ هذه الفضائل وتَنْشُرَها في المراكز التي أطلقت أخواتها إليها بسخاء وجرأة وإقدام. هذا الروح هو الشعلة التي يجدر بكنّ أخواتنا الأنطونيّات، أن تصونوها في معيوشكنَّ وتعزّزوها.

فإذ نكل الى الله أن يباركَ مساعينا، أهنّئ حضرةَ الرئيسة العامة الأمّ جوديت هارون والمدبّرات وكلّ الراهبات، وأؤكّد مواصلة صلواتي لأخواتنا سينتيا وجويل اللتين جاهرتا بنذورهما الرهبانية وإليسّا التي ارتدت ثوب الإبتداء، سائلًا لهن كلَّ نعم الله، لمسيرةِ تقدُّسٍ وخلاص، كما أحيّي أهلَهن والأقاربَ والأصدقاءَ والصديقات، الذين سينعمون بطبيعة الحال ببركةِ تكرّسهن، وبصلواتٍ يُقدّمنها على نيّتهم لخلاصهم. فإلى مزيد من الدعوات الصادقة. آمين."