نداء مجلس كنائس الشّرق الأوسط إلى كنائس العالم من أجل بيروت
"المسيح قام! هي صرخة المسيحيّين في الشّرق الأوسط المتواصلة منذ ألفي سنة للتّعبير في الوقت عينه عن إيمانهم وعن مواجهتهم للموت، العدوّ الأكبر للإنسانيّة والخليقة. فهذه المنطقة من العالم لم تعرف السّلام الحقيقيّ إلّا لفتراتٍ متقطّعة، وكانت في معظم الأحيان، بسبب حيويّتها الدّينيّة والثّقافيّة والتّجاريّة وبسبب وجودها في قلب العالم القديم، مَعبرًا ومكان لقاء ونقطة انطلاق، وفي الوقت عينه ساحةً للصّراعات والمواجهات. وها هي تعاني منذ نصف قرنٍ المعاناة الأعظم بسبب النّزاعات والحروب الدّائرة فيها، وبسبب استشراء العنف والتّطرّف والاستخفاف بالشّخص الإنسانيّ الظّاهر من خلال قتله واقتلاعه من أرضه وتهجيره والعبث بمصيره.
في الرّابع من آب 2020 وقعت الكارثة في بيروت وضربها الانفجار المجرم في العمق فألقاها في الظّلمة والدّمّ والوجع. نصفها اليوم مدمّر كليًّا ولها أكثر من 177 شهيدًا و30 مفقودًا وأكثر من مئة جريحٍ بحالٍ حرجة في العناية الفائقة وآلاف الجرحى بينهم الكثير من الشّبّان والشّابّات والأطفال... في بيروت اليوم أكثر من 300 ألف لبنانيّ هَجّرهم الانفجار والدّمار، فقدوا كلّ شيء: منازلهم، جيرانهم وأصدقاءهم، متاجرهم، مكاتبهم وشركاتهم، أبواب رزقهم، أحيائهم ومستقبل أولادهم. ثلاث مشافٍ كبرى والعديد من الكنائس والجوامع والمدارس والجامعات دُمّرت... الفراغ والفوضى والضّياع تسود الشّوارع، وقلوب النّاس لم تتمكّن بعد من استيعاب ما حصل. لقد هالت الفاجعة العالم بأسره وهزّت ضمائر كثيرة حتّى هبّت دول ومنظّمات لإغاثة هذه المدينة العريقة ونجدة أبنائها المنكوبين.
على الرّغم من مآسيها الكثيرة، لم تُغلق بيروت يومًا أبوابها أمام المهجّرين من فلسطينيّين وعراقيّين وسوريّين... وكانت فاتحةً ذراعيها لاستقبال الجميع حتّى صارت منتدىً عالميًّا للحضارة والفنّ والثّقافة والتّعليم والطّبابة والسّياحة على أنواعها. لقد عانت بيروت ولا تزال تعاني الكثير من الدّمار والتّهجير والإذلال، لكنّ تاريخها العظيم وتراثها الحضاريّ الغنيّ ونموذج العيش معًا بين أبنائها على اختلاف انتماءاتهم الدّينيّة والعرقيّة والسّياسيّة والفكريّة يذكّر بدعوتها الفريدة ورسالتها. بيروت ملتقى حضاراتٍ وملقى شعوب وموطن إلهامٍ وإبداع.
لا تخاف بيروت من الكوارث. إنّها تخاف من الّذين لا يحترمون مكانتها ورسالتها ويعبثون بكرامة الإنسان فيها. فما هكذا تُبنى الأوطان ولا هكذا تكون العناية بالمواطنين. ألم يكفي لبنان ما طاله من فسادٍ وسوء إدارة على مدى قرون حتّى بلغت ضائقته المادّيّة حال غير مسبوقة من الفقر والعوز؟ ألم يكفيه ما يعانيه من انسداد الأفق بسبب البطالة وانهيار مؤسّسات الدّولة والنّظام المصرفيّ ومن جائحة كورونا؟ إنّ الانفجار الأخير قضى على آخر أمنيات الشّعب اللّبنانيّ بإمكانيّة الخروج من الأزمة بدون مساعدة خارجيّة. اليوم بيروت بحاجةٍ ماسّة لجميع أصدقائها ومحبّيها.
بيروت تشكر جميع الّذين هبّوا لإغاثتها في محنتها، من كلّ أنحاء العالم. فالخسائر فيها فاقت التّوقّعات على مختلف الصّعد، الإنسانيّة والحضاريّة والمادّيّة والرّوحيّة... لا يكفي أن نعيد بناء الحجر، بل لا بدّ من إعادة بناء الإنسان الجريح بهول الشّرّ ونتائجه المدمّرة، ولا بدّ من إعادة اللُّحمة الاجتماعيّة بين أبناء بيروت وترميم الحياة والعيش معًا والفرح والأدب والفنّ في بيروت بعيدًا من المحاصصات السّياسيّة والتّعصّب الطّائفيّ، ولا بدّ من إعادة الشّعور بالأمن لمن صدمه الموت. لطالما وقف مجلس كنائس الشّرق الأوسط، منذ تأسيسه عام 1974، إلى جانب المظلومين والمعذّبين في هذه المنطقة، ضحايا الحروب والنّزاعات والمقايضات والسّياسات الفاشلة والكوارث الطّبيعيّة. وقد وقف إلى جانب بيروت أثناء وبعد الحرب الأهليّة (1975-1990)، أثناء وبعد الاجتياح الإسرائيليّ لجنوب لبنان العام 1982، وخلال وبعد حرب تمّوز العام 2006، وها هو اليوم أيضًا يقف إلى جانب البيروتيّين، ساعيًا بكلّ إمكاناته الإنسانيّة والمادّيّة، مستندًا إلى شركائه في العالم وإلى دعمهم الدّائم، ليّقدّم يد العون لهم.
لقد أطلق المجلس كعادته نداءً إلى كنائس العالم ومؤسّساتها الشّريكة والصّديقة لنجدة بيروت وأهلها. وهو يدعو الكنائس الأعضاء من كلّ بلدان الشّرق الأوسط إلى مساندة البيروتيّين وبلسمة جراحهم والتّضامن معهم ومعاونة رؤسائها الرّوحيّين فيها ليقوموا بواجبهم الإنسانيّ والأخلاقيّ والرّوحيّ. كما يدعو المجلس الدّول والمؤسّسات الدّوليّة وشعوب العالم كافّةً إلى مدّ يد المساعدة والدّفاع عن الأبرياء المنكوبين. إنّ كلّ لفتة مهما كانت بسيطة، وكلّ سخاءٍ مهما كان قليلاً، وكلّ كلمة حقّ ترتدي اليوم قيمةً إنسانيّة كبرى وتسهم في بناء رباطٍ أخويّ أقوى بين البشر.
يذكّر مجلس كنائس الشّرق الأوسط بالمبادئ الأساسيّة الّتي تعيد إلى بيروت رسالتها وإلى الإنسان فيه كرامته وحياته ويهيب بجميع المسؤولين إلى المساعدة في إرساء قواعد ثابتة لمناصرة الإنسان وقضاياه المحقّة في هذه المدينة:
1-كرامة الإنسان تعلو فوق كلّ المقامات والسّيادات لأنّه مخلوق على صورة الله ومثاله. وهذه الكرامة تعني بالدّرجة الأولى حرّيّة العيش والتّعبير والعبادة من دون المسّ بكرامة الآخرين.
2- أهمّيّة كشف الحقيقة ومعرفة ما جرى ومن يتحمّل المسؤوليّة كي لا تتكرّر المأساة هنا وهناك. وهذا حقّ بديهيّ لجميع الضّحايا ولجميع اللّبنانيّين وللرّأي العامّ في العالم كلّه. فما لم تظهر الحقيقة، يبقى الإنسان في خطر أن يفقد إنسانيّته وأن تفقد البشريّة معنى وجودها.
3- تأمين أدنى متطلّبات الكرامة الإنسانيّة الّتي تقوم على المقوّمات الضّروريّة التّالية: السّلامة والأمن، العمل والغذاء والدّواء والعلم... وكذلك تأمين الدّعم النّفسيّ والرّوحيّ للمصابين وذوي الضّحايا والمصدومين من جميع الفئات والأعمار لأنّ إعادة بناء الإنسان أساس الحياة المجتمعيّة.
4- صيانة الاختلاف في الرّأي والدّين وإدارة التّعدّديّة والتّنوّع إدارةً حكيمة وواعية لتجنّب المصادمات والاستقواء والظّلم الاجتماعيّ. هذا من الأمور الأساسيّة الّتي تحقّق المساواة في المواطنة والانتماء والّتي تعيد لبيروت صورتها كنموذج فريدٍ للعيش المشترك.
5- إعادة تأهيل مدروسة وسريعة للمباني المتضرّرة لاسيّما التّاريخية منها، الأمر الّذي سيسهم بالتّأكيد في المحافظة على النّسيج الاجتماعيّ لبيروت وبيئتها الثّقافيّة والأثريّة.
6- إقامة نظامٍ سياسيّ سليم في لبنان لا يعتمد الفساد وسيلةً للسّيطرة والحكم، ولا تفقير الشّعب وتجويعه وسيلةً لتكديس الثّروات، ولا العنف وسيلةً لإسكات المطالبين بحقوقهم المشروعة. فالحكم السّليم العادل أساس سياسة الدّول ورعاية الشّعوب. فالمطالبة بقيام الدّولة والحوكمة السّليمة أقلّ ما يمكن أن يطلبه المواطن الصّالح، وأن يُسائل فيه أولئك الّذين انتخبهم لإدارة بلاده وشؤونه.
وفيما يدعو مجلس كنائس الشّرق الأوسط إلى الصّلاة من أجل الضّحايا البريئة الّتي سقطت في بيروت، يطلب الصّلاة أيضًا كي لا تتكرّر هذه المآساة في أيّ منطقةٍ من العالم. والمجلس على يقينٍ بأنّ قيامة بيروت مسؤوليّة جميع أبنائها الّذين وحدهم يعرفون كيف يعيدون بنائها وفق رسالتها، كما فعلوا ذلك مرارًا وتكرارًا على مرّ التّاريخ. هي لهم وهمّ لها! صحيحٌ أنّ حجرًا ضخمًا قد أطبق على قلوب البيروتيّين وخنقهم، لكنّ ربّ الرّجاء قادرٌ أن يُدحرجه وأن يبلغ بهم إلى نور قيامته السّنيّ، وأن يبعث فيهم الرّجاء الّذي يحدوهم كلّ يوم على مواصلة صرخة إيمانهم، تصدرُ من أعماقهم إلى أن ينتصروا على كلّ أنواع الشّرّ والموت: المسيح قام!".