من يستطيع أن يعرف الآب؟
الجواب يكمن في الأسطر التّالية الّتي نشرها موقع بطريركيّة القدس للّاتين، والّتي فيها يقول بيتسابالا: "في مطلع إنجيل الأحد (متّى11: 25-30)، أودّ أن أستذكر معكم إنجيل الأحد الماضي وأن نعود خطوة إلى الوراء إلى "الخطاب التّبشيريّ"، حيث رأى (يسوع) الجموع فأخذته الشّفقة عليهم، لأنّهم كانوا تعبين رازحين (متّى 9: 36). لاحظنا أنّ النّاس كانوا متعبين ومرهقين لأنّه لا يوجد لديهم نقطة مرجعيّة، ودليل، وعلاقة من شأنها أن توفّر أسس الحياة والأمن.
حتّى اليوم نجد مثل هذه المصطلحات الّتي تشير إلى التّعب والإرهاق: يسوع يخاطب المرهقون والمثقلون (متّى 11: 28)، وكأنّه يريد أن يخبرنا أن تجربة الضّعف والتّعب هي جزء من الحياة اليوميّة، وهذه هي خبرتنا الشّخصيّة.
إنّ مصطلح الإرهاق، في الواقع، يتردّد في الكتاب المقدّس من بدايته: بعد الخطيئة، يلتقي الله بالإنسان مرّة أخرى ويحدّثه عن الإرهاق والألم (تكوين 3: 16-19) ، تجارب دخلت العالم في الوقت الحاليّ دقيقة حيث توقّف الإنسان عن الثّقة في الله؛ يمكننا أن نقول إنّ الإرهاق أصبح جزءًا من التّجربة البشريّة في اللّحظة الّتي لم يعد فيها الإنسان يعرف الله كأب، ودليل للطّريق، وأن نثق بحضوره فينا.
في الحقيقة: إذا كنّا لا نعرف الله كأب، تصبح الحياة متعبة، لأنّنا وحدنا وعلينا أن نبني حياتنا بمفردنا؛ نحن أيضًا متعبون ومرهقون مثل غنم لا راعي لها.
إلى كلّ النّاس، المرهقين والمتعبين، وجّه يسوع دعوته: تعالوا إليّ (مت 11: 28).
رسالته لا تنطبق على من هم أتباعه أو ليس لديهم مشاكل، أو فقط الّذين يستطيعون ذلك؛ بل إنّه لمن يختبر قسوة الحياة.
ماذا قدّم لهم يسوع؟ يكرّر مرّتين كلمة "الرّاحة" (متّى 11: 28-29): ولكن أيّ نوع من الرّاحة بحسب يسوع، الرّاحة الحقيقيّة للجسد والنّفس؟
حسنًا، يمكننا أن نقول إنّ الرّاحة الوحيدة الّتي يقدّمها يسوع هو معرفة الآب، تلك المعرفة المفقودة والمنسيّة والمختنقة والضّائعة بين مخاوف وأخطاء الحياة.
إذن ما هي الرّاحة الحقّة؟ التّعرّف على الآب.
يسوع وحده يمكن أن يقدّم لنا هذه الرّاحة، لأنّه وحده يعرف الآب (متّى 11: 27) وهو وحده يستطيع ويريد أن يعلن لنا ذلك.
يمثّل هذا المقطع في إنجيل متّى وقفة: حتّى الآن تحدّث يسوع، وقد أجرى الشّفاء والمعجزات، والتقى بالنّاس، ودعا تلاميذه؛ الآن في هذه المرحلة، توقّف يسوع وتفكّر في عمل الآب. إنّه يدرك أنّ كلّ ما يفعله ليس عمله، بل عمل الآب. يتأمّل يسوع في هذا العمل، ويتوقّف مندهشًا ليعجب بأسلوبه.
إدراكًا لأسلوب الآب، ومعرفة خطّته لخلاص العالم، هذا هو العمل الأوّل للابن، وأهمّ شيء يقوم به يسوع، والّذي يرغب في مشاركتنا به.
ما هو هذا الأسلوب؟
أوّل ما يميّز أسلوب الآب هو أنّه أعطى كلّ شيء للابن (متّى 11: 27).
الآب يعطي كلّ شيء، ولا يحتفظ بشيء لنفسه، ويضع نفسه بالكامل بين يد ابنه. إذا أرهقتنا الخطيئة لأنّها جعلتنا نفتكر أنّ الآب لا يعطينا كلّ ما لديه، على العكس من ذلك، فإنّ معرفة الآب تجلب لنا الرّاحة: الحياة هي هديّته، الّتي نثق بها.
تصبح معرفة الآب إذن تجربة محرّرة: لهذا السّبب يكون النّير خفيفًا (متّى 11: 30).
ومع ذلك، فهذه المعرفة ليست للجميع: بينما يجد الآب قبولًا كاملاً في الابن، فإنّ الآب بالنّسبة للبعض يبقى غامضًا. فالمتكبّر، والّذي لا يدرك تعبه وضعفه، لا يستطيع أن ينفتح على إعلان يسوع، فبالنّسبة لهم يظلّ الله غامضًا (متّى 11: 25).
ولكن من يستطيع أن يعرف الآب؟
يمكنه أن يعرف من، على مثل يسوع، يسمح لنفسه أن يعرفه أوّلاً (متّى 11: 27): آدم بعد خطيئته اختبأ، كان خائفًا من مقابلة الله والتّعرّف عليه، كان خائفًا من خطيئته. أعطهِ قلبك، أظهر ضعفك، آمن بمغفرته. النّير الخفيف الّذي يقدّمه لنا يسوع هو نيّر الاستقامة الحرّ والمتواضع، الّذي يعرف كيف يقف أمام الآب كأبناء يعرفون رحمته.
إنّ الوقوف أمام الآب بلا خوف، بثقة، دون إخفاء أيّ شيء عنه، ببساطة السّماح لنفسك بأنّ تكون محبوبًا، هذه هي الطّريقة لمعرفة الأب، لتجد الرّاحة.
أخيرًا، كلّ من يعرفه الآب، ويتعلم تدريجيًّا أن يعرفه ويثق به، يمكنه أن يحمدك ويباركك: "أحمدك يا أبتِ... هذا ما كان رضاك" (مت 11، 25- 26).
من يتعلّم أن يضع ثقته في الآب سيتعلّم أيضًا أن يعيش بثقة، دون أن يختبئ، وبالتّالي ستصبح أعباء الحياة فجأة "أخف وأكثر سلاسة"."