من تأمّلات البطريرك ساكو في آحاد البشارة
"مضى على هذه النصوص نحو ألفي سنة، لكنّها لا تزال تحتفظ إلى اليوم بقوّة معانيها الكاملة لكلٍّ منّا وللكنيسة.
الشريف ثاوفيلس (لوقا1/ 1-15)
تساعدنا الكلمات الأولى التي يَفتتح بها لوقا إنجيلَه على فهم الهدف من كتابته: "لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها [مبشرين]، رَأَيتُ أَنا أَيضًا، وقَد تقَصَّيتُها جَميعًا مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا ثاوفيلُسُ المُكرَّم، لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم" (لوقا 1/ 1-4). هذه الأحداث ليست خرافة إنّما حقيقة من نوع آخر، نقلها خدّام الكلمة الأوّلون مثل الإنجيليّ لوقا في هذه المقدّمة وكذلك في مقدمة سِفر أعمال الرسل(1/ 1-5) والرسالة الأولى ليوحنّا(1/ 1-4).
من الواضح أنّ لوقا يُشير إلى كلِّ إنسانة وإنسان منّا أحبّهم الله عبر ثاوفيلس الذي يعني أحبّه الله. فما علينا سوى أن نتعرّف على كلمات يسوع وحركاته وأفعاله، ونختبر في تفاصيل الحياة، صلابة التعليم المسيحيّ الذي تلقّيناه.
يُظهر لوقا أنّ مشروع الله "المخلِّص" بدأ بدخول يسوع تاريخ البشريّة. وبمقدور ثاوفيلس وأي قارئ أن يطّلع على ملء سرّ يسوع الذي يرسم لوقا ملامحه من خلال استعراض خدمته وتعليمه في الجليل، وفي أورشليم ومدن أخرى، وموته وقيامته.
لا يدّعي لوقا ترتيبًا زمنيًّا دقيقًا لحركات يسوع وكلماته ورُسله، كما يفعل المراسل الصحفيّ اليوم، إنّما ما يهدف إليه كلّه هو تغذية الإيمان عند المؤمنين، وترسيخ الرجاء والوحدة والفرح. هذه هي الرسالة التي يرغب لوقا، أن تنقلها الكنيسة اليوم في تبشيرها وليتورجيّتها.
من البداية، يدعو لوقا ثاوفيلس (ومعه نحن) إلى أن يختبر فرح البشارة من خلال قراءة إنجيله، مؤكّدًا أنّه على الرغم من الاضطهادات والصعوبات، ستكون الغلَبة له (ولنا) كما كانت ليسوع الذي أقامه الله من بين الأموات.
2- البشارة إلى زكريّا
باستعراض الأشخاص مثل زكريّا (الله قد ذكر) وأليصابات (الله قسم) والملاك جبرائيل (قوّة الله)، يدعو لوقا القارئ إلى العودة إلى الكتاب المقدّس (العهد القديم) والتأمّل في وعد الخلاص الذي يُعطي معنىً للحوادث التي يرويها.
حالة الزوجيْن من دون أطفال تذكّرنا بحالة إبراهيم وسارة. والكلام على يوحنّا قبل الكلام على يسوع تمهيدًا لدوره المستقبليّ. كذلك دور الهيكل مهمّ لأنّه مكان الصلاة. والظهور يحدث في الهيكل وقت الصلاة!
يرسم لوقا دور يوحنّا: "يَرُدُّ كَثيرين مِن بَني إِسرائيلَ إِلى الرَّبِّ إلهِهِم، ويَسيرُ أَمامَه، وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعبًا مُتأَهِّبًا"(1/ 16-17).
يُشير لوقا إلى أنّ الإنسان البارّ قد يشكّ، كما شكّت سارة التي ضحكت لبشرى الضيوف (تكوين 15 /8) وكما طلب زكريّا علامة حتّى يتأكّد من أنّ ما سمعه سيتحقّق! في حين آمنت مريم بكلام الملاك، لكنّها تساءلت عن كيف سيتمّ؟
إليصابات تلعب هنا دورًا ثانويًّا، لكنّها لم تتوقّف أبدًا عن التعرّف على عمل الله "وَكانت تَقولُ في نَفسِها: هذا ما صنَعَ الرَّبُّ إلَيَّ يَومَ نَظَرَ إِلَيَّ لِيُزيلَ عَنِّي العارَ من بَينَ النَّاس" (لوقا 1/ 25).
لنتعلّم من هذه القراءات فنّ الإصغاء الداخليّ إلى كلمة الله، وتمييزها وتطبيقها بامتنان وبساطة وطاعة. عندها، يحصل التغيير (المعجزة).
لندع صوت الله يكلّم قلوبنا فنفهم بوضوح ما يريد أن يقوله لنا".