مصر
17 تشرين الثاني 2020, 14:50

ما هي صلاة الأبانا؟

تيلي لوميار/ نورسات
"يا ربّ علّمنا أن نُصلّي كما علّمَ يوحنّا تلاميذَه، فقال لهم يسوع: إذا صلِّيتُم فقولوا: "أبانا الّذي في السّماوات""، هذا ما سأله أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك كريكور أوغسطينوس كوسا متأمّلاً بصلاة الأبانا، فكتب نقلاً عن "المكتب الإعلاميّ الكاثوليكيّ بمصر":

""أبانا"، هي الصّلاة الرّبّيّة، الّتي علّمنا إيّاها يسوع ونُردِّدَها في بداية صلاة الفرض الإلهيّ، وفِي بداية كلّ سرّ من أسرار الكنيسة المقدّسة .

هي الصّلاة الّتي نُصلّيها جهرًا مع جماعة المؤمنيين في الكنيسة أو مع العائلة في البيت، وسِرًّا في صلواتنا الشّخصيّة أو قبل بدء التّأمّلات الإنجيليّة أو غيرها .

صلاة "الأبانا"، ذلك النّداء الحميم والغنيّ بمعانيه الّذي يفتتح الرّبّ به قلبنا لنتكلّم معه ونناجيه ونطلب منه ما نحتاج إليه لحياتنا الأرضيّة والسّماويّة .

لقد تنازل يسوع، ابن الله الوحيد المتجسّد من مريم العذراء، وسمح لنا بأن ننادي أباه: "أبانا"، لكي نكتشف عمق هذا النّداء الّذي يحمل كلّ حقيقة الله، ويبيّن لنا أسس علاقة البشر بعضهم ببعض .

إنّ بعض الآباء القدّيسين، كيوحنّا الذّهبيّ الفمّ و مكسيموس المعترف، وديونيسيوس الأريوباجي وغيرهم أطلقوا لفظة "أبانا" على الثّالوث القدّوس. فالنّداء، في قسمه الأوّل، يدلّ، آبائيًّا، على العلاقة الّتي تربط الله المثلّث الأقانيم، ويُدخلنا في عمق معرفته، لأنّ نداء "أبانا" لا يضعنا في خطّ عموديّ حصرًا، ولكن أفقيّ أيضًا، أيّ انّه لا يدلّنا على هذه العلاقة الثّالوثيّة أو يطلب منّا اعترافًا بأنّ الله هو أبو يسوع أزليًّا فحسب، بل أيضًا على كون الله هو أبو جميع البشر، وأنّ ارتباط البشر بعضهم ببعض هو، بيسوع المسيح، ارتباط أخويّ. يقول ثيودورس أسقف مصّيصة في مقدّمة شرحه الصّلاة الرّبّيّة: "لذلك عليكم أن تقدّموا ما يجب لا للآب فقط، بل عليكم أيضًا أن تسالموا بعضكم بعضًا أنتم الإخوة، وجميعكم في قبضة يد أبٍ واحد ."

ويؤكّد القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، في تعليقه على هذا الكلام، بقوله: "وعلاوةً على ذلك، يعلّمنا يسوع في الصّلاة الرّبّيّة، أن نجعل صلاتنا مشتركة، لمصلحة إخوتنا أيضًا . إذ لا يقول المؤمن: "أبي الّذي في السّموات"، بل "أبانا"، مقدّمًا تضرّعاته من أجل الجسد المشترك، غير ناظر أبدًا إلى مصلحته الخاصّة، بل إلى مصلحة قريبه في كلّ مكان."

يختصر هذان البعدان العموديّ والأفقيّ، كلّ الحياة المسيحيّة ومتطلّباتها. فالله الّذي يطلب "قلب" الإنسان يرفض رفضًا قاطعًا أن يختزل المسيحيّ البشر إخوته بالعِرق أو الطّبقة أو الجنس أو الدّين أو المذهب أو الثّقافة، أو أن يميّز بين البارّ والخاطئ، لأنّ كلّ إنسان، هو "صورة الله"، والله أعطى جميع البشر، بابنِهِ يسوع، نعمة البنوّة، أيّ وهبهم أن يصيروا "أبناء الله".

ولعلّ أعمق ما يذكّرنا به نداء "أبانا"، في سياق هذين البعدين، هو أنّ كلّ صلاة، في عمقها ومداها، هي صلاة جماعيّة، فالّذي يصلّي وحده في صومعته أو غرفته، في كنيسته أو بيته، هو يصلّي إلى الإله أبي الجميع، وبما أنّه عضو في الكنيسة الجامعة، عائلته الكبيرة، فالرّبّ يريد أن يعرف قيمة ارتباطه بإخوته وبكلّ إنسان في العالم، وأن يُفعّل إلتزامه وخدمته ومساعدته فلا يكون بعيدًا أو متفرّجًا، بل مندفعًا في خدمة القريب. هذا ما تدلّنا عليه صلاة "أبانا الّذي في السَّمَوات".

لا يريدنا الرّبّ يسوع، عندما نخاطب الله، أن نكلّمه بمنطق العهد القديم الّذي لم يخلُ من الاعتراف بحنان الله على أولاده"... أما هو أبوك الّذي خلقكَ، الّذي أبدعكَ وكوّنك؟ (تثنية 32: 6)، "هم شعبي حَقًّا، بَنُون لا يغدُرون بي" ( إشعيا 63: 8)، "والمتوَكّلون عليه سيفهمون الحقّ. والمؤمنون بمحبّتِهِ سَيُلازمنَهُ كقدّيسهِ ومُختاريِهِ، وتكونُ النِّعمَةُ والرّحمةُ لهم" (حكمة 3: 9)، "فكيف يُعَدُّون من أبناء الله، وحظُّهم من القدّيسين" (حكمة 5: 5). وذلك أنّ العهد الأوّل الّذي أعطي في سيناء يلد العبوديّة (غلاطية 4: 24)، وجميع الّذين أُخضعوا لشريعة النّاموس كانوا عبيدًا" وألغى شريعةَ الوصايا وما فيها من أحكام ليَخلُقَ في شخصهِ من هاتين الجماعتين، بعدما أوقع السَّلامَ بينهما، إنسانًا جديدًا ويُصلِحُ بينهما وبينَ الله وقد قَضَى على العداوةِ بصليبه، لتصيرا جسدًا واحِدًا.

جاء وبشَّركم بالسّلام أنتم الّذين كنتم أباعِد، وبشَّرَ بالسّلام الّذين كانوا أقارب، لأنَّ لنا بهِ جَميعًا سبيلًا إلى اللهِ في روحٍ واحد " (أفسس 2: 15- 18)، بل أن نعرف أو أن نقبل أن يقودنا روح الله إلى معرفة كوننا "أبناء الله" المدلّلين، وأن ننادي الله بالطّريقة عينها الّتي كان يلفظها الأطفال الآراميّون فيما كانوا يتدلّلون على آبائهم: "أبّا" (أو كما نقول بلغتنا: "بابا").

لقد نقلنا يسوع الّذي يحقّ له وحده أن يخاطب أباه ببساطة كلّيّة وألفة حميمة "يا أبتِ" (متّى 26: 39)، بنعمة روحه القدّوس، من حالة الخوف والبعد والجهل، وقرّبنا من الله أبيه، وأعطانا أن نناديه بجرأة الأطفال: "بابا". وهذا ما أكّده أحد آباء الكنيسة في القرن الخامس تعليقًا على ما قاله الرّسول بولس في رسالته إلى كنيسة رومة، وهو: لأنّكم "لم تتلقّوا روح عبوديّة لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّا، يا أبتِ وهذا الرّوح نفسه يشهد مع أرواحنا بأنّنا أبناءُ الله" (رومة 8: 15- 17)، إذ قال: "حين أضاف الرّسول لفظة "أبّا" علّمنا معنى الثّقة الّتي يتّصف بها أولئك الّذين اعتادوا أن ينادوا الله هكذا. وفي الواقع، الأولاد وحدهم يتعاملون مع آبائهم بحرّيّة كبيرة، فيستخدمون غالبًا هذه اللّفظة في التّحدّث إليهم."

عندما نصلّي صلاة الـ"أبانا"، يجب أن نُفكّر في وحدةِ الحياة الّتي لنا مع الله في المسيح يسوع بالرّوح القُدس، وأن نفكّر دائمًا في أنّ هذه الصّلاة لا تكون صلاةً حَقيقيّة صادقة ما لم نسمح للرّوح الّذي حلّ في قلوبنا، أن يفيض فينا المحبّة الحقّ للبشر جميعًا، ونقبل أن نكون أداة الشّهادة الّتي ينيرها هو أيّ "الرّوح" ويقودها في العالم" لأنَّ محبَّةَ اللهِ أُفيضَت في قلوبِنا بالرّوحِ القدوسِ الّذي وُهِبَ لنا" (رومة 5: 5)."