ما هو الرّجاء الأكبر الّذي علينا أن نغذّيه في هذه السّنة اليوبيليّة؟
قبل أن يُتمّ رحلته الأخيرة من هذا العالم إلى الآب، التقى يسوع تلاميذه وترك لهم بعض التّوجيهات لكي لا يقَعوا في متلازمة الهجر. لقد "أظهر لهم نفسه حيًّا بعد آلامه بكثير من الأدلّة، إذ تراءى لهم مدّة أربعين يومًا، وكلّمهم على ملكوت الله". ومن بين هذه "الأدلَّة"، الّتي يحتاجها يسوع لكي يتمكّن من توديع تلاميذه، يحتفظ إنجيل يوحنّا بواحد نستحقّ أن ننظر إليه عن كثب. إنّه اللّقاء الشّهير بين يسوع ومريم المجدليّة في حديقة القيامة، وهو موضوع قد نال إعجاب الوعّاظ والرّسّامين في كلّ زمان. في كلمات الحرّيّة وفي أعمال المحبّة الّتي قام بها المسيح، اختبرت مريم شفاءً داخليًّا عميقًا وكاملًا، كما يلاحظ الإنجيليّ لوقا بقوله إنّه "كان قد خرج منها سبعة شياطين". ولهذا كانت تتبعه، مع نساء أخريات والتّلاميذ، وتخدمه بما تملكه من مال. والآن، أمام القبر الفارغ، الخالي من جسد الرّبّ المحبوب، لا يمكن لمريم إلّا أن تبكي كلّ الفراغ الّذي تشعر به في داخلها.
عند الاستماع إلى حوار مريم، أوّلًا مع الملائكة في القبر ثمّ مع يسوع الّذي كان يقف خلفها، نفهم أنّ بحثها كان لا يزال يوجّهه الخوف من الموت. فقد كانت مريم تريد أن تجد الجثمان، لكي يُسمَح لها أن تعيش على ذكرى ما اختبرته مع يسوع. فبالنّسبة لها، لم يكن مهمًّا كثيرًا إن كان يسوع حيًّا أو ميتًا، ما يهمّها أكثر هو أن تستعيد جسده لكي تُحنّط ذكرى الحبّ. عندما نكون في حالة من الحزن واليأس، يكفينا حتّى جثمان الحبّ، لكي نبقى منغلقين في ألمنا الّذي لا ينطفئ. ونحن أيضًا نتصرّف على هذا النّحو في الأحزان الّتي نمرّ بها خلال رحلة الحياة. نُكدّس الذّكريات، نُقيم المذابح، ونصنع طقوسًا، في محاولة لعدم فقدان حضور الشّخص المحبوب– على الأقلّ في القلب– رغم غيابه عن أعيننا. وكلّ هذا، إلى حدّ معيّن، هو مشروع وضروريّ: فهو يعبّر عن القيمة الّتي تمثّلها لنا حياة الآخر، حتّى عندما لا يكون حاضرًا. ولكن هذا الميل إلى تحنيط الغائب يمكن أن يتحوّل أيضًا إلى مرض يصيب قلبنا بشدّة، فيمنعنا من ذلك الانفتاح– المؤلم والضّروريّ في الوقت عينه– والّذي نُدعى إليه بعد كلّ فُراق.
يكفي يسوع كلمة واحدة لكي يُخرج مريم من القبر الدّاخليّ الّذي كانت لا تزال فيه. بحدس رائع، يلاحظ الإنجيليّ يوحنّا أنّ مريم يجب أن تلتفت مرّة أخرى قبل أن تتعرّف إلى الرّبّ الّذي كان أمامها. وسرّ هذا التّحوّل الأخير– تحوّل القلب– الّذي كان يجبّ على مريم أن تقوم به، مرتبط بتبادل الأسماء اللّافت الّذي حدث بينها وبين الرّبّ: "يا مريم"، "ربوني!". لم تتعرّف مريم على يسوع لأنّها رأت وجهه أو سمعت صوته، بل لأنّها شعرت– مرّة أخرى– بأنّ الله يدعوها إلى رجاء حياة. هذا هو الارتداد النّهائيّ الّذي تريدنا القيامة أن تقودنا إليه: انتفاضة قلب لا يستسلم بالبقاء منغلقًا في الحزن، بل يسمح لقلب الآخر بأن يُحدِّده مجدّدًا. لقد كان هذا، ولا يزال، السّبيل الوحيد للقاء شخصيّ مع كلمة الله المتجسّد، قبل وبعد فصح قيامته: أن نسمع من ينادينا باسمنا وننظر إلى وجهه.
إنَّ الإنجيل لا يروي لنا بأيّ حركات جسديّة رافقت مريم صيحتها الفَرِحة في التّعرّف على الرّبّ القائم من بين الأموات. ولكنّ قرّاء كلّ عصر عرفوا كيف يملأون هذا الفراغ السّرديّ، من خلال التّأمّل في كلمات يسوع الّتي أجاب بها مريم وودّعها. وبالتّالي فإنّ عبارة "لا تمسكيني" (Noli me tangere) الشّهيرة، الّتي كانت مصدر إلهام لا ينضب في تاريخ الفنّ، تُشكّل آخر تجربة يجب على القيامة أن تُحرّرنا منها. لقد خرجت مريم، في عمق اللّيل، لكي تأخذ جسد يسوع، لكنّها الآن تودّ أن تُثابر في مشروعها، من خلال الإمساك بالحياة الّتي قامت من بين الأموات واحتجازها. ولكن، لماذا؟ ما هي نيّتها الخفيّة؟ إنَّ رغبة مريم تشبه رغبة العروس في نشيد الأناشيد: أن تبلغ الحبيب، أن تُمسكه بقوّة وتقوده إلى بيت أمّها. ولكن ماذا يعني هذا كلّه، خارج حدود الاستعارة؟ يعني أنّ مريم كانت تكتفي بأن تعيش مجدّدًا اللّحظات الجميلة الّتي سبق أن شاركتها مع يسوع. لم تكن تتصوّر بعد الحداثة الجذريّة للحياة الّتي جاءت القيامة لكي تدشّنها. كان يكفيها أن تُرمّم حياتها السّابقة، بدلًا من أن تسمح بأن يتمَّ إدخالها إلى حياة جديدة كلّيًّا. وهذه هي التّجربة الأخيرة الكبرى الّتي قد نواجهها أمام فصح المسيح: أن نمنع قوّة روحه من أن تحوّلنا إلى خليقة جديدة. لكن يسوع يتصرّف بوضوح وحزم: بعد القيامة، لا يمكن الرّجوع إلى الوراء، إلى منطق الطّفولة، إلى بيت الأمّ. وإنّما علينا أن نسير إلى الأمام، نحو بيت الآب، بحسب منطق التّطويبات.
إذ صار مثلنا، لم يسلبنا ابن الله شيئًا، بل أعاد لنا المكان الّذي لم نعد نعرف كيف نحتلّه. ولذلك لا يُمكننا أن نبحث عن وجهه في صورة صنعناها له، بل في الفسحة الواسعة للإنسانيّة: إنسانيّتنا وإنسانيّة الآخرين. فالمعيار الحقيقيّ للإيمان بقيامته هو وجه الإخوة– لاسيّما الّذين، بسبب قربهم من محدوديّتنا وضعفنا، يصعب علينا، إن لم يكن يستحيل، أن نرى فيهم حضور الله في الواقع. إنَّ المسيح يدخل في سماء الله لكي يُظهر في التّاريخ علامة جسده السّرّيّة والعجيبة: نحن، من خلال العلاقات الّتي نعرف كيف ننسجها ونحفظها. وبالتّالي فالبصيرة الّتي أُعطيت لمريم المجدليّة تمتدّ لتشمل جميع التّلاميذ في لحظة صعود يسوع إلى السّماء. ولكي يُتمِّم هذا الابتعاد النّهائيّ عن العالم، أراد المسيح أن ينتظر أربعين يومًا، وهو زمن رمزيّ للتّجربة. وإذا كانت التّجربة الكبرى والأخيرة تتمثّل في احتجاز القائم من الموت في صورة جذّابة ومنوّمة، إلّا أنَّ المسيح فضّل أن يمكث مع تلاميذه بوداعة، لكي يترك لهم تعليمًا أخيرًا ضروريًّا. إنّ تثبيت النّظر إلى السّماء هو حركة جميلة جدًّا قادرة عليها إنسانيّتنا، وتدلّ على طبيعتنا الرّوحيّة. لكن رفع النّظر إلى العلى قد يكون أيضًا حركة خادعة وخطيرة، بها نحاول أن نسمو نحو مثاليّة– حتّى دينيّة– قد تخلّصنا من براثن الموت. لقد حاول الملائكة في الصّعود أن ينتشلوا الرّسل من هذا الافتتان الدّينيّ بسؤال جريء، يهدف إلى اختبار فهمهم للسّرّ الفصحيّ. فالمسيح لم يصعد إلى السّماء لكي يُجبرنا على حياة مثاليّة ومجرّدة، وإنّما لكي يسمح لنا بأن نجد حضوره ونختبر الحياة بحسب الإنجيل في كلّ زمان ومكان. فالأمر لا يتعلّق في أن نبحث عن الله في الأعالي، بل أن نتعرّف على مجد محبّته في الأمور الصّغيرة اليوميّة، وبالأخصّ في مفارقة الصّليب، حيث تتحقّق إنسانيّتنا في دعوتها إلى المحبّة.
أمّا الجزء الثّاني من الرّسالة الموجّهة إلى الرّسل فيجب أن يبعث في قلوبنا القشعريرة: علينا أن نخفض النّظر نحو الأرض، لأنّ يسوع سيعود بالطّريقة نفسها الّتي رآه بها البشر يصعد إلى السّماء. ولكن، ماذا يعني هذا بالضّبط؟ بأيّ طريقة؟ نحن مدعوّون لكي نعترف بأنّ هذا الشّكل الغامض لعودة المسيح لا يمكنه إلّا أن يشمل كلّ سرّه الفصحيّ: الآلام، الموت، والقيامة. فالقيامة هي بالفعل الطّريق الّتي من خلالها يُدعى أعضاء جسده– الكنيسة– لأن يظهروا في العالم. بعبارة أخرى، إنّ عودة المسيح المجيدة في نهاية الأزمنة تتقدّمها، في التّاريخ، شهادة أبناء الله الحيّة: رجال ونساء مدعوّون لكي يجعلوا وجهه شفّافًا، ويجسِّدوا محبّته، ويجعلوا سرّ مجيئه حاضرًا في العالم. إنَّ التّحوّل الجذريّ الّذي يولّده الصّعود لا يقلب فقط المفهوم الكونيّ، بل الوجوديّ أيضًا. فالمسيح يغادر مسرح التّاريخ ليفسح لنا– نحن الرّجال والنّساء الضّعفاء الصّغار– المجال لكي نصبح حضور الله الحيّ في الزّمان والمكان. إنَّ المعلّم يبتعد لكي يقود تلاميذه إلى أبعد من ذواتهم، خارج أسوار الأوهام وخيبات الأمل الخانقة، إلى حيث يمكنهم أن ينموا بصبر، في انسجام مع ذواتهم وتضامن مع إخوتهم. وهناك فقط يمكننا أن نُطيع دعوتنا بأن نصبح كاملين على الصّعيد الإنسانيّ، كما تذكّرنا الرّسالة إلى أهل أفسس: "فنصل بأجمعنا إلى وحدة الإيمان بابن الله ومعرفته ونصير الإنسان الرّاشد ونبلغ القامة الّتي توافق كمال المسيح".
إنّ صعود الرّبّ يُلغي كلّ شعور ممكن بالحسرة تجاه ما يبدو وكأنّه فراغ في السّلطة تركه الله في التّاريخ البشريّ. ففي عودته إلى الآب، أدركت الجماعة المسيحيّة الشّرط الضّروريّ للدّخول في شركة أعمق وأكثر حميميّة معه من خلال الرّوح، وهي شركة موجّهة للتّعبير عن نفسها في الشّهادة والخدمة للإخوّة. إنَّ الرّبّ يسوع قد رأى أنّه من المناسب أن يخفّف من قلق التّلاميذ أمام المهمّة الهائلة لإعلان إنجيله، فصاغ أمرًا موجّهًا بدقّة. ولذلك يُدعى الرُّسل للذّهاب إلى كلّ مكان لإعلان البشرى السّارّة، لا لكلّ البشر فقط، بل لكلّ الخليقة. وقد لا يكون هذا الجمهور الواسع، بالمقارنة مع فئة الكائنات الّتي خُلقت على صورة الله ومثاله، مجرد تنويع لغويّ. ففي تاريخ الكنيسة، لم تكن نادرة خبرات القدّيسين الّذين وجدوا أنفسهم يعلنون ملكوت الله للحيوانات، أو يقيمون معها علاقات خاصّة وعجيبة. يكفي أن نتذكّر عظة القدّيس فرنسيس للطّيور، أو القدّيس أنطونيوس للأسماك، أو القدّيسين الّذين يُصوَّرون تقليديًّا مع حيوان معيّن: القدّيس أنطونيوس والخنزير، القدّيس روميديو والدب، القدّيس فرنسيس والذّئب، القدّيس أوستاكيوس والغزال، القدّيس بندكتس والغراب، والقدّيس روكُز والكلب. لكن، لماذا حدثت هذه الظّواهر في التّاريخ؟ ما معنى وصيّة المسيح؟ وبأيّ معنى من المهمّ أن نوجّه إعلان الإنجيل للخليقة، وليس للبشر فقط؟ لأنّ صعود المسيح قد دشّن في الكون الخلق الجديد والنّهائيّ.
إذا قبلنا التّحدّي بأن نخاطب الآخرين أوّلًا ككائنات مخلوقة، فسيتوجّب علينا الاعتراف بجمالهم وصلاحهم، تمامًا كما نفعل حين نتأمّل زهرة أو نرتاح في ظلّ شجرة. فالخطوة الأولى الّتي يجب اتّخاذها هي أن نقدّم للآخرين هذا الاعتراف الأوّليّ بالقبول والمودّة، والّذي نحتاجه جميعًا كما نحتاج الهواء. لا بل يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك ونقول إنّنا، عندما ننجح في أن نرى في القريب قبل كلّ شيء كائنًا مخلوقًا– مثله مثلنا، غير مكتمل، هشّ، وغامض– تكون مهمّة إعلان ملكوت الله قد تمّت فعلًًا. لأنَّ أوّل ما يتوق إليه كلّ واحد منّا أن يتلقّاه، من الله ومن الّذين يتكلّمون باسمه، ليس الدّعوة لفعل شيء صالح أو مختلف، بل أن يُعترف به كما هو، بأنواره وظلاله. إنّ أسلوب الإعلان الّذي يطلبه يسوع من أصدقائه يوضح بشكل نهائيّ ما يهمّ الله: أن نعترف بحياة الآخر ونكرّمها، قبل أن نرجو أو نطلب تحوّله. وبالتّالي إذا أردنا أن نندفع بفرح إلى أقاصي الأرض، فنحن بحاجة إلى الشّجاعة لكي نبدأ زمن جديد ورائع من البشارة.
إنّ عطيّة الصّعود قد تركت للكنيسة وللعالم إرثًا فريدًا. ففي زمن أصبح فيه من الصّعب علينا أن ننسحب أو نترك المكان، مقتنعين أنّ وجودنا يجب أن يستمرّ بلا انقطاع، يُظهر لنا الرّبّ يسوع كم هو ثمين أن نعرف كيف نودّع ونبتعد، لكي نبقى في شركة أعمق وأصدق. إنّ تجربتنا الكبرى في الواقع هي في أن نرغب في احتواء الحياة داخل حدود ما عرفناه واختبرناه. لكن الحياة القائمة من الموت– والّتي هي أبديّة– لا يمكن تقييدها: لأنّها نبضة غير متوقّعة، ونسمة لا يمكن السّيطرة عليها، بل يمكن فقط أن نستسلم لها لكي نُتم حجّنا المقدّس من هذا العالم إلى الآب. ولكي لا تبقى هذه المسيرة مجرّد وهم، من الضّروريّ أن نأخذ على محمل الجدّ مسؤوليّة الشّهادة للإنجيل، حتّى عندما يُطلب منّا أن نموت عن ذواتنا لكي نُعطي أنفسنا للآخرين بشكل حرّ. إنّ الغياب الظّاهريّ لله عن مسرح التّاريخ هو، في الحقيقة، دعوة عظيمة موجّهة إلينا. فإذا كان الرّبّ قد صعد إلى السّماء، تبقى على الأرض أعضاء جسده: نحن، المدعوّون لكي نجسِّد الحقيقة الّتي يحملها الإنجيل ونشهد لها، بدون أن نقع في فخّ البطولات الفرديّة أو احتكار الرّسالة. وبالتّالي لم تعد السّماء والأرض متباعدَتين ولا منفصلَتين، بل صارتا متشابكَتين في تناغم غامض من الأفعال والكلمات القادرة على كشف ملء الزّمان للعالم.
ربّما يكون هذا هو الرّجاء الأكبر الّذي علينا أن نغذّيه في هذه السّنة اليوبيليّة: أن يتمكّن العالم، فيما تكرّر الكنيسة تصرّفات إيمانها وتقليدها، أن يرى فينا شيئًا جميلًا وجديدًا، قادرًا على أن يولِّد رعشة رجاء عالميّ. وأن نعود نحن المسيحيّين إلى أن نكون ما دُعينا إليه منذ البدء: رجالًا ونساءً، إذ يعبرون من باب محبّة المسيح الضّيّق، يصبحون شهودًا وميسّرين لإنسانيّة جديدة".