الفاتيكان
01 كانون الأول 2021, 12:50

ما هو الحبّ الّذي تكلّم عنه البابا فرنسيس اليوم والّذي يدعو إليه المخطوبين؟

تيلي لوميار/ نورسات
"نواصل مسيرتنا في التّأمُّل حول شخصيّة القدّيس يوسف. وأريد اليوم أن أعمّق كونه "بارًّا" و"خطّيب مريم"، وأن أُعطي هكذا رسالة إلى جميع الخطّيبين".

بهذه الكلمات استهلّ البابا فرنسيس اليوم تعليمه الأسبوعيّ حول شخصيّة القدّيس يوسف، خلال المقابلة العامّة في قاعة بولس السّادس في الفاتيكان، وتابع قائلاً بحسب "فاتيكان نيوز":

"تملأ العديد من الأحداث المتعلّقة بيوسف روايات الأناجيل المنحولة، أيّ الأناجيل غير القانونيّة، والّتي أثّرت أيضًا على الفنّ وأماكن العبادة المختلفة. وتجيب هذه الكتابات على الرّغبة في سدّ ثغرات السّرد في الأناجيل القانونيّة، الّتي تعطينا كلّ ما هو ضروريّ للإيمان والحياة المسيحيّة. يصف متّى الإنجيليّ يوسف بأنّه رجل "بارّ". لنستمع إلى روايته: "أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وكان يُوسُفُ زَوجُها بارًّا، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرًّا".

لكي نفهم تصرُّف يوسف تجاه مريم، من المفيد أن نتذكّر عادات الزّواج في إسرائيل القديمة. كان الزّواج يتضمّن مرحلتين محدّدتين بشكل واضح. الأولى كان بمثابة خطوبة رسميّة، وكانت تتضمّن وضعًا جديدًا: وبشكل خاصّ، كانت المرأة، على الرّغم من استمرارها في العيش في البيت الوالديّ لمدّة عام آخر، تُعتبر في الواقع "زوجة" للرّجل الّذي خطبها. أمّا الفصل الثّاني فكان انتقال العروس من بيت أبيها إلى بيت العريس. وكان ذلك يتمّ في موكب احتفاليّ يتمِّم الزّفاف. وبالتّالي ووفقًا لهذه العادات، فإنّ حقيقة "أنَّ مَريمَ لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا" كانت تُعرِّض العذراء مريم لاتّهام الزّنا. وهذه الخطيئة، وفقًا للشّريعة القديمة، كان عقابُها الرّجم. ولكن مع ذلك، في الممارسة اليهوديّة اللّاحقة، ترسّخ تفسير أكثر اعتدالًا كان يتطلَّبُ فقط فعل الطّلاق وإنّما مع عواقب مدنيّة وجنائيّة على المرأة.

يقول الإنجيل إنّ يوسف كان "بارًّا" لأنّه كان خاضعًا للشّريعة مثل أيّ إسرائيليّ تقيّ. لكن الحبّ الّذي كان يحمله في داخله لمريم والثّقة الّتي كانت لديه بها قد أوحيا له بطريقة تحفظ احترام الشّريعة وشرف العروس: عزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرًّا، بدون فضائح وبدون أن يعرِّضها للإذلال العلنيّ. لقد اختار درب السّرّيّة بدون محاكمة ولا انتقام. ولكن يضيف متّى الإنجيليّ على الفور: "وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابنًا فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم".

تدخَّل صوت الله في تمييز يوسف، وكشف له من خلال الحلم معنى أعظم من عدله. كم هو مهمٌّ أن ينمّي كلّ منّا حياة عادلة وأن نشعر في الوقت عينه على الدّوام بأنّنا معوزون لمساعدة الله! لكي نوسِّع آفاقنا ونأخذ بعين الاعتبار ظروف الحياة من وجهة نظر مختلفة وأوسع. كثيرًا ما نشعر بأنّنا سجناء لما حدث لنا؛ ولكن أمام بعض ظروف الحياة، الّتي تبدو لنا مأساويّة في البداية، تختبئ العناية الإلهيّة الّتي تأخذ شكلها مع الوقت وتنير بالمعنى حتّى الألم الّذي أصابنا. لكنّني أريد أن نتوقّف ونتأمّل في تفاصيل هذه القصّة الّتي يرويها الإنجيل والّتي غالبًا ما نغفل عنها. مريم ويوسف هما خطّيبان قد عزّزا ربّما أحلامًا وانتظارات حول حياتهما ومستقبلهما. ويبدو أنّ الله يدخل كحدث غير متوقّع في حياتهما، وعلى الرّغم من الجهد الأوّليّ، شرّع كلاهما قلبه على الواقع الّذي يمتدُّ أمامهما.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، كثيرًا ما لا تكون حياتنا كما نتخيّلها. لاسيّما في علاقات الحبّ والمودّة، نجد صعوبة في الانتقال من منطق الوقوع في الحبّ والهيام إلى منطق الحبّ النّاضج. تتميّز المرحلة الأولى دائمًا بسحر معيّن، يجعلنا نعيش منغمسين في خيال لا يتوافق غالبًا مع حقيقة الأحداث. ولكن عندما يبدو أنّ العشق مع توقّعاته قد انتهى، هناك يمكن للحبّ الحقيقيّ أن يبدأ. أن نُحبَّ في الواقع، لا يعني أن ندَّعي أن يتجاوب الآخر أو الحياة مع تصوّراتنا؛ وإنّما يعني أن نختار بحرّيّة تامّة أن نتحمّل مسؤوليّة الحياة كما تُقدَّم لنا. لهذا يعطينا القدّيس يوسف درسًا مهمًّا، فهو يختار مريم "بعينين مفتوحتين"، ويمكننا أن نقول أيضًا "مع جميع المخاطر". ومخاطرة يوسف تعلّمنا هذا الدّرس: أن نقبل الحياة كما تأتينا لأنّ الله قد تدخّل هناك. وبالتّالي فَعلَ يوسف كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه، على أَنَّه لم يَعرِفْها حتَّى ولَدَتِ ابنًا فسمَّاه يسوع. إنَّ المخطوبين المسيحيّين مدعوّون لكي يشهدوا لمثل هذا الحبّ، الّتي لديه الشّجاعة لينتقل من منطق الوقوع في الحبّ والهيام إلى منطق الحبّ النّاضج. إنّه خيار متطلّب لأنّه بدلاً من أن يحبس الحياة، يمكنه أن يقوّي الحبّ لكي يثبت ويستمرّ أمام محن الزّمن.

وهذه المرّة أيضًا نختتم بصلاة: أيّها القدّيس يوسف، أنت الّذي أحبَبتَ مريم بحرّيّة، واخترتَ أن تتخلّى عن الأوهام لكي تُفسح المجال للواقع، ساعد كلَّ فرد منّا لكي يسمح لله أن يفاجئه ويقبل الحياة لا كشيء غير متوقَّع عليه أن يدافع عن نفسه منه وإنّما كلُغزٍ يخفي سرَّ الفرح الحقيقيّ. إمنح جميع المخطوبين المسيحيّين الفرح والجذريّة فيحافظوا على الدّوام على اليقين بأنّ الرّحمة والمغفرة فقط يمكنهما أن يجعلا الحبّ ممكنًا. آمين!".