لبنان
29 نيسان 2020, 08:45

ما هو "الجرح المحيي سبعين مرّة سبع مرّات" الّذي تحدّث عنه المطران موسي؟

تيلي لوميار/ نورسات
في الذّكرى السّابعة لإطلاق العنوان "المطران بولس في مهمّة كنسيّة"، كتب متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما للرّوم الأرثوذكس سلوان موسي، تحت عنوان "الجرح المحيي سبعين مرّة سبع مرّات"، رسالة أبرشيّته جاء فيها:

"الجرح الّذي أصاب كنيستنا في الثّاني والعشرين من شهر نيسان من العام 2013 كان فريدًا للغاية. فخطف مطران حلب في ذلك اليوم شكّل منعطفًا في حياة أبرشيّته وكنيسته وأبعد منهما. كانت الأيّام الأولى تتميّز بمحاولة فهم ما جرى على الأرض ولكن دون تحقيق شيء يُذكر. لذا، منذ اليوم الخامس، أيّ في السّابع والعشرين من شهر نيسان من ذلك العام، حاولتُ أن أقارب المجريات بمنظار آخر والّذي جسّده هذا العنوان منذ ذلك الحين: "المطران بولس في مهمّة كنسيّة" غير منظورة.

كانت نيّتي حينها أن أقدّم زادًا وتعزية لأبناء الأبرشيّة الّتي خدمتُها ككاهن سنوات قليلة قبل انتخابي أسقفًا، سيّما وأنّها كانت حينها تحت الحصار والموت، وكان قد تشتّت عدد من أبنائها خارجها. وتبيّن لي سريعًا أنّ الأمر لا يخصّ فقط هذه الأبرشيّة بل الكنيسة كلّها، وباتت التّعزية مطلوبة من أجل الجميع. فاستحال هذا العنوان محطّة تأمّل دوريّ، أسبوعيّ في البداية، ثمّ شهريّ فسنويّ. وها نحن نقف اليوم أمام الذّكرى السّنويّة السّابعة لإطلاق "عنوان" رافق شهادة هذا الأسقف الحبيب، المستمرّة حتّى الآن، برجاء وسلام.

عندما تتحدّث عن جرح بليغ يدمي لسنوات، يخطر على بالك أنّك أمام حالة ميؤوسة أو قاتلة، لأنّ الجرح الّذي يبقى دون علاج مآله أن يفتك بصاحبه. لكنّ هذا الجرح بالذّات استحال شيئًا آخر بالكلّيّة. فقد ذكّرني بذلك الجرح، المميت في الظّاهر، والّذي تلقّاه السّيّد في جنبه، لكنّه ظهر ينبوع حياة، كما يشهد له يوحنّا الإنجيليّ: "أمّا يسوع فلمّا جاءوا إليه لم يكسروا ساقَيه، لأنّهم رأوه قد مات. لكنّ واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء" (يوحنّا 19: 33-34).

لستُ في وارد أن أفصّل الآن كيف هذا الجرح الّذي ولّده خطف هذا الأسقف هو نبع حياة، ولماذا خطر لي أن أدعوه "الجرح المحيي". يكفيني بالحقيقة في الوقت الحاضر الاطمئنان الّذي يرشح من مهمّته الكنسيّة، كما دلّ عليه العنوان. فالله يرعى شعبه ويرعى هذا الرّاعي الّذي استحال جرح الكنيسة المحيي.

وحتّى لا يسبّب جرح كهذا جراحًا مختلفة في نفوسنا تقضي على رجائنا بفعل ما أفرزته أو تفرزه فينا من مشاعر الأحداثُ حينها، أو طبيعةُ هذه "المهمّة الكنسيّة"، أو واقعُ الصّمت الحاليّ، وجدتُ نافذة معزّية لأطلّ منها على هذه الذّكرى السّابعة، بحيث يكون ثمرُ هذ التّعزية المصالحةَ بمعناها الإنجيليّ. هاكم ما ساعدني والّذي وجدتُه في الحوار الّذي حصل بين الرّبّ وبطرس عندما سأله هذا الأخير: "كم مرّة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرّات؟"، فكان جواب يسوع: "لا أقول لك إلى سبع مرّات، بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات" (متّى 18: 21-22).

بالحقيقة، وضعنا يسوع على سكّة المصالحة مع الله ومع ذواتنا وبين بعضنا، وجعلنا سفراءها بين أترابنا، خدّامًا لها ومعاونين نحمل لواءها من أجل خلاص البشر (رومية 5: 11؛ 2 كورنثوس 5: 18-19). ونحن نعيش اليوم هذا الغفران في غمرة الفصح، كثمرة لقيامة المسيح ومنحه الرّوح القدس لتلاميذه حتّى يغفروا للنّاس خطاياهم. ولقد حرّر يسوع هذه الحقيقة من أيّ قيد من حيث قدرتنا على الغفران، وذلك عندما ضرب السّبعة مرّات الّتي تحدّث عنها بطرس بسبعين، فبلغنا بذلك حدود الأبديّة واللّانهاية، حدود الآب الرّحيم (لوقا 6: 36).

فما علاقة هذا الكلام بهذه "المهمّة الكنسيّة"؟ هذا الأسقف هو خادم مميّز لهذه المصالحة بكافّة أبعادها، فهي تعنيه وتعني خدمته الرّسوليّة في الصّميم. ربّ قائل أن نتصالح مع هذا الجرح نفسه، أو أن نتصالح مع ذواتنا، أو بين بعضنا، أو مع الله الّذي أوجد مثل هذه الخبرة الفريدة في كنيسته. أَلعلّ المصالحة هي "العمل" بامتياز الّذي يمكنه أن يضيء على حقيقة هذا "الجرح المحيي"، ومعها على حقيقة هذه "المهمّة الكنسيّة" غير المنظورة؟ بفعل شهادة هذا السّقف المستمرّة في الكنيسة، خطر لي أن أستعير التّشبيه الذي أورده يسوع حول مدى المصالحة وصلاحيّتها لأصف به هذه المهمّة: إنّه "الجرح المحيي سبعين مرّة سبع مرّات". إنّه جرح لا يطاله فساد أو اهتراء، ولا يقضي على صاحبه بالنّسيان أو الاندثار مهما طال الصّمت، ولا يفقد من حيويّته وفاعليّته وامتداده وإن قلّ الشّهود.

"الجرح المحيي سبعين مرّة سبع مرّات" يعني أنّ "مهمّته الكنسيّة" شأن يغذّي الكنيسة، ويغذّيها بقوّة وفيض ونعمة. إنّه يغذّيها باستمرار ودون انقطاع. إنّه يغذّيها بفرح وعناية واقتدار.

هل بالغتُ في تصويري طبيعة هذه المهمّة الكنسيّة غير المنظورة ومفاعيلها؟ بالتّأكيد هذا رأي شخصيّ لا يلزم أحدًا، ولقد فهمتُ من خلاله مقدار صلاح الله وخيريّته حتّى في أحلك الظّروف، وكيف يمكنه أن يقلب نظرتنا للأحداث المؤلمة نفسها ويضعها في سياق عنايته وتدبيره من أجل خلاصنا، لا بل أن يقلب حتّى وجودنا بفعل هذه المصالحة وخبرتها فينا. فهل نتعجّب من أنّ مَن وضع نفسه في خدمة الرّبّ، مآله أن يخدمه حتّى في مهمّات فريدة كهذه؟

هلّا فرحنا بما تحمله إلينا هذه الذّكرى السّابعة من رجاء ونعمة بشأن "مهمّة المطران بولس الكنسيّة"؟ هلّا تعزّينا بما تحقّقه فينا وبيننا؟ هلّا شكرنا الرّبّ على عنايته هذه بنا؟ فلنحمد الله على ثمار قيامته الّتي يفيضها علينا حتّى في هذه الذّكرى. المسيح قام!".