ماذا يقول تواضروس الثّاني في عيد كاروز الدّيار المصريّة؟
وللمناسبة، توقّف البابا في عظة عند واقع مصر قبل مرقس البشير وبعده، فأشار بحسب "المتحدّث الرّسميّ بإسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة" إلى أنّه "قبل مجيء القدّيس مرقس، كانت مصر منطقة محتلّة عسكريًّا من قبل الإمبراطوريّة الرّومانيّة" الّتي كانت تحتلّ مساحات واسعة في العالم كلّه تقريبًا، فيما كان العام محتلًّا ثقافيًّا من قبل الإمبراطوريّة السّابقة اليونانيّة، مبرّرًا سبب إتقان المصريّين وقتها اللّغة اليونانيّة من بين لغات عديدة، "لغة العهد الجديد" و"اللّغة المشهورة في الإسكندريّة باعتبارها "مدينة كزموبوليتان" مدينة عالميّة شاملة كلّ الجنسيّات".
وأوضح بابا الأقباط أنّه "في هذا الزّمن جاء مار مرقس ليبشّر بالمسيحيّة"، وتابع عظته متأمّلاً بعبارة:" يا مرقس الرّسول والإنجيليّ والشّاهد لآلام الإله الوحيد الجنس، أتيت وأنرت لنا بإنجيلك وعلّمتنا الآب والابن والرّوح القدس وأخرجتنا من الظّلمة إلى النّور الحقيقيّ، وأطعمتنا خبز الحياة الّذي نزل من السّماء"، فقال:
أتأمّل معكم في هذه الكلمات الجميلة... مار مرقس كان رجلاً يهوديًّا من شمال أفريقيا من الخمس مدن الغربيّة، ولا يزال في ليبيا وادي مرقس ووادي الإنجيل ووادي الأسد ولا تزال توجد آثار في هذه المناطق. كان له اسمان يوحنّا ومرقس وكان اسم أبوه "أرسطوبولس" وأمّه "مريم" وخاله "برنابا الرّسول"، وكانت أسرته غنيّة ولهم مكانة اجتماعيّة. وكانت أسرة مرتبطة بالله بدليل أنّ بيت مريم أمّه صار أوّل كنيسة. وإنّ خاله برنابا (ابن الوعظ، ابن التّعليم) كان مشهورًا في وسط الرّسل وهو الّذي قدّم بولس الرّسول للتّلاميذ الإثني عشر، مار مرقس كان من السّبعين رسولاً، ومعنى اسمه "مطرقة" ونسمّيه "كاروز مصر". ولذلك نطلق على كنيستنا "كنيسة رسوليّة" لأنّها تأسّست من خلال رسول، والإسكندريّة نسمّيها "الكرسيّ الرّسوليّ" والكراسي الرّسوليّة في العالم معدودة: أورشليم، الإسكندريّة، أنطاكيا، روما، القسطنطينيّة هي كراسي الرّسوليّة الخمسة في تاريخ المسيحيّة.
نبدأ بالفقرة الثّانية من الذّكصولوجيّة "أتيت وأنرت لنا بإنجيلك وعلّمتنا الآب والابن والرّوح القدس وأخرجتنا من الظّلمة إلى النّور الحقيقيّ:"
1- إنّ هذا الرّسول كتب لنا "إنجيلاً" وهو أقدم الأناجيل كتابة، وهو أقصرها. وكتب الإنجيل بسرعة و كتبه للرّومان وهم أهل حرب لا يحبّون الكلام الكثير، وهم أهل عمل ليس أدب، ونرمز له برمز الأسد لأنّ الرّومان أهل قوّة، وفي أوّل الإنجيل عندما تكلّم عن معموديّة يوحنّا المعمدان، يقولك "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً"، فالصّوت الصّارخ هو تعبير عن الأسد، وفي حياة القدّيس مرقس الرّسول له قصّة مع الأسد وانتصاره عليه في البرّيّة، عندما قدّم المسيح للنّاس من خلال الإنجيل، قدّم "المسيح الخادم"، جاء يستخدم قوّته لخدمة النّاس. لذلك في إنجيله نسمع عن معجزات كثيرة والمعجزات المذكورة عديدة ومتنوّعة وكلّها بهدف إظهار القوّة. كتب هذا النّصّ الإنجيليّ بسرعة ولم يكن به عبارات إضافيّة وكان يريد أن يوضح أنّ المسيح الّذي ظٌلم انتصر وقام من بين الأموات. أهمّ شيء في إنجيل مار مرقس البداية: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ"، كثير من الآباء المفسّرين يعتبرون هذه البداية هي العنوان وعندما نقرأ في النّسخ القديمة نجد هذه العبارة في سطر بمفردها ثمّ يبدأ باقي الفقرة، بدء (بداية جديد) إنجيل (بشارة سعيدة)، يسوع (مخلّص، المسيح بالنّسبة لليهود، وابن الله بالنّسبة للأمم). وهذا الإنجيل مكتوب ليصل لكلّ النّاس، يسوع هو المخلّص عند اليهود منتظرينه "المسيا المنتظر" ماسح الخطايا، ولكن بالنّسبة للأمم غير المؤمنين بابن الله... يذكر القدّيس مرقس في إنجيله قصّة الّذي طعن جنب السّيّد المسيح وعندما طعنه قال "حقًّا كان هذا ابن الله" إنجيل معلّمنا مار مرقس نصفين، النّصف الأوّل يتنهي بالجزء الخاصّ ببطرس الرّسول عندما سأل السّيّد المسيح "ماذا يقول عنّي النّاس وأنتم من تقولون؟ فقال بطرس: أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". وهناك معلومة مهمّة أنّ ما قاله بطرس الرّسول "أنت هو المسيح" مثل آيه البداية ولكن لأنّ القدّيس مرقس كتب بعد القيامة فكتبها في ضوء القيامة فوضع "ابن الله الحيّ".
أوّلاً: هو رسول... "أتيت وأنرت لنا بإنجيلك" الإنجيل هو وسيلة نور لكلّ إنسان محتاج، "وأخرجتنا من الظّلمة إلى النّور الحقيقيّ". الإسكندرية في هذا الوقت كانت مدينة ذائعة الصّيت وأهم مدينة في أفريقيا لا يوجد لها مثيل، كانت تنتشر فيها العبادات الوثنيّة القديمة فيقول أخرجتنا من ظلمة الأوثان إلى النّور الحقيقيّ الّذي هو السّيّد المسيح، هذا هو الإنجيل.
ثانيًا: "وعلّمتنا الآب والابن والرّوح القدس"، هذه أكثر صيغة مختصرة للإيمان المسيحيّ الّتي هي إشارة الصّليب. عندما جاء القدّيس إلى الإسكندريّة، أسّس لنا مدرسة لاهوتيّة وتعتبر أوّل مدرسة تقدّم وتشرح الإيمان في العالم كلّه، وصارت إحدى مدارس التّفسير الكبيرة للكتاب المقدّس. وكانت تضارعها في نفس الزّمن أنطاكيا في سوريا وكان الكرسيّ الأنطاكيّ من الكراسي الرّسوليّة وكنيسة أنطاكيا الكنيسة السّريانيّة كنيسة شقيقة لنا في الإيمان، "فأنت علّمتنا الآب والابن والرّوح القدس" وقدّمت لنا المدرسة اللّاهوتيّة كمنارة للفكر. وكانت الإسكندريّة عاصمة العالم الثّقافيّة، وكان يضارعها في نفس الوقت أثينا، وكانت المدرسة اللّاهوتية قائمة في أسلوب التّعليم على الحوار (السّؤال والجواب) وهي من أهم وسائل التّعليم حتّى الآن. وهناك كنائس برعت فيها وقدّموا كلّ الإيمان المسيحيّ في صورة سؤال وجواب، وكانت عمليّة مهمّة جدًّا بدأت في مدرسة الإسكندريّة اللّاهوتيّة. وكانت طريقة السّؤال والجواب هي أسلم وأنسب طريقة لتسليم الإيمان، "وعلّمتنا الآب والابن والرّوح القدس". علّمتنا الإيمان المحدّد وهذه الطّريقة في التّعليم قديمة ولكنّها عميقة للتّعليم ويعيش الإنسان بها ويتعلّم منها. لذلك نقرأ في تاريخ مدرسة الإسكندريّة لأنّها خرّجت علماء. وكان غالبًا مدير المدرسة البطريرك لكرسيّ الإسكندريّة، مار مرقس الرّسول اختار إنيانوس ليكون من يخلفه ومعنى إسم إنيانوس "حنانيا"، وعاشت الإسكندريّة وكرسيّ الإسكندريّة، ولقب بابا الإسكندريّة بدأ في الإسكندريّة وهي بمعنى "أب الآباء" وبعد ذلك بدأت روما في استخدام اللّقب، ولكن اللّقب نشأ في كرسيّ الإسكندريّة أوّلاً.
وجود مارمرقس عندنا وهو أتى من ناحية ليبيا من الغرب تتميمًا لنبوءة أشعياء قبل السّيّد المسيح بحوالي 800 سنة: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا." (الحدود هي عند مصر وليبيا)، ومارمرقس يمثّل العمود القادم من الغرب لكي ينبر الطّريق في الإسكندريّة ويقدّم السّيّد المسيح، هناك إنجيل ومدرسة في الذّكصولوجيا.
ثالثًا: "وأطعمتنا خبز الحياة الّذي نزل من السّماء" جاء مار مرقس من الغرب كانت بحر وصحراء وكان هناك مناطق لزراعة القمح (سلّة غلال أوروبا)، عندما جاء يكرز باسم المسيح سلّمنا القدّاس الإلهيّ (خبز الحياة) ليس الخبز العقليّ فقط ( كلمة الإنجيل) ولكن سلّمنا أيضًا خبز الحياة (القدّاس) وكان القدّاس في صورته البكر الّذي طوّره القدّيس كيرلّس عمود الدّين البابا 24 ونسمّيه باسم القدّاس الكيرلّسيّ. بيت مار مرقس كان أوّل كنيسة في أفريقيا (العلّيّة) واستخدمها السّيّد المسيح في إعداد الفصح الّذي هو آخر فصح اليهود وبداية سرّ الإفخارستيّا، القدّاس في بدايته كان مختصرًا جدًّا الّذي هو جزء التّقديس، وهذا ما يجعلنا كمسيحيّين مهتمّين جدًّا بالتّناول لأنّه خبز الحياة، نحن في هذا الزّمن بسبب انتشار فيروس كورونا وبسبب انتشار العدوى الكنائس مغلقة عن أداء الصّلوات المنتظمة مثل ما كان المعتاد وذلك لفترة مؤقّتة، ونصلّي لكي لا تطول وكلّنا متشوّقون لنحضر القدّاس ونتناول، ولكن تذكّر ماذا صنع مار مرقس معنا؟ ... "وأطعمتنا خبز الحياة الّذي نزل من السّماء" قدّموا لنا وهذا ما يجعلنا كلّ مرّة نتقدّم للتّناول نتقدّم باشتياق قلبنا ونتناول خبز الحياة وهو الّذي يفرحنا وينقلنا من الظّلمة إلى النّور، ويساعد الإنسان أن يكون دائمًا في معيّة الله "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيه"، كتب لنا الإنجيل وأسّس المدرسة اللّاهوتيّة وعلّمنا القدّاس.
رابعًا: "يا مرقس الرّسول والإنجيليّ والشّاهد لآلام الإله الوحيد الجنس":
مار مرقس الرّسول هو نموذج رفيع لنا وندين له بالولاء وهو كروز بلادنا وكنيستنا ومؤسّس الكنيسة، ولقب أبينا البطريرك "بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة" من أوّل مار مرقس وامتدادًا لسلسلة الآباء الطّويلة حتّى الآن رقم 118. كلّ هذه السّلسلة كأنّها مار مرقس لأنّها تقوم بعمل مار مرقس، بطريرك الكرازة المرقسيّة يكمل عمل مار مرقس وعندما زار البابا شنودة أميركا اللّاتينيّة فقال "إنّ مار مرقس وصل حتّى أميركا اللّاتينيّة". إنّ مار مرقس جاء وأسّس الكنيسة هنا واستشهد على أرض مصر ولذلك نقول "والشّاهد لآلام الإله الوحيد الجنس". إنّ مار مرقس انضمّ لرسولين أكبر منه بولس وبرنابا خاله وخدم معهما في الرّحلة الأولى لبولس الرّسول ولكن فارقهما عند بنفيليّة. في الرّحلة الثّانية بولس الرّسول رفض أن يأخذه معه فأخذه برنابا وبشرّا في قبرص، وبولس أخذ سيلا وأكمل خدمته. مار مرقس خدم في بلاد كثيرة وتعتبر قبرص تابعة للكرازة المرقسيّة ونحن لنا فيها كنائس وآباء يخدمون فيها ويُشرف عليها نيافة الأنبا بافلس. بولس الرّسول قال عن مار مرقس "خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ" وهذه هي شهادة بولس الرّسول عن مار مرقس. بعد نياحة خاله ذهب للخمس مدن الغربيّة في شمال ليبيا على ساحل البحر الأبيض تابعة لأبرشيّة البحيرة مسؤول عنها نيافة أنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية.
"يا مرقس الرّسول والإنجيليّ والشّاهد لآلام الإله الوحيد الجنس": بعد هذه الرّحلة بدأ يبشّر في الإسكندريّة وتتحوّل من الوثنيّة للمسيحيّة فهاج الوثنيّون وقبضوا عليه وتعرّض لعذابات كثيرة. ومن عذابات مار مرقس الرّسول تناثر دمه في شوارع الإسكندريّة ورويت الإسكندريّة بدم مار مرقس الرّسول ولذلك نحن نحافظ على العنوان "بابا الإسكندريّة" وهي الكرسيّ الرّسوليّ الرّئيسيّ، في سنة 68 م في القرن الأوّل الميلاديّ استشهد القدّيس مار مرقس الرّسول وسرق جسده وظلّ الرّأس موجودًا، وذهب الجسد إلى فينيسيا. وفي سنة 1968 م بعد 19 قرنًا من استشهاده، أرسل البابا كيرلّس وفدًا من الآباء المطارنة والأراخنة وتقابلوا مع البابا بولس السّادس وقدّم لهم جزءًا من رفات القدّيس مارمرقس الرّسول، ورجع هذا الجزء واستقبله البابا كيرلّس ووضعه في المزار في الكاتدرائيّة الجديدة في العبّاسيّة في القاهرة، وفي كاتدرائيّة سان مارك في فينيسيا من أربع سنوات تقريبًا صلّينا أوّل قدّاس قبطيّ فيها، وصلينا هناك في تاريخ عيد القدّيس أثناسيوس الرّسوليّ 7 بشنس أخذنا بركة القدّيس مار مرقس والقدّيس أثناسيوس.
أريد أن تعلموا أنّه لولا مار مرقس لما كانت المسيحيّة في مصر. القدّيس مرقس زرع بذرة ووضعها بإيمان ومحبّة ورجاء لذلك أثمرت وأكثرت وملأت الأرض وكلّ العالم، وصار من كرسيّ الإسكندريّة ومن تاريخ القدّيس مرقس ومن المسيحيّة الّتي بدأت في الإسكندريّة وانتشرت في كلّ الأرض. ظهرت بعدها بقرنين من الزّمان الرّهبنة المسيحيّة وبدأت من المناطق الصّحراويّة وأيضًا انتشرت رائحتها الذّكيّة إلى كلّ العالم من خلال كرسيّ الإسكندريّة، وصار كرسيّ الإسكندريّة هو الأقدم وكنيستنا كنيسة "رسوليّة، سرائريّة، تقليديّة، محافظة". وما زلنا نحمل الإيمان المستقيم (الأرثوذكسيّة) من أيّام السّيّد المسيح حتّى اليوم وإلى المنتهى. مزمور القدّاس لليوم 29 برمودة "أَنْفُسُنَا انْتَظَرَتِ الرَّبَّ. مَعُونَتُنَا وَتُرْسُنَا هُوَ. لأَنَّهُ بِهِ تَفْرَحُ قُلُوبُنَا، لأَنَّنَا عَلَى اسْمِهِ الْقُدُّوسِ اتَّكَلْنَا". (مزمور 33: 20- 21)، أعتقد أنّ القدّيس مرقس عندما أتى مصر كان يرتّل هذا المزمور فجاء مصر وهو لا يعلم أحد ولكن كان هناك نفوس مشتاقه، عندما أتى إلينا نقل لنا الفرح والإيمان ومعيّة المسيح معنا، وعاش على أرضنا وبدمائه رويت الإسكندريّة، لذلك كرسيّ الإسكندريّة وكنيسة الإسكندريّة مع قدمها هي راسخة في إيمانها وعقيدتها وتقليدها. وهذا الرّسوخ كالجبال وكما قالت النّبوءة "عَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا". نحن نفرح ونحتفل بتذكار استشهاد القدّيس مرقس، لذلك قمنا بعمل حنوط وبها نتذكّر رائحته وسيرته العطرة ونقولها مع الألحان لأنّه في السّماء يسبح ونستخدم العطور في أنبوبة خشبيّة، والخشب رمز لصليب السّيّد المسيح، ربّنا يحفظكم ويباركنا كلّنا بشفاعة هذا القدّيس العظيم ويعطينا نعمة في حياتنا وفي كنيستنا وفي خدمتنا وفي بلادنا، لإلهنا كلّ مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين".