ماذا يقول البطريرك ساكو عشيّة العنصرة؟
""العَنصرة" معرَّبة عن اللّغة العبريّة atzeret وتعني اجتماعًا واحتفالًا، أمّا لفظة Pentecost فهي يونانيّة، وتعني خمسين يومًا. إنّها إشارة إلى الفترة بين أحد قيامة المسيح وأحد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ.
ثمّة نوع من التّشابه بين وضع التّلاميذ بعد موت يسوع من حيث ملازمة المنزل، وحالتنا اليوم في الحجر البيتيّ لمواجهة أزمة كورونا.
يقول الإنجيل عن التّلاميذ: "في مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفًا مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!" (يوحنّا 20/ 19).
إذًا عاش التّلاميذ الحجر المنزليّ، خوفًا من حصول اعتداء عليهم من قبل يهود متطرّفين، مثلما نعيشه نحن منذ قرابة الشّهرين، خشية الإصابة بهذا الفيروس اللّعين الّذي نغَّص حياتنا، وألزمنا بالحجر المنزليّ حفاظًا على سلامتنا وسلامة عائلتنا.
عمومًا أستمرّ التّلاميذ بعد صعود المسيح إلى السّماء ملازمين البيت لنفس السّبب، إلى أن حلّ عليهم الرّوح القدس: "فرَجَعوا إِلى أُورَشَليمَ مِنَ الجَبَل الَّذي يُقالُ له جَبَلُ الزَّيتون، وهُو قَريبٌ مِن أُورَشَليم على مَسيرةِ سبْتٍ مِنها. ولَمَّا وَصَلوا إِلَيها صَعِدوا إِلى العُلِّيَّةِ الَّتي كانوا يُقيمونَ فيها" (أعمال 1/ 12-13).
في اليوم الخمسين تغيّر كلّ شيء بالنّسبة لهم: "ولَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون، كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد، فانْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس" (أعمال 2/ 1-4).
فترة الخمسين يومًا (الحجر)، كانت فترة تأمّل ومراجعة لما سمعوه من يسوع، وما شاهدوه من أعماله، ليُهضَم ويُستَوعبْ، وينضج لبلورة إيمانهم ودعوتهم. كانوا يعيشون كعائلة واحدة كما ينقل سفر أعمال الرّسل: "وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم" (أعمال 2/ 44). ونقلهم الرّوح القدس بحلوله من حالة القلق والخوف إلى حالة المواهب والتّأهّب للرّسالة.
نحن أيضًا نختبر الحجر المنزليّ والتّباعد الاجتماعيّ، قلقين وخائفين، بسبب غياب فضاءات آمنة، وبوادر سريعة للقضاء على هذا الفيروس الخبيث. لكن ثمّة شيء ينبغي أن ندركه، هو أنّ أزمة كورونا مهما كانت عاتية فهي مؤقتة وعابرة. وإنّ البشريّة الّتي عاشت خلال تاريخها أزمات أخرى شديدة، وخرجت منها أصحّ وأقوى، فلا بدّ لها أن تنتصر على كورونا.
إيمانيًّا: نلاحظ عودة العديد من النّاس إلى الإيمان والتّمسّك بالرّوحانيّة المسيحيّة، والصّلاة والصّيام، وخدمة المحبّة. نلمس ذلك من مئات التّعليقات على الفيسبوك البطريركيّ الّذي منه نبثّ القدّاس، كلّ هذه الفترة العصيبة. نشعر أنّ هناك كنيسة "بيتيّة" تنضج، وتترسّخ في إيمانها والتزامها، وتعبّر عن اشتياقها إلى تناول القربان، واستعادة فتح الكنائس كما كانت في السّابق. ونحن ككنيسة محلّيّة نستعدّ لذلك بكلّ جدّيّة.
للرّوح القدس دور في حياتنا مثلما كان له دور في حياة التّلاميذ الأوّلين. إنّه بمواهبه وأنواره يواصل تجلّيات الله في عالمنا ويشهد له (يوحنّا 15/ 26). الرّوح القدس يساعدنا على الصّبر والثّبات والصّمود، ويعزّينا ويرفع معنويّاتنا ويطمئننا (يوحنّا 14/ 16). الرّوح القدس يدخلنا إلى عالم الله، إن تعاونّا معه، حتّى نُدخِل شيئًا من عالم الله إلى عالمنا. هذا هو الكاريزما والرّسالة.
عالمنا لن يكون مثلما كان قبل كورونا.
عالمنا ونظامه لن يكونا مثلما كانا قبل وباء كورونا، كما لم يكن الرّسل بعد حلول الرّوح القدس عليهم، مثلما كانوا بعد موت المسيح. ينبغي التّعلّم من سلبيّات الماضي.
كمسيحيّين مؤمنين
علينا العودة بقوّة إلى إيماننا وأخلاقنا وعلاقاتنا الأسريّة السّليمة، والتزاماتنا الاجتماعيّة. الرّوح القدس إن أفسحنا له المجال، سيساعدنا بمواهبه على رؤية الأمور بعين مستنيرة، بشكل أشمل وأعمق، ويعيننا للانتصار على الأزمات بإيماننا وأخلاقنا ومحبّتنا وتضامننا الأخويّ.
كمجتمع دوليّ
يجب البحث عن توفير الطّعام والدّواء والخدمات للشّعوب، وليس البحث عن صنع أشكال الأسلحة والتّسلّح للسّيطرة على اقتصاد العالم. إنّ كورونا والحجر المنزليّ فرصة سانحة أمام قادة العالم لتعزيز التّضامن الإنسانيّ، وابتكار نظام عالميّ جديد فيه أكثر رحمة، ومحبّة وتسامح وسلام واحترام وتطبيق العدالة، بدون النّظر إلى الجندر ولون البشرة والبلد واللّغة والدّين والمذهب، والغالبيّة والأقلّيّة. البشر كلّهم إخوة في الخلق، ومتساوون في الحقوق والواجبات. نحتاج إلى مناهج تعليميّة جديدة لترسيخ الأخوّة البشريّة كما دعا البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطّيّب في "وثيقة الأخوّة البشريّة". إنّ الخير حالة وموقف، "نكون بخير لما نفعل الخير لكلّ إنسان كما يستحقّ".
كمراجع دينيّة
كذلك على المرجعيّات الدّينيّة المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة والدّيانات الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار تداعيات كورونا والتّحوّل الثّقافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ لتقوم بمراجعة نقديّة دقيقة، لتوضيح الرّؤى ومعالجة التّطرّف، ونبذ كلّ فكر يحثّ على الكراهيّة والعنف. لديها ما يوحّدها ويدفعها على المضيّ معًا قدمًا في حمل رسالتها في إشاعة المحبّة والتّسامح والأخلاق الحميدة، والعيش المشترك، والدّفاع عن حقوق الإنسان".