الأراضي المقدّسة
27 أيار 2022, 12:30

ماذا يحصل عندما يُسكب الرّوح في قلوبنا؟

تيلي لوميار/ نورسات
تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل يوحنّا ١٧، ٢٠–٢٦، عشيّة الأحد السّابع من الزّمن الفصحيّ، والّذي يضيء على الجزء الأخير من صلاة يسوع الكهنوتيّة، وفيه يقول بحسب موقع بطريركيّة القدس للّاتين:

"بالنّسبة للكنائس الّتي احتفلت بعيد صعود الرّب يوم الخميس الماضي، تقترح اللّيتورجيا في الأحد السّابع للفصح الجزء الأخير من صلاة يسوع الكهنوتيّة الشّهيرة (يوحنّا ١٧، ٢٠–٢٦).

تنقسم هذه الصّلاة، الّتي تشغل الفصل ١٧ إلى جزئين. في الجزء الأوّل (الآيات ١–٥) يُصلّي يسوع من أجل نفسه، وفي الجزء الثّاني (الآيات ٦–١٩) من أجل تلاميذه وفي الجزء الثّالث، الّذي تُقدّمه اللّيتورجيا اليوم (الآيات ٢٠–٢٦)، يُصلي يسوع من أجل الّذين سوف يؤمنون به، أيّ نحن ("لا أدعو لهم وحدهم بل أدعو أيضًا للّذين يؤمنون بي عن كلامهم" آية ٢٠).

في هذا المقطع الإنجيليّ، يُخاطبنا يسوع مباشرة، ويُوصينا بمسيرة الحياة المسيحيّة.

يقول يسوع، في المقام الأوّل، إنّ الإيمان، أيّ العلاقة معه، ينتشر بفضل تبشير المؤمنين (للّذين يؤمنون بي عن كلامهم"، آية٢٠). ليس الإيمان شأنًا خاصًّا نحتفظ به لأنفسنا، بل يجب إيصاله وإعلانه. لا يعيش المؤمن لنفسه؛ حيث أنّ الإيمان المسيحيّ يتعزّز وينمو عندما تتمّ الشّهادة له. عندما ينقل إنسان ما الحياة تنشأ حياة جديدة. ويكون هناك إيمان عندما ينقل إنسان ما هذا الإيمان لغيره. إنّها شريعة المسيحيّ. إنّ الإيمان الّذي لا يتمّ تقاسمه، ينطفئ، ويموت. إنّ الأساس المُكوّن للهويّة المسيحيّة هو أن نكون دائمًا مستعدّين للرّدّ على كلّ من يطلب منّا دليل ما نحن عليه من الرّجاء (راجع ١ بطرس ٣، ١٥).

من هذا المقطع من الصّلاة (الكهنوتيّة)، نتوقّف عند ثلاثة عناصر فقط.

العنصر الأوّل والأوضح هو الصّلاة من أجل الوحدة، الّتي يتمّ التّحدّث عنها في جميع أجزاء المقطع الإنجيليّ ("حتّى ليكونوا بأجمعهم واحدًا"، آية ٢١؛ "ليبلغوا كمال الوحدة"، آية ٢٣). إنّ وحدة المؤمنين هي الشّكل الأوّل للبشارة وهذا ما يجعل الشّهادة مصدّقة. لا يوجد هنا ذكر للوحدة الاجتماعيّة، ولا للجهد الّذي يأتي منّا، من القاعدة: "كما أنّك فيّ، يا أبت، وأنا فيك" (آية ٢١)، "ليكونوا واحدًا كما نحن واحد" (آية ٢٢). إنّ الوحدة بين المؤمنين هي علامة ورمز للوحدة بين يسوع والآب. تصرّ بشارة يوحنّا كثيرًا على العلاقة الحميمة بين الآب ويسوع (٥.١٩ ؛ ٨.٢٨ ؛ ١٠.٢٥ ، ٣٢. ٣٧ ؛ ١٢.٥٠). هذه العلاقة هي الخيط النّاظم للإنجيل كلّه.

وبعبارة أخرى، إذا تقاسمنا الحياة فيما بيننا وأوصلناها للآخرين، وإذا حافظنا على الوحدة، فسوف نتشارك في الحياة الإلهيّة ("ليكونوا هم أيضًا فينا"، آية٢١). وهكذا تمتدّ الوحدة بين الآب ويسوع لتشمل المؤمنين الّذين يجعلونها مرئيّة ومفهومة للعالم من خلال محبّتهم بعضهم البعض.

العنصر الآخر هو أنّ هذه الوحدة ليست أمرًا نظريًّا، ولكن على العكس من ذلك، يجب أن تكون ملموسة ومرئيّة. بهذه الطّريقة فقط سيكون العالم قادرًا على خوض الخبرة مع يسوع، وبهذه الطّريقة فقط سوف يؤمن العالم بيسوع ("ليؤمن العالم بأنّك أنت أرسلتني"، آية ٢١). إذا لم تكن وحدة المؤمنين مجرّد مسألة تنظيميّة، بل ثمرة العمل الإلهيّ، فمن الصّحيح أيضًا أنّ وحدة المؤمنين يجب أن تكون مرئيّة تاريخيًّا. يحتاج العالم لرؤية وحدتنا. سيكون لهذه الوحدة تأثير حاسم على العالم: "إذا أحبّ بعضكم بعضًا عرف النّاس جميعًا أنّكم تلاميذي" (يوحنّا ١٣، ٣٥).

وأخيرًا، يتحدّث المقطع عن المجد والحبّ، وهي عبارات يتمّ ذكرها عدّة مرّات بالتّناوب، وهي، في هذا الإطار، مترادفة المعنى تقريبًا. المجد هنا هو كشف محبّة الله، الّتي تبلغ ذروتها في تواضع غسل الأرجل وفي الصّليب (دعونا لا ننسى أنّنا ما زلنا في علّيّة الفصح).

يكمن مجد يسوع الحقيقيّ في اتّباع طريق الخدمة المتواضعة الّتي تبلغ ذروتها على الصّليب. حتّى بالنّسبة للتّلاميذ– ولنا الّذين آمنّا بكلماتهم– يكمن المجد الحقيقيّ في طريق الخدمة المتواضعة. إنّ طريق الصّليب هو طريق المجد الحقيقيّ. إنّ الصّليب، قبل أن يكون رمزًا للمعاناة والتّضحية، هو المكان الّذي يعرف فيه الإنسان حبّ الله الّذي لا يُقاس. فالوحدة لا تُبني بادّعاء العظمة، بل على العكس، في ترك حيّز للآخر، وفي حبّه أكثر من حبّ الذّات. هذا النّوع من الحبّ، الّذي يعرف كيف يبذل ذاته، ويعرف كيف يُصغّر نفسه لإفساح المجال للآخر، يمكنه بناء الوحدة، وبالتّالي يصبح صورة لمحبّة الله، وللوحدة الّتي بين الآب ويسوع.

ليس من السّهل فهم هذا المقطع فهمًا تامًّا، أو إدراك العلاقة الخاصّة والفريدة بين الآب ويسوع وعلاقتنا بهما. ولا يُمكننا فهمها بمفردنا وبقوانا الخاصّة، ولا العيش على هذا المنوال وتحقيق الوحدة بهذا الأسلوب.

ولا يمكن أن يكون كلّ هذا مجرّد ثمرة جهد بشريّ.

لهذا سيتمّ إرسال المُعزّي إلينا، الرّوح الّذي سيقيم فينا وسيبقى معنا إلى الأبد (يوحنّا ١٤، ١٦) وسيُعرّفنا على اسم الله (٢٦) أيّ على الله ذاته. في بشارة يوحنّا، لا يعرف الإنسان الله بالعقل بل بالقلب. المعرفة تعني الرّؤية، وتعني خوض التّجربة. الرّوح القدس الّذي سوف يُسكب في قلوبنا سيجعلنا نختبر حبّ الله بشكل ملموس. هذا الرّوح سوف يقيم فينا، وسيكون جزءًا منّا، وسيبقى معنا إلى الأبد (يوحنّا ١٤، ١٦). وعندما يُسكب الرّوح في قلوبنا، سنختبر ما قاله يسوع في هذا المقطع الإنجيليّ من صلاته إلى الآب: "في ذلك اليوم تعرفون أنّي في أبي وأنّكم فيّ وأني فيكم" (يوحنّا ١٤، ٢٠)."