كلمة الخوري باسم الرّاعي في المؤتمر الإعلاميّ الثّانيّ: "الإعلام المسيحيّ في خدمة الإنسان"
"يشير عنوان مداخلتي "الإعلام المسيحيّ في خدمة الإنسان إلى طبيعة الرّسالة الّتي يضطلع بها هذا الإعلام، وفق ما تقتضيه الخدمة بمعناها الأصيل، وهي أنّها فعل وساطة. والوساطة من صلب حقيقة الإعلام ودوره، بحسب ما يقول كتاب تعليم الكنيسة الاجتماعيّ الخاصّ بالشّبيبة (DOCAT): "حيث يتعذّر التّواصل المباشر، تكون الحاجة إلى وسائل الإعلام من حيث هي وسيط غير مباشر للمعلومات" (ف37). ومن طبيعة الوساطة أيضًا أنّها ليست غاية في حدّ ذاتها، بل وسيلة لغاية ما، سامية كانت أم لا، يعمل الإعلام من أجلها.
وهذه الرّسالة المناطة بالإعلام تقع على عاتق الإعلام المسيحيّ أيضًا كوسيط من أجل غاية سامية، لا بل الأسمى، هي الإنسان الّذي يقول عنه المجمع الفاتيكانيّ: "إنّه الخليقة الوحيدة الّتي أرادها الله لذاته" (ك ع،24) وقال عنه البابا يوحنّا بولس الثّاني "إنّه طريق الكنيسة" (فادي الإنسان، 22). إنّه الإنسان ببعده الكيانيّ الفرديّ وبعده الاجتماعيّ، وهما بعدان لا ينفصلان في الفهم المسيحيّ. فالإعلام المسيحيّ في خدمة الإنسان إذًا في كرامته الشّخصيّة وفي خيره على السّواء. من أبلغ النّصوص الّتي ترسم هذا الفهم الصّريح لدور الإعلام المسيحيّ، وإن كان النّصّ يعني الإعلام بشكل عام، ما جاء في رسالة البابا بنديكتوس السّادس عشر المحبّة في الحقيقة، حين يقول: "إنّ معنى وسائل الإعلام والغاية منها يجب البحث عنهما على قاعدة انتروبولوجيّة، ممّا يعني أنّ من الممكن أن تكون فرصة مناسبة للأنسنة،لا عندما تقدّم، بفضل التّقدّم التّقنيّ، إمكاناتٍ أكبر في التّواصل والمعلومات، بل بالأخصّ عندما تنظّم هيكليّاتها وتوجَّه في ضوء صورة الشّخص والخير العام الّذي يحترم القيم الشّاملة. لا توفّرُ وسائلُ الإعلام الحرّيّةَ للجميع ولا تعمّم النموّ والدّيمقراطيّة للجميع لمجرّد أنّها تُكثر إمكاناتِ تمازج الأفكار وتناقلها. لكن لبلوغ مثل هذه الأهداف، على وسائل الإعلام أن تهدف أساسًا إلى تعزيز كرامة الأشخاص والشّعوب، وأن تحرّكها صراحةً المحبّة وتكون في خدمة الحقيقة، والخير والأخوّة الطّبيعيّة والفائقة الطّبيعة (...) فوسائل الإعلام يمكنها أن تكون عونًا جبّارًا في إنماء الشّركة في الأسرة البشريّة وخلقيّات المجتمعات، عندما تصير أداة لتعزيزٍ مشاركة الجميع في البحث المشترك عمّا هو صالح." (ف73)
إنّ هذا التّحديد وإن كان لا يعطي الإعلام المسيحيّ تمايزًا صريحًا عن الإعلام بفهمه العامّ، لكن يمنحه خصوصيّة بما أنّ غايته إعلاء شأن الإنسان في كرامته وخيره. وهذه الخصوصيّة تبقى أوضح في مجالات الإعلام المسيحيّ، لأنّه إعلام بمنأى عن الرّبح المادّيّ غالبًا، ممّا يقيه شرّ الانزلاق إلى الارتهان أو الارتباط بالجهات المموّلة الّتي تملي عليه أو تؤثّر في توجيه عمله، ممّا ينعكس على صفاء الوساطة الّتي يقوم بها.
وبما أنّ غاية الإعلام المسيحيّ قد اتّضحت لنا، لا بد من تفصيل دور الخدمة الّتي يقوم بها تجاه الإنسان، حتّى ترتسم أمامنا بوضوح الوساطة الّتي يقوم بها على هذا الصّعيد. لم أجد صورة أمثل لرسم مقوّمات هذه الوساطة الّتي يقوم بها الإعلام المسيحيّ إلّا ما جاء في مثل الوكيل الأمين الّذي قال عنه يسوع: "من تراه الوكيل الأمين الّذي يقيمه سيّده على خدمه ليعطيهم الطّعام في حينه؟" (متى24، 25).
في هذا المثل الوكيل وسيط بموجب الوكالة المعطاة له من سيّده، وهذه الوكالة تحدّد دوره على الشّكل التّالي: معاينة حاجة الموكلين إليه، والإجابة عليها بما يقتضي وفي حينه. وأهمّ من ذلك أنّ إطار الوكالة أتى في سياق حديث يسوع عن السّهر داعيًا سامعيه إلى اليقظة لأنّ الملكوت يأتي في ساعة لا يخالها أحد. هذه هي في نظري مقوّمات الوساطة الّتي يقوم بها الإعلام المسيحيّ في خدمة الإنسان. وهي ستكون محطّ تفصيل في ما يلي.
المقوّم الأوّل: وكالة لا أصالة. الإعلام المسيحيّ منتدب لا من ذاته ولا ممّن يحرّكه، بل من الرّسالة الموكلة إلى الكنيسة لخلاص البشر، كما حدّد ذلك المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في قراره في وسائل الإعلام الاجتماعيّة، أنّ الإعلام يساعد البشر على "خلاصهم وكمالهم الذّاتيّ وخلاص البشريّة بأسرها وكمالها" (ف.3)، من حيث أنّ هذه الوسائل على "صلة بقوّة الإنسان الرّوحيّة" (ف.1) الّتي تنشد الحقيقة عن الذّات والكون والمجتمع. هذه الوكالة إذا أردنا استعمال عبارة معاصرة تعني أنّ الإعلام له سلطة كما يقال إنّه "السّلطة الرّابعة"، لأنّه ينتدب ذاته من أجل الدّفاع عن الإنسان والخير العامّ. وهذه السّلطة هي سلطة رقابة للكشف عمّا يمسّ الإنسان في كرامته وخيره ويساعده على تبيّن حقيقة كرامته وخيره، اللّذين هما عرضة لشتّى أنواع الانتهاك من البنى السّياسيّة أو الأيديولوجيّات المسيطرة. ويقوم الإعلام بهذا الدّور بأن يتفحّص البنى لمعرفة ما يتحكّم بها ويبعدها عن أن تصون كرامة الإنسان وخيره وتكشف عمّا تنطوي عليه الأيديولوجيّات من مهالك لهذا الإنسان. إذًا الإعلام هو نوع من "إكونوميا" خلاصيّة بالمعنى الأصيل للكلمة أيّ إنّه سهر على تدبير شؤون البيت الإنسانيّ الخاصّ والعامّ حتّى يهتدي الإنسان إلى خلاصه.
المقوّم الثّاني، الإعلام عين ساهرة إذًا لا ليستخبر أو ليسابق الخبر، بل ليعاين حاجة الإنسان إلى الخلاص ببلوغ المستوى الأعمق الّذي يقف وراء الأحداث والتّطوّرات والقوى المحرّكة والمؤثّرة الّتي تحاول أن ترهن واقع الإنسان وتجيره أو تستغلّه. بلوغ هذا المستوى وضع له المجمع الفاتيكانيّ مفتاحين أساسيّين اثنين: "قراءة علامة الأزمنة" و"تمييز الأرواح" لمعرفة كما يقول المجمع إذا كان "نظام الأشياء يخضع لنظام الأشخاص لا العكس" (ك ع،26)، أيّ إذا كان كلّ شيء يعود إلى الإنسان وفائدته على المستويين الذّاتيّ والاجتماعيّ. هذه العمليّة هدفها إذًا الكشف عن الأوهام.
وهذه العمليّة لها مستويات ثلاثة:
المستوى الأوّل: جمع الخبر والتّعامل معه. وهو من القضايا الدّقيقة الّتي أثارها المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، لأنّ ذلك يحتاج إلى "تقدير القرائن أيّ الظّروف الّتي يتمّ فيها الإعلام: الغاية، والأشخاص، والزّمان والمكان، وغيرها من القرائن الّتي من شأنها أن تكمل هذا الإعلام أو أن تفسد مغزاه الأدبيّ وتغيّره تمامًا." (و ج،4) ومن ثمّ التّعرّف إلى تأثير هذا الخبر في ما إذا كان "يحمل الإنسانيّة على أن تسير في طريق الخير أو طريق الشّرّ." (و ج،11)
المستوى الثّاني: وحتّى يتحقّق هذا الأمر على الإعلام المسيحيّ أن يتحلّى بثابتتين: الأولى، "ضمير مستقيم" لدى العاملين فيه نابع من حسّ الرّسالة الموكلة إليهم (و ج،5) مبنيّ على معرفة أنتروبولوجيّة وافية للإنسان على قاعدة الكرامة البشريّة المؤسّسة لتوق الإنسان إلى الحقيقة ولحرّيّته وخيره، والثّانية، إمساك بالنّظام الأدبيّ مقياسًا للقرائن. ذلك أنّ هذا النّظام كما يقول المجمع: "يعلو على كلّ أشكال النّشاط الإنسانيّ المختلفة" (و ج، 6)، لأنّه "نظام موضوعيّ" وفي الوقت عينه يشكّل الأساس الّذي يساعد الإعلام على توجيه الإنسان إلى "المثل الشّريفة" (11).
المستوى الثّالث: يهدف هذا كلّه في النّهاية إلى الإشارة بوضوح إلى "الشّرّ الأدبيّ" الموجود في هذه القرائن (و ج،7) وتعيينه من دون مواربة، لأنّ الإعلام المسيحيّ لا غاية له إلّا خدمة الإنسان وخلاصه. وهذا ما كان أشارت إليه وثيقة صادرة عن المجمع الحبريّ عدالة وسلام بتكليف من البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّ "المسيح قد فضح الشّرّ إلى حدّ المخاطرة بحياته. وقد فعل ذلك لا ليدين بل ليخلـّص"( الكنيسة في مواجهة العنصريّة لأجل مجتمع أكثر أخوّة، 1988، ف.1.). والبابا فرنسيس لا يتوانى عن القيام بهذا الدّور. أذكر على سبيل المثال موقفه النّبويّ في لامبدوزا عندما قال من دون مواربة إنّ سياسات الدّول الأوروبّيّة مسؤولة عن موت المهاجرين في البحار، لأنّ هذه الدّول تأكل ثروات بلدانهم، ممّا يدفعهم إلى الهجرة والمخاطرة بحياتهم فينالوا هذا المصير. إذًا قراءة علامة الأزمنة في ضوء معرفة القرائن هي عمليّة تأويل، لا مجرّد نقل للأحداث على أنّها وقائع تجري وتمرّ. وهذا ما قاله البابا فرنسيس في خطاب موجّه إلى ممثّلي وسائل التّواصل الاجتماعيّ (3 آذار 2013): "أحداث التّاريخ تتطلّب باستمرار وعلى وجه العموم قراءة معقّدة، تطال في بعض الأحيان حتّى فهم الإيمان [...] لذا من المهمّ أن تحسبوا حسابًا لهذا الأفق التّأويليّ، لهذه الهرمنوطيقا، حتّى تبلغوا لبّ أحداث الزّمن الرّاهن". وهدف هذه العمليّة خلق "رأي عامّ ناقد" يساعد الإنسان على تمييز الأرواح أيّ أن يصل إلى قراءة واضحة وواعية للأحداث، أحداث حياته وأحداث العالم وحتّى الأحداث الإيمانيّة. لذا الرّأي العامّ النّاقد ليس وجهة نظر أو تقبّل أيديولوجيّ لحقائق معيّنة أو هو عمليّة تذهين، إنّه كما يقول كانط، نابع من الاستعمال العامّ للعقل، وفي الإيمان المسيحيّ من ذكاء الإيمان، الّذي هو حقّ أساسيّ للإنسان وللمواطن في الاطّلاع بطريقة جدّيّة ومبرّرة على المسائل الّتي تتعلّق به وبالخير العامّ (Was istAufklärung? 1784: Ak. VII 36f.). والاستعمال العامّ للعقل عند جون رولز يعني تبيان الأسس الّتي يقوم عليها تفكير الإنسان والمواطن في القيم المشتركة والاختيار في المسائل الأساسيّة المتعلّقة بالخير العامّ وتقويمها (Political Liberalism. Lecture 6). هذا يعني أنّ هدف الرّأي العامّ النّاقد بلوغ مرحلة "الحكم المستقيم"(و ج،10) والخيار المستقيم.
المقوّم الثّالث: إنّ بلوغ مرحلة الرّأي العامّ النّاقد في ضوء قراءة علامات الأزمنة وتمييز الأرواح، يعني أنّ الإعلام المسيحيّ لا يترك الإنسان فريسة "صراع التّأويلات"، بل يعطيه الطّعام في حينه. والطّعام لا يعني مجرّد تحويل الإنسان متلقّيًا أو متقبّلاً لصورة عن الأشياء منمّطة ومعلّبة، بل يعني أنّ الإعلام المسيحيّ يساعد الإنسان على تمييز ما هو جوهريّ. وهنا يبلغ التّمييز والقراءة قيمتهما الحقيقيّة في نقل الإنسان من مستوى إلى آخر، يسمىّ في الفلسفة تفكير من مستوى ثانٍ، أيّ انتقال من المبتذل والمتداول والعابر وهما من سمات الحضارة الرّاهنة، من دون التّقليل من أهميّتهما، بل يكونان، مناسبة ينتقل فيها الإنسان إلى التّساؤل عن الجوهريّ. والجوهريّ هنا يحدّد بثلاثة:
أوّلاً الحقيقة: هدف الإعلام المسيحيّ أن يرفع الإنسان إلى مستوى الحقيقة، لأنّها من متطلّبات الإنسان الأصيلة، فالإنسان قادر على الحقيقة في الفهم المسيحيّ. يقول البابا يوحنّا بولس الثّاني في رسالة مخصّصة للإعلام بعنوان التّقدّم السّريع: "انطلاقًا من رؤية عضويّة وسليمة للكائن البشريّ، على وسائل الإعلام تعزيز العدالة والتّضامن، من خلال نقل الأحداث بطريقة دقيقة وصادقة، وتحليل دقيق للأوضاع والقضايا، وفسح المجال للآراء المتعدّدة" (3). ويضيف البابا فرنسيس إلى هذه الدّعوة أنّ "المسألة الأساس ليست في أن يكون الإنسان مؤمنًا أو لا [في مجال الإعلام]، بل المسألة هي في أن يكون صادقًا مع ذاته ومع الآخرين" عندما يتعلّق الأمر بنقل الخبر، بسبب الكمّ الهائل من الأخبار على مدار السّاعات والأيّام الّتي تشكّل عائقًا في الغالب أمام معرفة الحقيقة. لذا يلعب الإعلام دور وساطة لبلوغ الحقيقة "حقيقة الأشياء، يتابع البابا، بمقدار الإمكان والامتناع عن كتابة أو قول ما يشتم منه بضمير خالص إنّه خاطئ."(au conseil national des medias, 22 septembre 2016)
ثانيًا، كرامة الشّخص البشريّ: إنّ الحقيقة المقصود بها في كلام البابا يوحنّا بولس الثّاني والبابا فرنسيس هي بالدّرجة الأولى حقيقة الإنسان أيّ كرامته كشخص بشريّ. في خطابه أمام الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة ذكّر البابا فرنسيس العاملين هناك بألّا ينسوا أنّ وراء كلّ ملف يعملون عليه وجه إنسان. وهذا يصلح في الإعلام أيضًا، فوراء كلّ حدث وجه إنسان، كرامة شخص أو أشخاص معيّنين. دورالإعلام المسيحيّ بكلّ ما يقوم به أن يرفع الإنسان إلى هذا السّموّ من الإحساس بكرامة الشّخص البشريّ. هذا ما فعله الوكيل الأمين الّذي أعطى الطّعام في حينه حتّى يشعر الموكلين إليه بأنّهم من أهل بيت السّيّد. هكذا يتجلّى صون الكرامة البشريّة، عندما يشعر الإنسان حقًا أنّه مرحّب به وأنّه شريك فعليّ لا مجرّد رقم أو أداة أو وقود حرب، كما ينبّه البابا فرنسيس من مصير الإنسان في "حضارة النّفايات" الّتي نعيش فيها.
ثالثًا، الخير العامّ: الحديث عن الحقيقة بارتباطها بكرامة الشّخص البشريّ ليس حديثًا عن شي غيبيّ، بل عن الواقع بواقعيّته الإنسانيّة، أيّ في الأطر السّياسيّة. دور الإعلام المسيحيّ أن يمدّ مسألة الحقيقة والكرامة على الخير العامّ ليكتمل دور وساطته. يذكر البابا يوحنّا بولس الثّاني في رسالته التّقدّم السّريع "أنّ التّطوّر الإيجابيّ لوسائل الإعلام في خدمة الخير العامّ هو مسؤوليّة الكلّ، بسبب التماس المباشر لقائم بين وسائل الإعلام والاقتصاد، والسّياسة، والثّقافة. فمن الضّروريّ التّشديد على نظام إدارة يصون خصوصيّة الشّخص البشريّ وكرامته"(10). فبمقدار ما يتعزّز الخير العامّ وهو "مجموعة أوضاع وظروف اجتماعيّة تسمحُ للجماعات ولكلّ فرد من أفرادها بالوصول إلى الكمال بطريقةٍ أكثر شمولاً وسهولة" (ك ع،26)، بمقدار ما يستطيع الإنسان عيش حرّيّته والتّعبير عنها في المشاركة الفعليّة. من هنا دور الإعلام في مسألة الخير العامّ مساعدة الإنسان على التّحرّر من الارتهانات الّتي تضرّ به وبالخير العامّ الّذي منه خيره أيضًا.
المقوم الرّابع: اليقظة. كان الوكيل الأمين يقظًا منتظرًا مواعيد سيّده. والإعلام المسيحيّ بما أنّه شريك في رسالة الخلاص، مسؤول في الإضاءة على العالم الآتي. وإذا أردنا التّكلّم بلغة معاصرة إنّه مسؤول عن إشاعة الرّجاء والكشف عن الجديد الآتي. وهذا موضوع رجع اليوم ليبرز بقوّة، وخصوصًا في مجال السّينما. فالرّجاء يفتح الأعين على الإمكانات غير المنظورة الّتي يحاول رماديّ الواقع أن يحجبـها. وعلى الإعلام المسيحيّ في قلب حضارة الموت أن ينشر حضارة الحياة من خلال الكشف عن مبادرات الخير والجمال والحقّ وعمل المحبّة الّذي يقوم به كثيرون لا مكان لهم في الإعلام المرتهن للسّياسة والاقتصاد والأيديولوجيا. إنّ التّجربة الكبرى في حضارة اليوم هي إطفاء مشعل الرّجاء. في إنجيل متّى (24، 1-14) نبّه يسوع تلاميذه من هذه التّجربة، عندما أجاب على سؤالهم عن الخراب الأخير. فقال لهم إنّ الحروب والمجاعات والثّورات هي أوّل المخاض، لكن الأخطر منها أن تفتر المحبّة من كثرة الإثم. والآيّة في النّصّ اليونانيّ من الممكن ترجمتها كالتّالي: "ومن جرّاء تعاظم الإثم، تفتر المحبّة". والإثم في اليونانيّة له معانٍ أخرى منها الطّغيان، والفساد، والغبن والفوضى. كما لو أن يسوع يقول إنّ الخراب الأعظم،عندما يرى الإنسان كلّ هذه الشّرور، يفقد الحسّ واليقين بوجود الخير. وبالتّالي يفقد الرّجاء فيستسلم للّامعنى. هذا ما قاد إلى الإلحاد في العالم. على الإعلام المسيحيّ أن يكون في وسط هذه الحضارة، حضارة اللّامعنى، نبيّ الرّجاء، وإلّا كان شريكًا في تعميم الخيبة.
هذه هي المقوّمات الخمسة في نظري لإعلام مسيحيّ يكون وسيطًا حقيقيًّا لبشارة الخلاص المؤتمنة عليها الكنيسة، ويحقّق من وراء ذلك وساطة تؤسّس لشركة حقيقيّة بين البشر، بدل العيش في بابل، كما أوصى البابا يوحنّا بولس الثّاتي في رسالته التّقدّم السّريع (ف13) حين قال إنّ عالم التّواصل اليوم ينقل الكثير من المعلومات ويصل أشخاصًا ببعضهم بعضًا على مسافات خياليّة ويضع الإنسان في قلب الحدث، لكن ينقص هذا التّواصل "تبادل من القلب إلى القلب" على أساس الحقيقة والكرامة البشريّة والخير العامّ. وهذا ما ينتظر من الإعلام المسيحيّ أن يحقّقه في خدمة الإنسان. وشكرًا".