كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في افتتاح المؤتمر السنوي 23 للمدارس الكاثوليكية - ثانوية الراهبات الانطونيات الروميه
2. إن اختيار موضوع "التربية البيئة" تلبية لدعوة قداسة البابا فرنسيس في رسالته العامّة: "كن مسبّحًا"، وتقتضيه اوضاع البيئة الملوّثة والخطرة عندنا. فالاكولوجيا او علم البيئة مسألة تربوية، تجد فيها المدرسة عامة والمدرسة الكاثوليكية خاصة دورًا اساسيًا ومميّزا. ذلك أن البيئة البشرية والبيئة الطبيعية، ونضيف اليهما البيئة السياسية، هي اركان "بيتنا المشترك" على ما يكتب البابا فرنسيس في رسالته، وتتدهور معًا. ولا مجال لمواجهة هذا التدهور إلا بوعي الاسباب التي أدّت الى التدهور البشري والاجتماعي والسياسي اولاً، وبالتالي الى التدهور البيئي" (فقرة 48). والامر يعود في الاساس الى الرباط العضوي القائم بين الانسان والطبيعية، كالرباط بين الشجرة وثمارها. فإذا كانت صالحة كانت ثمارها صالحة، وإذا كانت فاسدة كانت ثمارها فاسدة (راجع متى 7: 17)
فلا بدّ من العودة الى لاهوت البيئة انطلاقًا من الكتاب المقدس، من اجل استكشاف السلوكيات الاخلاقية، وادراك دور المدرسة الكاثوليكية في التربية البيئية. هذه النقاط الثلاث تشكل مضمون كلمتي.
أولاً، لاهوت البيئة في الكتاب المقدس
3. ليس الكون، ارضًا وفضاءً وشجرًا ونباتًا وماءً وانسانًا، وليد الصدفة. بل هو إرادة إلهية واضحة. ففي الفصل الأوّل من سفر التكوين، يُصدر الله أمرًا مباشرًا بخلق كلّ شيء: ليكن نور (تك1:3)، ليكن جلد (تك1:6)، لتظهر اليابسة (تك1:9)، لتنبت الأرض عشبًا (تك1:11)، لتكن أنوار في جلد السماء (تك1: 14)،لتفض المياه زحّافات (تك1:20)، لتُخرج الأرض ذوات أنفس حيّة (تك1:24) لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا (تك1:26). إذًا كلّ خليقة على وجه الأرض هي إرادة إلهيّة، اهتمّ الربّ بخلقها بشكل خاص. لم يوجد شيء بالصدفة بل بقرار مباشر من الخالق. خلقها في سبعة أيّام، للدلالة على أنه كخالق مهتمّ بالتفاصيل ومعطيًا وقتًا لكلّ شيء. تكريس الوقت هو رمز الحبّ والعناية. وهو دليل على قيمة المخلوقات في نظر الله.
4. لقد أوكل الله الى الانسان المحافظة على خلقه (راجع تك 1: 28): على الارض الاكولوجية الطبيعية، وعلى الانسان الاكولوجية البشرية، وعلى الجماعة البشرية الاكولوجيا السياسية. بهذا التوكيل جعل الانسان شريكًا له في عمل الخلق. فبات كل تشويه او تلوّث للاكولوجية بأبعادها الثلاثة من نوع "الخطايا ضد البيئة"، كما يسميها البابا فرنسيس وهي خطايا ضد الله وتصميم محبته الخلاصية، لا مجرّد مخالفة اجتماعية أو قانونية.
5. الخطيئة المرتكبة ضد الله مباشرة أو ضدّ الانسان تدمّر البيئة ونظامها الطبيعي. فلنا شاهد أول في خطيئة أبوينا الأولين، آدم وحواء، وهي الأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، التي تعني إرادته وجشعه بأن يكون هو سيّد هذا العالم، وبالتالي أن يقرّر هو ما هو الخير وما هو الشرّ، وأن يحدّد هو، انطلاقًا من أنانيّته، كيفيّة مسيرته على هذه الأرض. نجد في هذه الصورة، التعبير الأوّل عن ثقافة الاستهلاك الجشع واستباحة خيرات الأرض بدون حساب. إنّها أوّل عمليّة تلوّث سبّبها الإنسان للطبيعة. ويبيّن النصّ البيبلي بأنّ العقاب الناتج عن هذه الخطيئة هو من النوع البيئيّ بامتياز إذ قال له الله: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كلّ أيّام حياتك. وشوكًا وحسكًا تُنبت لك" (تك٣:١٧-١٨). التلوث بالخطيئة، بالأنانيّة، يصيب الأرض باللّعنة فتصبح جرداء قاحلة.
6. هي أنانية البشر إياها تتسبب بكل انواع التلوّث. فلنفكّر بقطع الاشجار غير المنظّم والمقالع والكسارات ومعامل الحجارة العشوائية ورمي النفايات على الطرقات والساحات وفي الاحراج والبحر والانهار والسدود. بسبب هذه الأنانية نفسها عجزت الحكومة عندنا والمسؤولون السياسيون عن حلّ مسألة النفايات وتسببوا بانتشار الأوبئة والأمراض، وأقصوا السوّاح عن أرضنا الجميلة.
7. ولنا مثل ثانٍ من الكتاب المقدس عن الخطيئة ضدّ البيئة في خطيئة قايين الذي قتل اخاه هابيل، فكان عقابه من الله: أن الارض لن تعود تعطيه ثمرها ولو عمل فيها (راجع تك 4: 12). وأضاف الله: "ملعون انت من الارض" (تك 4: 11). فهي ترد له جزاء جرمه. وهكذا يدخل الانسان في حرب مع الارض. بخطيئته يدمرها وهي تنتقم منه. إن تلوّث الطبيعة على أنواعه يحرم الانسان من الهواء النقي، وتتفشى الاوبئة وتنتشر الامراض.
8. يقتضي لاهوت البيئة احترام النظام الالهي لها. فمخالفته تعود إلينا بالشر، كما نبّه الرب آدم: "إن أكلتَ من شجرة معرفة الخير والشر تموت موتًا" (تك 2: 17). ما يعني أن هذا النظام خارج عن خيارات الانسان وسيطرته. فما علينا إلاّ أن نعيش ونتصرف انطلاقًا من هذا الواقع المنّظم لخيرنا، وقد أُعطي لنا مسبقا من الله، ويسبق وجودنا وقدراتنا (الفقرة 140). هذا النظام يوّلد السلام بين سكان الارض، ويحمي شريعة التنّوع والتكامل والتناغم.
ثانيًا، السلوكيات الاخلاقية
9. في ضوء الربط بين خطيئة الانسان وتلوث البيئة، تبدأ معالجة المسألة البيئية بمعالجة الانسان بتربية سلوكياته الاخلاقية تجاه الانسان الآخر والمجتمع والوطن (الاكولوجية البشرية والاكولوجيا السياسية)، وتجاه الطبيعة ومكوّناتها (الاكولوجية الطبيعية). وهذه مسؤولية الدولة والمجتمع، كما هي مسؤولية العائلة والكنيسة، والمدرسة والجامعة، وهي ايضًا وبخاصة مسؤولية الحكم والاحزاب السياسية والمؤسسات الاعلامية وتقنياتها الحديثة. وكم يؤسفنا ويؤلمنا في آن هذا التخاطب المسيء والمنحّط الى أقسى درجات الانحطاط الذي نشهده ونقرأه عبر وسائل التواصل، التي أصبحت وبكلّ أسف وسائل تفكيك لاوصال العائلة الاجتماعية والوطنية. فلا يمكن الاستمرار بمثل هذه السلوكيات المشينة والهدّامة.
10. من السلوكيات الاخلاقية التي يشير اليها قداسة البابا فرنسيس نذكر:
1) الالتزام في ايكولوجية متكاملة تشمل البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحياة اليومية، ومبدأ الخير العام والعدالة، والتضامن كمسؤولية كلنا عن كلنا (راجع الفصل الرابع من رسالة البابا فرنسيس "كن مسبحًا").
2) خلق ايكولوجية سياسية ومواطنية (الفقرة 261) على المستويين اللبناني والدولي:
فعلى المستوى اللبناني، قوامها احترام الدستور والقوانين والميثاق الوطني والشرائع في البلاد والالتزام بها بحيث تعطيها قوة وثباتًا، وتوّلد بدورها الثقة لدى المؤمنين بوطنهم وبالتالي خلق بيئة سياسية عندنا تحترم وتتصالح مع ذاتها كون العمل السياسي هو خدمة الخير العام الذي منه خير كل مواطن وكل المواطنين.
اما على المستوى الدولي، فخلق ايكولوجية سياسية يتطلّب من الاسرة الدولية ان تحترم ذاتها وان تتوب وتتصالح. فالاسرة الدولية المتمثّلة بمنظمة الامم المتحدة وُجدت لحماية السلام وتعزيزه بين الدول ولحماية الدول الصغيرة من جشع الدول الكبيرة.
3) القيام بفعل توبة ايكولوجية بأبعادها الثلاثة، دعا إليها القديس البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة "فادي الانسان" (الفقرة 5). وهي ردّة فعل تجعلنا نقول: "لا يمكن استمرار العيش في مثل هذه الحالة. بل علينا أن نغيّر سلوكيات حياتنا". هذه التوبة يدعو إليها أيضًا البابا فرنسيس بروح الرجاء فيقول: "إن الامور يمكن تغييرها، وما زال بإمكان البشرية أن تتعاون من أجل بناء بيتنا المشترك" (الفقرة 13).
ثالثًا، دور المدرسة الكاثوليكية في التربية البيئية
11. يدعو قداسة البابا فرنسيس في الفصل السادس والاخير من رسالته العامة "كن مُسبّحًا" إلى "التربية البيئية"، ويسمّيها "روحانية الايكولوجية" التي تُربّي على نمط آخر من الحياة، اذ تجدّد باخلاصٍ العهد بين البشرية والبيئة، بروحانية القديس فرنسيس الاسيزي المميّزة بالفرح والسلام. وتربّي على اخلاقية العلاقة مع الايكولوجية الطبيعية والايكولوجية البشرية والايكولوجية السياسية، وعلى المحبة المدنية والوطنية والسياسية. هذه التربية هي في عهدة مدارسنا الكاثوليكية خاصة، ومدارسنا الرسمية بشكل عام.
12. تنطلق التربية البيئية من ايكولوجية متكاملة قوامها الرباط غير المنفصم بين الاهتمام بالطبيعة، التي منها نعيش، والعناية بالفقراء والمهمّشين، والعدالة الاجتماعية، وحماية الجنين، لكونه كائنًا بشريًا منذ اللحظة الأولى لتكوينه في حشا امه، وقيمة الشخص البشري وكرامة الانسان، واحترام المجتمع والوطن. اذا لم نكتسب كلنا هذه التربية البيئية، على ما يقول البابا فرنسيس، "يكون من الصعب الاصغاء الى صرخات الطبيعة نفسها" (الفقرة 117).
13. إن أساس التربية البيئية إحياء الايمان والعلاقة السليمة مع الله لكي تسلم مع الناس والطبيعة. "سلام مع الله، سلام مع الخليقة كلها". فالله أبٌ كشف المسيح أبوته في تعليمه الداعي الى الاعتراف بعلاقة الله الابوية مع جميع الخلائق التي كلها وكل واحدة منها ثمينة في عينيه: "أما يُباع خمسة عصافير بفلسين؟ ومع ذلك فلا ينسى أحد منها عند أبيكم؟ انظروا الى طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الاهراء، وأبوكم السماوي يقوتها . تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. إنها لا تتعب ولا تغزل. أقول لكم إن سليمان في كل مجده لم يلبس كواحدة منها" (راجع متى 6: 26-30).
لا يمكننا الوصول الى مجتمع سليم إلاّ من خلال تفعيل التعليم المسيحيّ في مدارسنا على أعلى مستوى ممكن. نأسف أن ينظر البعض إلى التعليم المسيحيّ وكأنّه أمر غير ذي أهمية، ومجرّد نشاط اختياريّ، متروك لهوى الطالب. غير أنّ الكوارث البيئيّة المحيطة بنا والخطر الداهم على الصحّة والاقتصاد والموارد الطبيعيّة وحتّى على موارد الغذاء والماء في الأرض بيّنت لنا الخطأ بإهمال التنشئة الدينيّة، والتنشئة على حسن السلوك وأصول التصرّف في المجتمع. كانت هذه التنشئة إلزاميّة في مدارسنا الكاثوليكيّة. بفقدانها بات شبابنا يعتبرون أن الأصول والتقاليد الاجتماعية بروتوكولات خارجيّة عتيقة وعقيمة لا فائدة منها. فكانت النتيجة الفوضى واللاخلاقية.
14. من دون هذه التربية على الايمان واخلاقية التصرف، سوف نُنتج أنسانًا يحمل إعاقة حقيقية. إن النجاح العلمي للطالب يشكل جزءًا مهمًّا من شخصيته، لكن شخصيته لا تكتمل الا بابعادها الاخرى الروحية والاخلاقية والانسانية والاجتماعية. إذا فقد احداها، يصبح شبيهًا بمن يفقد عضوًا أو ناحية من جسده. وهذا يُسمّى اعاقة تشلّ كلّ هذه الابعاد التي يُضاف إليها احترام النظافة والبيئة. جميع هذه الاعاقات تلوّث الايكولوجية البشرية والطبيعية والسياسية على السواء. أما إذا وفّرت مدارسنا الكاثوليكية تربية بيئية متكاملة، فإنما تنمّي العقل والايمان والاخلاق، وتكتسب ثقة الاهل ومحبة الطلّاب لها. هذه هي القيمة المضافة التي تقدّمها مدرستنا الكاثوليكية بنوع خاص.
15. وأخيرًا لا آخرًا، تقتضي التربية المتكاملة في مدارسنا ان تشمل قطاعات ونشاطات يَكتمل بها صقل شخصية الطالب. نذكر منها اثنين:
أ. التربية على مجابهة ما يُسمى "بثقافة الهدر" و"الهوس الاستهلاكي". وهما السعي الدائم الى شراء وامتلاك كل ما تخرجه الموضة والتكنولوجيا. لكن هذه التربية تستدعي رؤية المثال في ادارة المدرسة، عندما لا تنجرف الى التغيير من اجل التغيير في اثاث المكاتب، وفي الكتب والهندام المدرسي وسواها، بروح اقتصادي سليم، يميّز بين الشكليات والجوهر.
ب. تنظيم نشاطات بيئية تشمل فرز النفايات بشكل علمي وبيع ما يلزم منها والاستفادة من دخلها لدعم الطلاب المحتاجين، وتعزيز المساحات الخضراء، والقيام بحملات تشجير سنوية سواء في حرم المدرسة أم في خارجها، والتعرّف الى التراث الطبيعي والتاريخي والاثري والفني والثقافي، ومعرفة استقراء الطبيعة التي كان يعتبرها القديس فرنسيس الاسيزي "كتاب الله" الذي يكلمنا به ومن خلاله كل يوم، وعلينا أن نتعلم الاصغاء لهمسات الطبيعة (راجع الفقرتين 12 و143).
16. في ختام كلمتي أتمنّى، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، النجاح لهذا المؤتمر، في محاوره الأربعة، آملين أن يبلغ أهدافه في تأمين تربية بيئية لطلّاب مدارسنا، بحيث تشمل هذه التربية أهلهم من أجل بيئة بشرية وطبيعية ووطنية وسياسية أسلم ينعم بها لبنان وشعبه، فتعود إليه حياته الجميلة السالفة.
عشتم! عاشت مدارسنا! وعاش لبنان!