الفاتيكان
18 كانون الأول 2020, 14:30

كانتالاميسا: عيد الميلاد هو عيد تواضع الله

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "فسكن بيننا" (يوحنّا 1/ 14)، ألقى واعظ الكرسيّ الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثّالث والأخير لزمن المجيء، في قاعة بوس السّادس، بحضور البابا فرنسيس، قال خلاله بحسب "فاتيكان نيوز":

""وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه!" إنّها الصّرخة الحزينة ليوحنّا المعمدان الّتي سمعناها في إنجيل الأحد الثّالث من زمن المجيء والّتي نريد أن نردّد صداها في هذا للقاء الأخير قبل الميلاد. في الرّسالة الّتي لا تنسى لبركة مدينة روما والعالم في السّابع والعشرين من آذار مارس الماضي في ساحة القدّيس بطرس، بعد قراءة إنجيل تهدئة العاصفة، تساءل الأب الأقدس عن طبيعة "قلّة الإيمان" الّذي يوبّخ يسوع عليه تلاميذه، وأوضح: هم لم يتوقّفوا أبدًا عن الإيمان به وبالتّالي توسّلوا إليه، لكنّنا نرى كيف توسّلوا إليه: "يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟". أما تبالي: يعتقدون أنّ يسوع لا يهتمُّ لأمرهم ولا يعتني بهم. وأحد أكثر الأمور الّتي تؤذينا هي عندما نسمع فيما بيننا وفي عائلاتنا من يقول لنا: "أما تبالي بي؟". إنّها جملة تجرح وتولِّد عاصفة في القلب. قد تكون قد هزّت يسوع أيضًا لأنّه ما من أحد يهتمُّ لأمرنا أكثر منه.

يمكننا أيضًا أن نرى فارقًا بسيطًا آخر في توبيخ يسوع. لم يفهموا من كان معهم على السّفينة. لم يفهموا أنّه بوجوده على متن السّفينة لا يمكن للسّفينة أن تغرق لأنّ الله لا يمكنه أن يهلك. ونحن تلاميذ اليوم نرتكب خطأ الرّسل عينه ونستحقّ نفس التّوبيخ من يسوع إذا نسينا، في العاصفة العنيفة الّتي ضربت العالم بالوباء، أنّنا لسنا وحدنا في السّفينة وتحت رحمة الأمواج. يسمح لنا عيد الميلاد بتوسيع آفاقنا: من بحيرة الجليل إلى العالم أجمع، من الرّسل إلينا: "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا". "الله معنا" أيّ إلى جانب الإنسان، وهو صديقه وحليفه ضدّ قوى الشّرّ. وبالتّالي علينا أن نجد مجدّدًا المعنى الأساسيّ والبسيط لتجسّد الكلمة، بعيدًا عن كلّ التّفسيرات والعقائد اللّاهوتيّة المبنيّة عليه. لقد جاء الله ليسكن بيننا! وأراد أن يجعل من هذا الحدث اسمه: عمّانوئيل، الله معنا. إن ما تنبّأ به إشعياء "هوذا العذراء ستحبل وتلد ابنًا ستدعوه عمّانوئيل" قد أصبح حقيقة وواقعًا.

لم تكن المعركة الكبرى الأولى الّتي واجهها الإيمان بالمسيح هي معركة ألوهيّته، بل معركة إنسانيّته وحقيقة التّجسّد. وفي أصل هذا الرّفض كان هناك عقيدة أفلاطون القائلة "لا يوجد إله يختلط بالإنسان". لكنَّ القدّيس أوغسطينوس قد اكتشف، من خبرته الشّخصيّة، أنَّ جذور صعوبة الإيمان بالتّجسّد، هي نقص التّواضع. ويكتب في اعترافاته "لم أكن متواضعًا ولذلك لم أفهم تواضع الله". تساعدنا خبرته على فهم جذور الإلحاد الحديث وتبيّن لنا الطّريقة الوحيدة الممكنة للتّغلّب عليه. إنّ خبرة أوغسطينوس تشير أيضًا إلى طريقة التّغلّب على العقبة: إلقاء الكبرياء جانبًا وقبول تواضع الله. "أحمدك، أيّها الآب، ربّ السّماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه الأشياء عن الحكماء والعلماء وكشفتها للصّغار": إنّ كلّ تاريخ عدم إيمان الإنسان يُفسَّر بكلمات المسيح هذه. يقدّم لنا التّواضع المفتاح لكي نفهم التّجسّد. إنَّ التّباهي لا يتطلّب سوى القليل من القوّة؛ ولكنَّ التّنحّي جانبًا وإلغاء الذّات يتطلّبان الكثير. والله هو قوّة إخفاء الذّات اللّامحدودة: "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب".

الله محبّة ولهذا فهو تواضع! إنَّ الحبّ يخلق إدمانًا على من تحبّ، إدمان لا يذلّ، بل يجعلك سعيدًا. إنَّ العبارتين "الله محبّة" و"الله تواضع" هما وجهان لعملة واحدة. ولكن ماذا تعني كلمة تواضع كما تنطبق على الله وبأيّ معنى يمكن ليسوع أن يقول: "تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب"؟ التّفسير هو أنّ التّواضع الأساسيّ لا يتمثل في كون المرء صغيرًا (في الواقع يمكن أن يكون المرء صغيرًا دون أن يكون متواضعًا)؛ كما أنّه لا يقوم على أن يعتبر المرء نفسه صغيرًا (قد يكون هذا بسبب فكرة سيّئة عن نفسه)؛ كما أنّه لا يقوم أيضًا على إعلان نفسه صغيرًا (يمكن للمرء أن يقول ذلك دون أن يصدّقه)؛ إنّ التّواضع يقوم على أن نجعل أنفسنا صغارًا وذلك بدافع الحبّ، لكي نرفع الآخرين. وعيد الميلاد هو عيد تواضع الله، وللاحتفال به بالرّوح والحقّ يجب أن نجعل من أنفسنا صغارًا، تمامًا كما يجب علينا أن ننحني لكي ندخل من الباب الضّيّق الّذي يؤدّي إلى كنيسة المهد في بيت لحم.

دعونا نعود إلى قلب السّرّ: "الكلمة صار جسدًا فسكن بيننا". الله معنا إلى الأبد وهذا أمر لا رجعة فيه. هذا، من الآن فصاعدًا، هو الموضوع المحوريّ للنّبوءة المسيحيّة. لقد حيّا زكريّا السّابق إذ دعاه "نبيّ العليّ"، وقال عنه يسوع إنّه "أكثر من نبيّ". ولكن بأيّ معنى يُعتبر يوحنّا المعمدان نبيًّا؟ أين النّبوءة في حالته؟ لقد أعلن أنبياء الكتاب المقدّس عن خلاص في المستقبل؛ لكن يوحنّا المعمدان لا يعلن خلاصًا في المستقبل؛ بل يشير إلى من يقف أمامه. لقد ساعد الأنبياء القدماء النّاس على تجاوز حاجز الزّمن؛ أمّا يوحنّا المعمدان فقد ساعد النّاس على تجاوز الحاجز الأكبر للمظاهر المعاكسة. فهل سيكون المسيح الّذي طال انتظاره- الّذي انتظره الآباء وأعلنه الأنبياء وغنّته بالمزامير - إذن ذلك الرجل ذو المظاهر والأصول المتواضعة والعادية، والّذي نعرف كلّ شيء عنه، بما في ذلك موطنه الأصليّ؟ لقد كانت هذه مهمّة نبويّة تفوق طاقة البشر، وبالتّالي يمكننا أن نفهم سبب تسمية السّابق "أكثر من نبيّ". إنّه الرّجل الّذي يشير بإصبعه إلى شخص ما ويعلن قائلاً: "هوذا حمل الله!". أعتقد أنّ يوحنّا المعمدان قد ترك لنا مهمّته النّبويّة: أن نستمرّ في الصّراخ: "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه!". لقد افتتح النّبوءة الجديدة الّتي لا تتمثّل في إعلان خلاص مستقبليّ، ولكن في الكشف عن حضور المسيح في التّاريخ: "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم". فالمسيح ليس حاضرًا في التّاريخ فقط لأنّه يُكتب ويتحدّث عنه باستمرار، ولكن لأنّه قام من الموت ويعيش بحسب الرّوح؛ ومن هنا تبدأ البشارة.

في زمن المعمدان، كانت الصّعوبة الجسد الماديّ ليسوع، جسده الّذي يشبه جسدنا، باستثناء الخطيئة. أمّا اليوم، فجسده السّرّيّ، أيّ الكنيسة، هو الّذي يسبّب الصّعوبات وهو سبب عثرة. إذ يشبه البشريّة كلّها وليس معصومًا عن الخطيئة! ولكن كما جعل السّابق معاصريه يتعرّفون على المسيح في ظلّ تواضع الجسد، كذلك من الضّروريّ اليوم أن نجعل النّاس يتعرّفون عليه في فقر وبؤس كنيسته، وكذلك في فقر وبؤس كلّ فرد منّا. لكن يجب أن نضيف شيئًا إلى ما قيل حتّى الآن. في الواقع، لا يهمّ أن نعرف فقط أنّ الله صار إنسانًا. وإنّما من المهمّ أيضًا أن نعرف نوع الإنسان الّذي صاره الله. مهمّة جدًّا الطّريقة المختلفة والمتكاملة الّتي يصف بها كلّ من يوحنّا وبولس حدث التّجسّد. إنّ التّمييز بين واقع التّجسّد ونمطه، بين أبعاده الكيانيّة والوجوديّة، يثير اهتمامنا لأنّه يلقي ضوءًا فريدًا على مشكلة الفقر الحاليّة وموقف المسيحيّين تجاهها. كما يساعدنا على إعطاء أساس بيبليّ ولاهوتيّ للاختيار التّفضيليّ للفقراء، الّذي أعلنه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني.

"سرّ" الفقر! إنّها كلمات قويّة لكنّها راسخة. إذا كان الكلمة بواقع التّجسّد، قد أخذ على عاتقه كلّ إنسان (كما اعتقد بعض الآباء اليونانيّين)، فبالطّريقة الّتي حقّق ذلك، أخذ لقبًا مميّزًا للغاية، الفقير والمتواضع والمتألّم. لقد "أسّس" هذه العلامة، كما أسّس الإفخارستيّا. في الواقع، ذلك الّذي قال على الخبز: "هذا هو جسدي"، قال الكلمات عينها عن الفقراء أيضًا. لقد فعل ذلك عندما تحدّث عمّا تمَّ فعله- أو لم يتمَّ فعله- للجائع، والعطشان، والسّجين، والعريان، والمنفيّ، وأعلن قائلاً: "فلي قد صَنَعتُموه" و"فَلي لم تَصنَعوه". إنَّ الفقراء هم "للمسيح"، ليس لأنّهم يعلنون أنّهم ينتمون إليه، ولكن لأنّه أعلن أنّهم ينتمون إليه، وأعلنهم جسده. هذا لا يعني أنّه يكفي أن تكون فقيرًا وجائعًا في هذا العالم لكي تدخل تلقائيًّا إلى ملكوت الله. إنَّ الكلمات: "تعالوا يا مباركي أبي" هي موجّهة للّذين قد اعتنوا بالفقراء، وليس بالضّرورة للفقراء أنفسهم، لمجرّد كونهم فقراء مادّيًّا في الحياة. لذلك فإنّ كنيسة المسيح هي أكبر بكثير ممّا تشير إليه الأرقام والإحصاءات. لأنّه لا أحد باستثناء يسوع قد قال، "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه"، حيث "الأخ الأصغر" لا يشير فقط إلى المؤمن بالمسيح، وإنّما إلى كلّ إنسان. ويترتّب على ذلك أنّ البابا- ومعه رعاة الكنيسة الآخرون- هو حقًّا "أبو الفقراء". إنّه لفرح وحافز لنا جميعًا أن نرى إلى أيّ مدى قد أُخذ هذا الدّور على محمل الجدّ من قبل البابوات الأخيرين، ولاسيّما من قبل الرّاعي الّذي يجلس اليوم على كرسيّ بطرس. إنّه الصّوت الأكثر نفوذًا الّذي يرتفع دفاعًا عنهم، في عالم لا يعرف إلّا الانتقاء والتّهميش. وهو لم ينسَ الفقراء فعلاً!

نقرأ عن مريم ويوسف في الإنجيل أنّه "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة". واليوم أيضًا لا يوجد مكان للفقراء في مضافة العالم، لكن التّاريخ قد أظهر الجانب الّذي وقف الله فيه والجانب الّذي يجب أن تكون الكنيسة فيه. إنّ الذّهاب إلى الفقراء هو تشبّه بتواضع الله، وهو أن يجعل المرء نفسه صغيرًا بدافع المحبّة، لكي يرفع من هو الأسفل. "الكلمة صار جسدًا فسكن بيننا". قبل الختام، علينا أن ننتقل من الجمع إلى المفرد. إنّ الله لم يأتِ إلى العالم بشكل عام، بل جاء بشكل شخصيّ إلى كلّ روح مؤمنة. قال يسوع: " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقامًا". لذلك فالمسيح ليس حاضرًا فقط على متن سفينة العالم أو الكنيسة؛ ولكنّه موجود في قارب حياتي الصّغير. هناك تأكيد جريء حول عيد الميلاد قد تردّد من عصر إلى عصر، على شفاه كبار الملافنة ومعلّمي الرّوح في الكنيسة: ويقول بما معناه: "ما النّفع لي أن يكون المسيح قد ولد مرّة واحدة في بيت لحم من مريم ما لم يولد بالإيمان في قلبي أيضًا؟ ويكتب القدّيس أمبروسيوس: "أين يولد المسيح، إن لم يكن في قلبك وروحك؟"، ويؤكّد القدّيس مكسيموس المعترف: "إنّ كلمة الله يريد أن يكرّر في جميع النّاس سرّ تجسّده". وهذه كما نرى حقيقة مسكونيّة حقًّا.

مكرّرًا صدى هذا التّقليد، رفع القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون، في رسالة عيد الميلاد لعام 1962، هذه الصّلاة الحارّة: "يا كلمة الآب الأزليّ، ابن الله ومريم، جدّد اليوم، في سرّ النّفوس، معجزة ولادتك الرّائعة". لنتبنَّ هذا الصّلاة نحن أيضًا ولكن في الوضع المأساويّ الّذي نعيشه، لنضف عليها أيضًا التّضرّع الحارّ الّذي ترفعه ليتورجيا عيد الميلاد: "يا ملك الأمم، الّذي تنتظره جميع الأمم، حجر الزّاوية الّذي يوحّد الشّعوب في شعب واحد: تعال وخلّص الإنسان الّذي صنعته من الأرض". تعال وارفع البشريّة المنهكة من المحنة الطّويلة لهذا الوباء."