الفاتيكان
11 آذار 2022, 14:30

في تأمّله الأوّل لزمن الصّوم، كانتالاميسا: الإفخارستيّا هي جزء من تاريخ الخلاص

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "ليتورجيّة الكلمة"، ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الأوّل لزمن الصّوم في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"من بين العديد من الشّرور الّتي تسبّبت فيها جائحة الكورونا للبشريّة، كان هناك تأثير إيجابيّ واحد على الأقلّ من وجهة نظر الإيمان. لقد جعلتنا ندرك الحاجة إلى الإفخارستيّا والفراغ الّذي يخلقه غيابها. لذلك قرّرت بعض الكنائس المحلّيّة والوطنيّة تكريس العام الحاليّ لتعليم خاصّ حول الإفخارستيّا، في ضوء إعادة إحياء إفخارستيّ في الكنيسة الكاثوليكيّة. لذلك فكّرت في تقديم مساهمة صغيرة للمشروع، من خلال تكريس تأمّلات هذا الصّوم الكبير لإعادة تفسير السّرّ الإفخارستيّ. إنّ الإفخارستيّا هي محور كلّ زمن ليتورجيّ، إنّها ما نحتفل به كلّ يوم، الفصح اليوميّ. وكلّ تقدّم بسيط في فهمها يُترجم إلى تقدّم في الحياة الرّوحيّة للشّخص وللجماعة الكنسيّة. لذلك فالحديث عن الإفخارستيّا في زمن الجائحة والآن، بالإضافة إلى أهوال الحرب الّتي نراها أمام أعيننا، ليس تجريدًا من الواقع الّذي نعيش فيه، ولكنّه دعوة لكي ننظر إليه من نقطة أعلى وأقلّ عرضيّة، لأنَّ الإفخارستيّا هي الحضور في تاريخ الحدث الّذي قلب إلى الأبد الأدوار بين المنتصرين والضّحايا، لأنَّ المسيح على الصّليب جعل الضّحيّة الفائز الحقيقيّ.

نبدأ بسؤال: ما هو المكان الّذي تحتلّه الإفخارستيّا في تاريخ الخلاص؟ الجواب: هي لا تشغل مكانًا، بل تشغله كلّه! الإفخارستيّا هي جزء من تاريخ الخلاص. ففي العهد القديم، كانت الإفخارستيّا حاضرة "في الصّور"، وإحدى هذه الصّور هي المَنّ، والأخرى هي ذبيحة ملكيصادق، وصورة أخرى أيضًا هي ذبيحة إسحاق. مع مجيء المسيح وسرّ موته وقيامته، لم تعد الإفخارستيّا حاضرة كصورة، بل كحدث وكحقيقة. نسمّيها "حدثًا" لأنّها شيء حدث تاريخيًّا، حدث فريد في الزّمان والمكان، حدث مرّة واحدة فقط ولا يتكرّر: فالمسيح "لم يَظهَر إِلّاَ مَرَّةً واحِدَةً في نِهايَةِ العالَم لِيُزيلَ الخَطيئَةَ بِذبيحَةِ نَفسِه" (عبرانيّين ٩، ٢٦). أخيرًا، في زمن الكنيسة، تحضر الإفخارستيّا كسرّ، أيّ تحت علامة الخبز والخمر الّتي أسّسها المسيح.

وفقًا للتّاريخ، لم يكن هناك سوى إفخارستيّا واحدة، تلك الّتي قام بها يسوع بحياته وموته؛ من ناحية أخرى، وفقًا للّيتورجيا، أيّ بفضل السّرّ، هناك العديد من الاحتفالات الإفخارستيّة الّتي تمَّ الاحتفال بها وسيتمّ الاحتفال بها حتّى نهاية العالم. تمَّ الحدث مرّة واحدة فقط، ولكنَّ السّرَّ يتحقّق "في كلّ مرّة". بفضل سرّ الإفخارستيّا، نصبح بشكل سرّيٍّ معاصرين للحدث؛ يحضر الحدث فينا ونحن في الحدث. سيكون موضوع تأمّلاتنا خلال الصّوم الإفخارستيّا في مرحلتها الحاليّة، أيّ كسرّ. ما نعتزم القيام به هو تعليم تنشئة صغير حول الإفخارستيّا. لكي نبقى راسخين قدر الإمكان في الطّبيعة السّرّيّة والطّقسيّة للإفخارستيّا، سنتابع عن مراحل القدّاس في أجزائه الثّلاثة- ليتورجيّة الكلمة، واللّيتورجيا الإفخارستيّة، والمناولة- وسنضيف في النّهاية تأمّلًا حول العبادة الإفخارستيّة خارج الذّبيحة الإلهيّة.

في الأيّام الأولى للكنيسة، كانت ليتورجيا الكلمة منفصلة عن اللّيتورجيا الإفخارستيّة. يخبرنا سفر أعمال الرّسل، أنَّ التّلاميذ كانوا "يُلازِمونَ الهَيكَلَ كُلَّ يَومٍ بِقَلبٍ واحِد"؛ وهناك كانوا يصغون إلى قراءة الكتاب المقدّس ويتلون المزامير والصّلوات مع اليهود الآخرين، ويقومون بكلِّ ما يتمُّ القيام به في ليتورجيا الكلمة. وبالتّالي كانوا يجتمعون على حدة، في منازلهم، "لكسر الخبز"، أيّ للاحتفال بالإفخارستيّا. لكن سرعان ما أصبحت هذه الممارسة مستحيلة إن كان بسبب العداء تجاههم من جانب السّلطات اليهوديّة، وإمّا لأنّ الكتاب المقدّس قد اكتسب الآن معنى جديدًا بالنّسبة لهم، وأصبح موجّهًا بأسره نحو المسيح. وهكذا، انتقل الإصغاء إلى الكتاب المقدّس أيضًا من الهيكل والمجمع إلى أماكن العبادة المسيحيّة، متّخذًا تدريجيًّا ملامح اللّيتورجيا الحاليّة للكلمة الّتي تسبق الصّلاة الإفخارستيّة.

عند الإصغاء إليها في اللّيتورجيا، تكتسب القراءات البيبليّة معنى جديدًا وأقوى من قراءتها في سياقات أخرى. لأنّ هدفها ليس التّعرّف على الكتاب المقدّس بشكل أفضل، كما هو الحال عندما تقرأه في المنزل أو في مدرسة الكتاب المقدّس، وإنّما التّعرّف على الشّخص الّذي يجعل نفسه حاضرًا في كسر الخبز، وإلقاء الضّوء في كلّ مرّة على جانب معيّن من السّرِّ الّذي يتمّ قبوله. ويظهر هذا الأمر واضحًا في حدث تلميذي عمّاوس. أمّا الميزة الثّانية فهي أنّه وفي القدّاس، لا تُروى كلمات وأحداث الكتاب المقدّس فحسب، بل تُعاش مجدّدًا؛ وتصبح الذّاكرة حقيقة وحضورًا. وبالتّالي لسنا فقط مستمعون للكلمة، ولكنّنا محاورون وفاعلون فيها. وبالنّسبة لنا، نحن الحاضرين هناك، الّذين تتوجّه الكلمة إليهم؛ نحن مدعوّون لكي نأخذ مكان الشّخصيّات الّتي تمّ استحضارها في القراءات. والتّأثيرات النّاتجة عن قراءة الكتاب المقدّس خلال الاحتفال اللّيتورجيّ تفوق أيّ تفسير بشريّ، تمامًا كالأسرار. فالنّصوص المُلهَمَة من الله لها أيضًا قوّة شفاء. ولذلك بعد قراءة المقطع الإنجيليّ في القدّاس، كانت اللّيتورجيا في الماضي تدعو الكاهن أو الشّمّاس لكي يقبِّل الكتاب المقدّس ويقول: "مَحَتْ خَطايانا تِلاوَةُ الإنجيلِ المقدَّس".

في مجرى تاريخ الكنيسة، حدثت أحداث بالغة الأهمّيّة نتيجة الإصغاء إلى قراءات الكتاب المقدّس خلال القدّاس. ذات يوم سمع شابّ مقطعًا من الإنجيل يقول فيه يسوع لشابّ غنيّ: "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني". وفهم أنّ هذه الكلمة كانت موجّهة إليه شخصيًّا، فذهب إلى بيته وباع كلّ ما لديه واعتزل في الصّحراء، كان اسم هذا الشّابّ أنطونيوس، مؤسّس الحياة الرّهبانيّة. بعد عدّة قرون، دخل شابّ آخر، إلى الكنيسة مع رفيق له. وفي الإنجيل الّذي قدّمته اللّيتورجيا في ذلك اليوم قال يسوع لتلاميذه: "لا تَحمِلوا لِلطَّريقِ شَيئًا، لا عصًا ولا مِزوَدًا ولا خُبزًا ولا مالاً، ولا يَكُنْ لأَحَدٍ مِنكُم قَميصان"، فالتفت الشّابّ إلى رفيقه وقال: "هل سمعت؟ هذا ما يريدنا الرّبّ أن نفعله أيضًا". وهكذا بدأت الرّهبانيّة الفرنسيسكانيّة.

إنَّ ليتورجية الكلمة هي أفضل مورد لدينا لكي نجعل القدّاس احتفالًا جديدًا وجذّابًا في كلّ مرة، وأن نتجنّب هكذا الخطر الكبير المتمثّل في التّكرار الرّتيب الّذي يجده الشّباب بشكل خاصّ مملًّا. لذلك هناك طريقتان لتحضير العظة. يمكن للمرء أن يجلس على طاولة ويختار الموضوع على أساس الخبرات والمعرفة؛ وبعد إعداده للنّصّ يمكنه أن يجثو على ركبتيه ويطلب من الله أن يفيض الرّوح القدس في كلماتك. إنّه أمر جيّد، لكنّها ليست طريقة نبويّة. لكي يكون المرء نبويًّا، عليه أن يتبع المسار العكسيّ: أوّلاً، أن يجثو على ركبتيه ويسأل الله ما هي الكلمة الّتي يريد أن يردّد صداها لشعبه. لأنَّ الله في الواقع، لديه كلمة في كلّ مناسبة وهو يكشفها على الدّوام لخادمه الّذي يطلبها بتواضع وإصرار. بعد ذلك، يمكن للمرء أن يجلس على طاولة، ويفتح كتبه، ويراجع ملاحظاته، ويجمع أفكاره وينظّمها، ويستعين بآباء الكنيسة، والمعلّمين، وأحيانًا بالشّعراء أيضًا؛ ولكن الآن لم تعد كلمة الله في خدمة ثقافتك، وإنّما ثقافتك في خدمة كلمة الله. وبهذه الطّريقة فقط تُظهر الكلمة قوّتها الذّاتيّة.

علينا أن نضيف شيئًا آخرًا: إنَّ كلّ الاهتمام الّذي يُعطى لكلمة الله وحده لا يكفي، إذ يجب أن ينزل على هذا الاهتمام أيضًا "القوّة من علوّ". لأنّ الرّوح القدس ما زال يواصل، في الكنيسة، عمل القائم من بين الأموات الّذي "فتح أذهان التّلاميذ بعد عيد الفصح لِيَفهَموا الكُتُب. وبالتّالي وفي ليتورجيا الكلمة، يتمُّ عمل الرّوح القدس من خلال المسحة الرّوحيّة الحاضرة في الشّخص الّذي يتكلّم والشّخص الّذي يصغي. "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء" بهذه الكلمات أشار يسوع إلى المركز الّذي تستمدّ منه الكلمة المعلنة قوَّتها. وبالتّالي سيكون من الخطأ أن نعتمد فقط على المسحة الأسراريّة الّتي تلقّيناها مرّة واحدة وإلى الأبد في السّيامة الكهنوتيّة أو الأسقفيّة، لأنّها تؤهِّلنا فقط لإتمام بعض الأعمال المقدّسة، مثل الرّعاية والوعظ وتوزيع الأسرار.

لكنَّ هذه المسحة فهي مثل البلسم الموضوع في إناء: لا ينبعث منه أيّ عطر ما لم يُفتح الإناء أو يُكسر. وبالتّالي فهذه المسحة لا تعتمد علينا، ولكن علينا أن نزيل العوائق الّتي تمنعها من أن تسطع وتُشعّ. لذلك ليس من الصّعب علينا أن نفهم معنى أن نكسر هذا الإناء. لأنّ هذا الإناء هو بشريّتنا والـ"أنا" خاصّتنا، وأحيانًا أيضًا عقلانيّتنا الجافّة. وبالتّالي أن نكسر هذا الإناء يعني أن نضع أنفسنا في حالة من الاستسلام لله والمقاومة للعالم. كذلك هذه المسحة ليست ضروريّة فقط للواعظين لكي يعلنوا الكلمة بفاعليّة، بل هي ضروريّة أيضًا للّذين يُصغون لكي يقبلوا هذه الكلمة. ولذلك كتب القدّيس يوحنّا الإنجيليّ إلى جماعته: " أَمَّا أَنتُم فقَد قَبِلتمُ المِسْحَةَ مِنَ القُدُّوس وتَعرِفونَ جَميعًا... والمِسْحَةَ الَّتي قَبِلتُموها مِنه مُقيمَةٌ فيكُم فلَيسَ بِكم حاجَةٌ إِلى مَن يُعَلِّمُكم". هذا لا يعني ذلك أنّ أيّ تعليم خارجيّ هو عديم الفائدة، ولكنّه وحده لا يفيد. "إنّ المعلّم الدّاخليّ- يكتب القدّيس أوغسطينوس- هو الّذي يعلّم حقًّا؛ إنَّ المسيح بإلهامه هو الّذي يعلّم. وعندما تغيب مسحته، عندها تحدث الكلمات الخارجيّة فقط ضوضاء عديمة الفائدة.

نتمنّى أن يكون المسيح اليوم أيضًا قد أرشدنا بإلهامه الدّاخليّ وأنّ كلماتي لم تكن مجرّد "ضجيج عديم الفائدة"".