دينيّة
07 تشرين الثاني 2016, 06:30

في الشمال.. ديرٌ ذو تاريخ عريق

تمارا شقير
يغمره تراب مقدّس، يعبق في أرجائه أريج البخّور والإيمان وعبير التّاريخ.. يقع في شمال لبنان وهو من أعرق الأديرة اللّبنانيّة وأقدمها.. أسّسه الرهبان السيسترسيّين الفرنسيّين عام 1157 كأوّل مؤسسة تابعة لهم في بلاد المشرق.. هو دير سيّدة البلمند البطريركي في الكورة أو دير البلمون سابقًا الذي شُيّد فوق آثار ديرٍ بيزنطيٍّ قديم على تلّة تعلو 300 مترًا عن سطح البحر وتبعد 80 كيلومترًا عن العاصمة بيروت.

هدّمت السّلطة الملكيّة النّاشئة عام 1289 إمارات الصّليبين وحصرت ازدهار البلمند مستوليةً على طرابلس، فآخر ذكر للدير في الوثائق السيسترسيّة يعود إلى العام 1287. لكنّ الرّهبان الأرثوذوكس بعد مرور ثلاثة قرون أعادوا تأسيسه عام 1603، اذ تفيد الصّفحة الأولى من سجّل الدّير المدوّن عام 1610 بأنّ "الدّير السيسترسيّ رممّ على يد رهبان أرثوذكسيين بعد أن أهمل 330 سنة إثر اتّفاق تمّ بين رئاسة الكنسيّة الأرثوذوكسيّة والأعيان والرهبان وسكان منطقة الكورة".

بحلول العام 1610، مع انتهاء أعمال البناء قدِم الأب مكاريوس الديراني من دير كفتون وترّبع على عرش الرّئاسة فاستقرت الحياة الرّهبانيّة في الدّير واستمرت بالإزدهار حتى أيّامنا هذه.

من جهة أخرى، يتميّز دير سيّدة البلمند بهندسته الخلّابة، فهو أشبه بقرية صغيرة تحدّها من الشمال والغرب كنيستان، كنيسة السيّدة وكنيسة القدّيس جاورجيوس، ومن الجنوب والشرق قاعات كبيرة ومخازن مقبّبة. ويتبّع الدير الهندسة السيسترسيّة فهو مغلق، وكنيستاه تقعان في أبعد مكان عن مدخل الدّير الرّئيسي، أما الأبنيّة فمنتشرة على مساحة مربّعة الشكل تحيط بها ساحة مغلقة. ويُذكر أنّ الدّير هو مرّبع الشّكل دلالة على: الرقم أربعة، عدد الفضائل الجوهريّة، عناصر الطّبيعة، أنهار عدن والأناجيل.

وتُشّكل قبة جرس كنيسة السّيدة جوهرًا للدير، اذ أنّها مبنيّة على الطراز البروفنسيّ الغوطي وهي الوحيدة في الشرق الأوسط التي تعود إلى العصور الوسطى.

شهد الدّير ترميمات عديدة على أيدي الرّهبان، فحوّلوا قاعة الإجتماع الرئيسية إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس وجمّلوا هيكل كنيسة السيّدة بإيقونسطاس خشبيّ منحوت وصلبان مزخرفة ومرسومة ولوحات زخرفيّة. وأضافوا أيضًا الجناح الحلبيّ والمدرسة والجناح البطريركي الذي شُيّد عام 1711 واستُخدم كمركز لإقامة مطران طرابلس والكورة وبيت ضيافة للبطريرك الأنطاكيّ.

تمتلك البطريركيّة الأنطاكيّة في معهد اللاهوت البلمندي 107 مخطوطات، وقد بدأ جمعها عام 1603 تزامنًا مع اعادة ترميم الدّير، وتحتوي على 97 كتابًا ليتورجيًّا و44 مخطوطة آبائيّة ولاهوتية و22 سنكسارًا (حياة القدّيسين وعجائبهم).

يتميّز أيضًا دير سيّدة البلمند بتراث ضخم من الفن الكنسيّ، فيضمّ عددًا هائلاً من الأيقونات التي تساعد الرّهبان على الصّلاة والتأمل. وإنّ أيقونة العذراء "المرشدة إلى الطريق" هي أكثرها جمالاً وروعة، ولعلّها أقدم أيقونة في الشرق الأوسط.

يُعدّ دير سيّدة البلمند البطريركيّ من أروع الأديرة اللّبنانيّة، ويتجاوز عمره الثلاثة قرون فأبوابه مفتوحة دائمًا أمام جميع المؤمنين  ليُسكر أعينهم بجماله الممزوج بالخشوع والصّلاة.