القدّيس يعقوب الحمطوريّ... قدّيس أرثوذكسيّ من لبنان
"نسك القدّيس يعقوب في دير السّيّدة في حمطورة، كوسبا – الكورة، لبنان. في أواخر القرن الخامس عشر (145 م.). برز روحيًّا بنشاطه الذي فيه ثبّت الحياة الرّهبانيّة في منطقة الدّير بعد أن دمّره المماليك. وإذ أعاد البناء وجدّد الحياة الرّهبانيّة ونشّطها، إلتفت المماليك إليه وقرّروا تغيير عزمه وثنيه عن نشاطه وتحويله عن إيمانه إلى مسلم، فلم يقبل رغم الشّدّة. وعلى عادة المماليك الذين جروا على تعذيب أخصامهم والتّنكيل بهم، أخذوه من دير القدّيس جاورجيوس في أعلى الجبل المدعوّ "حمطوره" حيث كان ينسك وجرّروه إلى مدينة طرابلس حيث الوالي. فبدأت محاكمته وتمليقه تارة، واتّهامه تارة أخرى ضاغطين عليه بتعذيبات شديدة وتهويلات. فلم ينثن، فقطعوا رأسه أخيرًا بتعسّف في الثّالث عشر من تشرين الأوّل (13 ت1). وإمعانًا بالتّعسّف، أحرقوا جسده لئلّا يسلّموه إلى الكنيسة فيتمّ تكريمه ودفنه كشهيد كما يليق بالقدّيسين المجاهدين. لكنّ اللّه توجّه بأكاليل لا تذبل ومتّعه بالنّعيم بعد الهوان في زمن قليل، فبرز في استشهاده كما كان بارزًا في حياته بل وأكثر من ذلك، فأعلنته الكنيسة قدّيسًا تكرّمه وتستشفع به .
تضرّع يعقوب بلا انقطاع إلى الرّبّ أن يؤهّله لتلبية دعوته الإلهيّة "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأنّ نيري هيّن وحملي خفيف" (متّی 11: ۲۹).
ولم يجد في أيّ مكان راحة كالّتي وجدها في التّواضع، ولم يجد أيّ اضطراب كما في الكبرياء. تواضع أمام الجميع، لهذا رفعه اللّه "إتّضعوا قدّام الرّبّ فيرفعكم" (يعقوب ١٠:٤) .
إجتذبه اللّه من الحياة الفانية إلى نور الحياة الأبديّة. فكان يعتبر نفسه من دون نعمة اللّه ليس بشيء أكثر من قصبة جافّة أو شجرة عديمة الثّمر وإناء للخطيئة وللأهواء. وإعتبر كلّ الصّالحات في داخله هي من نعمة اللّه، إذ ما يملكه هو الأهواء والخطايا فقط.
قادته الصّلاة بلا انقطاع إلى التّواضع إذ نظر إلى أعماق نفسه ولم يجد عنده شيء صالح، ولذا لا يستطيع أن يحقّق شيئًا، بلا معونة اللّه، وبالرّغم كلّ هذا لم يتوقّف عن التّضرّع إلى اللّه.
وهكذا كان يصلّي بالتّواضع وبالصّلاة، تواضع وتقدّم روحيًّا. هذا التّواضع الكامل الذي كان ينمو في ذاته ما هو إلّا لحفظ وصايا الرّبّ حفظ دقيقًا.
القدّيس يعقوب الحمطوريّ لم يلتصق بالأمور المادّيّة فبقي حرًّا من الرّوابط العالميّة المحزنة، قلبه لا يقوّيه بالمطربات العالميّة، لم يطلب راحة وعزاء في الملذّات الجسديّة لأنّه لا يرتاح أبدًا فيها.
طلب الرّبّ الخالق ليلًا ونهارًا، طلبه حتّى اقتناه، فوجده بأكمله داخل ذاته.
فأتعب نفسه وسهر وصبر حتّى تغلّب على أهوائه وضعفاته حتّى كافأه الرّبّ. "لهذا ازدد تواضعًا ما ازددت عظمة تنال حظوة لدى الرّبّ" (سيراخ ۳: 20). "كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" (يعقوب 1 : 17).
فكانت إرادة القدّيس الصّالحة تلد الأتعاب، والأتعاب تلد الفضائل، والفضائل تلد العمل الرّوحيّ الذي أدّى إلى الثّبات في الفضيلة وجعل النّفس في حالة طبيعيّة كما كانت أيّام الفردوس الإلهيّ إلى درجة ملامسة قلب اللّه.
هذه دلالات على توبته وصدقه وتذكّره اللّه دائمًا في وسط العالم المتناسي لذكر اللّه. كان دائمًا يحضر إلى ذهنه خوف رهيب ورهبة ساعة الدّينونة. هناك حيث تفتح المصاحف والكتب ليحاكم كلّ واحد. إذ سيجد كلّ المستحقّين المجد الإلهيّ والملكوت السّماويّ مفتوحًا لهم "لن يدخله شيء دنس ولا ما يصنع رجسًا وكذبًا" (رؤيا 21: 27).
لذا يقول الآباء القدّيسون: إذا متّ قبل أن تموت، فلن تموت عندما ستموت. أيّ إن متّ قبل موتك الجسديّ موتًا عن الخطيئة، عندئذ لن تكون نهاية حياتك على الأرض موتًا بل انتقالاً إلى حياة أخرى مغبوطة لا نهاية لها، وفي تلك السّاعة تستطيع أن تقول للرّبّ "مستعدّ قلبي يا اللّه، مستعدّ قلبي...".
لقد أدرك القدّيس الشّهيد يعقوب الحمطوريّ أهميّة الشّهادة الدّاخليّة وعرف قيمتها، فهو يقول مع بولس الرّسول: "إنّي أموت كلّ يوم" (1 كورنثوس ۱۵ :31). إنّ الشّهادة أيّ الموت لأجل المسيح ليس مجرّد احتمال بل هو بالحقيقة الحاضرة والمختبرة في حياتنا اليوميّة .
لهذا كان دافع الشّهادة أساسًا لحياة القدّيس يعقوب الحمطوريّ لاختيار الحياة بالمسيح .
لذا في كلّ يوم وفي كلّ ساعة كان القدّيس يعقوب مستعدًّا للحظة الشّهادة المرهوبة، إذ حفظ في ذهنه ذكر الموت. فالموت عنده لم يكن غايته، بل على العكس هو تحرّر من طغيان الأهواء واتّحاد أبديّ مع الرّبّ يسوع. ولم يجد خيرًا أكبر من الشّهادة التي تقود إلى الاتّحاد باللّه في ملكوت السّماوات.
رجاؤه وأمله وفرحه وراحته كانوا في الرّبّ الرّحيم والعطوف والرّؤوف والطّويل الأناة، وكان غناه نعمة الرّوح القدس التي كانت تظلّله، وكنزه حضور الرّبّ الحيّ حوله وداخله الذي وهبه السّلام الذي يفوق كلّ عقل. لسان حاله قول المزمور "شريعة فمك (فم الرّبّ) خير لي من ألوف ذهب وفضّة" (مزمور ۱۱9 :۷۲)، "القليل الذي للصّدّيق خير من ثروة أشرار كثيرين، لأنّ سواعد الأشرار تكسر وعاضد الصّدّيقين هو الرّبّ" (مزمور ٣7: ١٦ - ١٧) .
هكذا كانت حياته، جهاد الحياة، والحياة جهاد "غير متكاسلين في الاجتهاد وحارّين في الرّوح عابدين الرّبّ" (رومية ۱۲ :۱۱). جاهد، سهر، تيقّظ، لم يضيّع أيّ لحظة من الوقت في حياته، فالوقت أعطي له لكي تُحرث نفسه وتقتني الصّالحات الأبديّة، حرص على ألّا يخلو يومه من الأعمال الرّوحيّة والجهاد الرّوحيّ. حياته كانت الحرب المستمرّة، والوزنة التي كانت معه لم يخفها، بل ضاعفها لئلّا يسمع أبدًا "أيّها العبد الكسلان عرفت أنّي أحصد من حيث لم أزرع وأجمع من حيث لم أبذر، أما كان ينبغي أن تضع فضّتي عند الصّيارفة فعند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا" (متى ٢٥ : ٢6-٢7) .
لسرور ولغطبة، وعيد واحتفال روحيّ أبديّ للقدّيس الشّهيد يعقوب الحمطوريّ الذي اتّحد سرّيًّا بالرّبّ يسوع المسيح. لنفرح ونسلتذّ بالنّشوة الرّوحيّة بهذا القدّيس الذي اتّحد بالذي لا يموت واستحقّ الحياة الأبديّة. فطوبى للذي يحفظ وصايا الرّبّ، طوبى للذي يصون حياته، وطوبى للذي يلتهب بمحبّة اللّه الإلهيّة.
"طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم الله يعانون" (متى ٥: ٨).
فلك من قلوبنا وعقولنا وأفواهنا إذ نقول لك: "إفرح... إفرح... يا شهيدنا العظيم"."