الأردنّ
19 آذار 2020, 12:07

عيد مار يوسف البتول

نورسات/ الأردنّ
في ذكرى عيد مار يوسف البتول خطيب مريم العذراء الذي يصادف في 19 آذار من كل سنة ، نقف اجلالًا وإكرامًا لذلك الرّجل المختفي الذي لم ينطق بكلمة واحدة لا بلسانه ولا في الكتب، وحتّى الأناجيل لم تذكره إلّا ما جاء في إنجيل متّى عند سرده لقصّة ميلاد يسوع حيث قال عنه: "كان يوسف خطيبها بارًّا" (متّى 1 : 19).

تجاهل الباحثون والمؤرخون ذكره، وحتّى الكهنة والوعّاظ "مع الأسف" في عصرنا الحاضر تناسوه في خطبهم ومقالاتهم..

الرّوحانيّون وأصحاب التّقوى والفضيلة والذين هاموا بحب المسيح وذاقوا طعم التّجرّد والتّضحية ونكران الذّات، هؤلاء وحدهم رفعوه إلى المقام السّامي الذي لم ينله أحد سواه فاعتبروه : " أشرف قديس... بتولًا... عفيفًا... زين الأبكار ... يوسف المختار... كاملًا بالفضائل... مملوءًا من الإنعام ... شاهدًا لسرّ الفداء... أبًا ومربّيًا للأيتام... شفيع العوائل... جليلًا في الأنام... فخر العباد... شفيع العمّال... شفيع الميتة الصّالحة... وصديق الله".

يوسف... شاب في مقتبل العمر... لم يتميّز عن سائر أقرانه الشّباب إلّا بالتّقوى ومخافة الرّبّ هو إبن يعقوب بن ماتان من نسل داؤد الملك وابراهيم أب المؤمنين (متّى 1 : 16).

خطب يوسف فتاة طيّبة من أهل الجليل إسمها "مريم" من عائلة متواضعة تعيش كفاف يومها بسعادة وقناعة، تخدم في الهيكل وتتعبّد لربّها. إتّفق يوسف معها ومع أهلها على أن تكون زوجته، وذهب يوسف بفرح عظيم يجهّز بيته المتواضع الكائن في بلدة النّاصرة ليكون مسكنًا لمريم.

مثل سائر الشّباب في عمره، حلم يوسف بالسّعادة والعيش الكريم مع شريكة حياته ووعدها كسائر المحبّين المقبلين على الزّواج بالأمانة والإخلاص سائرًا بمشورة الرّبّ ومخافته مدى العمر.

يوسف، الصّديق والبار... لم يخطر على باله يومًا أنّ مريم ستكون أمّ المخلّص المنتظر، وأنّ الملاك جبرائيل قد حمل إليها البشارة، رغم كونه متعمّقًا بكلّ ما جاء في الكتب المقدّسة عن المسيح المنتظر وعن كيفيّة مجيئه وما قيل عنه في سفر أشعيا النّبيّ: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا... (أشعيا 7 : 14).

كان يوسف ينتظر الخلاص من الله شأنه شأن سائر شعب الله المنكوب، لأنّه بعد أن مدّ الفقر والاستياء أذياله على عموم النّاس كان الجميع ينتظر بفارغ الصّبر رسولًا من السّماء ينعش ويعيد روح الله في قلوب البشر.

وحدث ليوسف ما لم يحدث لغيره سواه... عندما أراد أن يأتي بخطيبته إلى بيته، وجدها (حبلى)... تنتظر مولودًا... فاضطرب وخاف كما جاء في الإنجيل، وتساءل ما عسى أن يكون هذا، فاحتار في أمرها.. وهكذا تعرّض يوسف لمحنة قاسية أوشكت أن يؤدّي بعلاقته مع مريم إلى حدّ القطيعة والانفصال: فهو يعتبرها شريكة عذراء طاهرة، وإذا بها حبلى.. ذلك يفوق إدراك عقله، لكن رغم ذلك لم يفقد صوابه ولا تفوّه بكلمة لا مع مريم ولا مع غيرها حول أيّ نوع من القلق والظّنون لأنّه كان مقتنعًا ببراءة مريم خطيبته، ولم يسىء الظّن بها مطلقًا، ولكن عدم تمكّنه من إيجاد تفسير لما يراه عليها من تغييرات، دفعه إلى أن يتّخذ قرارًا بتخليتها سرّا بدون إثارة ّأية ضجّة تلحق بها الضّرر، لأنّه مجرّد أن يخبر عن سرّها تنال مريم عقوبة الرّجم حتّى الموت بحسب الشّريعة اليهوديّة، لكنّه لم يفعل، قد يكون باعتقادي لهذا الأمر بالذّات يدعوه الإنجيل: البار... الصّديق .

لم يتركه الله طويلًا في حالة الشّكّ والاضطراب، فأرسل له الملاك وأخبره حقيقة مريم وشجّعه وأفهمه بأنّ الرّبّ اختاره هو أيضًا لتحمّل أعظم مسؤوليّة ألقيت على عاتق بشر، ليكون أبًا ومربّيًا لإبنه الوحيد يسوع المسيح، من دون تأثير على حرّيته أو الضّغط على قراره.

عندما أدرك يوسف مقاصد الله وتدابيره من الملاك استجاب لها واندمج معها، فآمن بالسّرّ الكبير وقبل المهمّة التي كلّفه بها الله أن يكون أمام المجتمع الأب الشّرعيّ ليسوع الذي كان الجميع يكنّونه بابن النّجار. (يوحنّا 6 : 42).

هكذا آمن يوسف واحتفظ بمريم وأتى بها إلى بيته فرحًا مسرورًا لهذا الشّرف السّامي الذي خصّه به الله ليكون مربّيًا ليسوع ابن الله.

عندما ولد يسوع تهلّل قلبه من أصوات الملائكة وهم ينشدون المجد والسّلام بمولده. مع مريم استقبل الرّعاة والمجوس الذين أتوا من الشّرق ليسجدوا له. مع مريم هرب بيسوع إلى مصر لمّا أوحي إليه أنّ حياة الطّفل مهدّدة. مع مريم ويسوع ذاق طعم التّشرّد والهرب والغربة والانتظار، لكنهّ كان ينعم بفرح كبير كونه حارس مخلّص العالم. نذر يوسف حياته كلّها مضحّيًا بكلّ ما لديه للعناية بيسوع وبأمّه مريم. أحبّهما من كلّ قلبه لذلك استحقّ أن يموت ميتة صالحة بين يدي يسوع ومريم العذراء.

هذا هو يوسف الذي ضرب أروع مثال في التّضحية والعطاء ونكران الذّات خدمة لخير البشريّة الأكبر الذي سيحققه ابنه يسوع يومًا ما، ويكفيه شرفًا وفخرًا وهو الرّجل المتواضع المختفي أن يكون قد أوصل بالتّعاون مع مريم ابنه يسوع إلى كمال الرّجولة من خلال تربية متكاملة الجوانب

هذه كانت رسالة يوسف وتضحيته العظمى.. فهل نجد اليوم أمثال يوسف...؟؟ حتّى من بين المكرّسين للرّبّ...!!! عرفوا حقًا معنى التّضحية وذاقوا طعم التّجرّد وذهبوا إلى أقصى حدود في نكران الذّات لأجل خلاص النّفوس.

قالت القدّيسة تريزا التي من أفيلا في شفاعة هذا القدّيس العظيم: "أناشد بالرّبّ جميع الذين يشكّون في كلامي عن قوّة شفاعة القدّيس يوسف، بأن يجرّبوا الأمر هم أنفسهم، فيتأكّد لهم كم شفاعته قادرة، وكم يجنون لذواتهم من الخير إذا كرّموا هذا الأب الأكبر المجيد، والتجأوا إلى معونته".