عوده هنّأ تيلي لوميار بعيدها ودعا إلى العودة إلى الله بتوبة صادقة
عوده وفي عظته، قال: "أحبّائي، يقول النّبيّ إرمياء: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّ، واحتفروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشقّقةً لا تمسك الماء" (13: 2). لعلّ إحدى أبرز سمات عصرنا أنّ الإنسان يطلب التّعزية والسّلوى في كلّ شيء ولا يجدهما. يصرف المال هنا وثمّة على أسباب اللّهو، ولا يوفّر سبيلًا من أجل اقتناء مبتغاه، لكنّه يبقى في فراغ وجوديّ يهيمن على كيانه ويأسره في الوحدة والإحباط، مع أنّ الحياة تطوّرت وكثرت فيها أساليب التّرويح عن النّفس وشتّى المشغوليّات الّتي تملأ وقت النّاس، ولا تترك لهم لحظةً فارغة، لكنّها لا تملأ حياتهم طمأنينةً ولا سلامًا، ولا تشبع توقهم إلى الأفضل. إنسان اليوم يعيش في فراغ يبرز له عبثيّة معظم ما يصنعه في حياته، لأنّ كلّ ما ظنّه تحقيقًا لطموحاته كجني المال والوصول إلى أعلى المراكز واقتناء الممتلكات وغيرها من الزّائلات لا يعطي الطّمأنينة، ولا يدخل السّلام إلى القلب، ولا يقرّب من الله.
الأمر الآخر الّذي لا يخفى عن أنظار أحد، أنّ الشّرّ في الأرض هو في حركة تزايد متصاعد. حدّة العنف الفرديّ والجماعيّ الّذي نشهده في أيّامنا لم يكن لها مثيل في تاريخ البشريّة المنصرم. كذلك طبيعة العلاقات الاجتماعيّة بين النّاس منفسدة بالطّابع الأنانيّ الّذي يسيطر عليها. منطق المصلحة السّائد والدّبلوماسيّة غير الصّادقة بين البشر يزيد عبثيّة حياتنا ويؤكّد أنّ تطوّر العلوم، وانفتاح الثّقافات، وشيوع وسائل التّواصل السّريع والبعيد المدى، كلّها أخفقت في قيادة الإنسانيّة إلى سلامة العيش واحترام الآخر وعافية المجتمع. فما الّذي ينقص عالمنا؟ ولم هذا الفراغ الّذي يسيطر على حياة البشر؟ أين الثّغرة الوجوديّة الّتي لم يعد يلحظها والّتي تؤدّي به إلى هذا الفشل؟
اليوم، فيما نعيّد العيد الخمسينيّ، أيّ العنصرة، تعلّمنا الكنيسة والإنجيل أنّ الإنسان لا يجد غايةً لحياته إلّا في اقتناء نعمة الرّوح القدس. الرّوح "المعزّي"، الّذي وعد به الرّبّ يسوع تلاميذه قبل ذهابه إلى الآلام الخلاصيّة، وحده قادر أن يعطي معنًى حقيقيًّا لحياة الإنسان. لقد قال ربّنا: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحقّ الّذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنّه لا يراه ولا يعرفه، أمّا أنتم فتعرفونه لأنّه ماكث معكم ويكون فيكم. لا أترككم يتامى، إنّي آت إليكم" (يو 14: 16-18). يوافي هذا الرّوح ليرفع الإنسان من وهدة غربته على الأرض، ويجعله ابنًا لله. هو روح التّبنّي الّذي يحقّق بنوّتنا لله الآب، الّتي أسّسها المسيح ابن الله الوحيد حين صار إنسانًا مثلنا. يجعلنا الرّوح أبناءً لله، وبهذا يكمن معنى وجودنا وعزاؤنا الأعمق. ننال هذه النّعمة في سرّ الميرون المقدّس، لكنّها لا تفعل فينا إن لم نسع إلى استثمارها في "أثمار تليق بالتّوبة" (لو 3) دورنا يكمن في الاستجابة الحرّة لدعوة الله. هو واقف على باب قلبنا، يقرع بمحبّة وينتظر دعوتنا إلى الدّخول، ومتى استوطن القلب يشعّ القلب فرحًا ومحبّةً وسلامًا وعطاء. نقرأ في سفر الرّؤيا "هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي" (3: 20).
بالرّوح القدس، يحيا الإنسان إلهيًّا. يتلقّف حياة الآب وحياة ابنه وكلمته، فيصير الشّاهد في الخليقة على حقيقة الله. يصير إناءً مختارًا للرّوح القدس، يسكب عليها طيب النّعمة ويغنيها من "كنز الصّالحات" الكامن فيه. يتعزّى الإنسان فيعزّي الخليقة من حوله. يمتلئ نورًا فيصير السّراج المنير الّذي يرفع "على المنارة ليضيء لجميع الجالسين في البيت" (مت 5: 15). قداسة الإنسان تملأ بالرّوح المعزّي "المالئ الكلّ" كلّ فراغ ونقص في واقع الخليقة ناتج عن الخطيئة.
لكنّ كلّ ذلك يتطلّب سعيًا دؤوبًا وتعبيرًا صادقًا من عمق نفس الإنسان عن شوقه إلى الله وتوقه إلى عزائه. هذا ما يعلّمنا إيّاه قدّيسو الكنيسة وآباؤها، من خلال زهدهم ونسكهم وبذلهم لذواتهم. إنّ منهاج اقتبال الرّوح المعزّي واقتنائه في القلب أساسه الثّقة الكلّيّة بالله، هذه الثقة الّتي تؤول بالإنسان إلى عطاء كبير وتضحية كاملة. حين نحبّ الآخرين، ونضحّي من أجلهم، توافينا نعمة المعزّي ويغمر قلوبنا سلام الله.
لعلّ الناس في زماننا فقدوا المعنى العميق للتّعزية والفرح لأنّهم خسروا ذهنيّة التّضحية وتفضيل الآخر على النّفس، اللّذين بهما تكون المحبّة وتستدعى نعمة المعزّي.
يا أحبّة، يصدف اليوم التّذكار العشرون لإعادة تكريس هذه الكاتدرائيّة المقدّسة الّتي نفضت عنها غبار الإثم والحقد وصورة الموت، وقامت من بين الرّكام متمثّلةً بسيّدها القائم من بين الأموات. ففي عيد تأسيس الكنيسة، أيّ العنصرة، نستذكر هذا الحدث المبارك لنتعزّى بأنّ الكنيسة، مهما اشتدّت عليها الصّعاب وطالتها سهام الأشرار، لا تقوى عليها يد الشّرّير طالما يحرّكها روح الرّبّ، وطالما بقي فيها أناس مؤمنون، ساعون إلى القداسة بنعمة الله وروحه القدّوس.
لذا نحن مدعوّون إلى أن نعود إلى الله بتوبة صادقة، وأن نلتصق بتعليم إنجيله ورسله وقدّيسيه علّ نفوسنا تشبع من تعزية الرّبّ وتكتفي بالمسيح الإله، دون سواه، وبنعمة روحه القدّوس، إذا ما تخلّت عن غرورها وخطاياها، وبلغت المحبّة والفرح والنّور، وأثمرت بثمار الرّوح الّتي هي "محبّة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفّف" كما يقول بولس الرّسول (غلا5: 22).
أخيرًا، لا بدّ لنا اليوم، في عيد تأسيسها، من أن نهنّئ محطّة تيلي لوميار ونورسات وكلّ المحطّات التّابعة لهذه الشّبكة المباركة. ألا قدّس الرّبّ حياة جميع العاملين فيها، السّاهرين على إيصال كلمة الله وتعزية الرّوح القدس إلى كلّ إنسان في عقر داره، آمين."