عوده: هل كان هذا التّفجير الأبوكاليبتيّ قتلاً لبيروت وأهلها أم اغتيالاً للقضاء بغية نشر الفوضى والإطباق على البلد؟
بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده العظة التّالية: "أحبّائي، نعيّد اليوم لتجلّي ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح على جبل ثابور أمام تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنّا. لقد حدث التّجلّي قبل آلام المسيح وصلبه، وكان هدفه تثبيت التّلاميذ في الإيمان بأنّ يسوع هو ابن الله، كي لا يضعفوا بسبب الأمور الّتي كانوا مزمعين أن يعاينوها مستقبلًا.
تجلّي الرّبّ هو حدث تتويجيّ في حياة التّلاميذ، إذ عاينوا إشعاع ألوهة المسيح. لقد أظهر لهم يسوع ألوهته لكي لا يشكّوا بألوهته عندما يرونه مصلوبًا ومتألّمًا.
التّجلّي كان تهيئةً لهم قبل الصّلب فالقيامة. كلمة "التّجلّي" تعني تغيّر الشّكل. ففي لحظة، كشف المسيح ما كان يخفيه، أظهر مجد ألوهته الّذي كانت طبيعته البشريّة متّحدةً بها منذ لحظة الحبل به في أحشاء والدة الإله. لأجل محبّته العظمى، أخفى المسيح ما كان له دومًا، كي لا يحترق التّلاميذ بسبب عدم أهليّتهم، كونهم لم يتهيّأوا بعد. يقول القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ إنّ المسيح، في تلك اللّحظة، تجلّى "غير متّخذ ما لم يكنه، ولا متغيّرًا إلى ما لم يكنه، بل مظهرًا ما كان عليه لتلاميذه". ويقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنّ المسيح لم يظهر كلّ ألوهته، بل أظهر قوّةً صغيرةً منها فقط. لقد فعل ذلك ليعطي إشارةً عمّا هو مجد الملكوت الإلهيّ، بسبب محبّته للبشر، حتّى لا يخسروا حياتهم عند نظرهم مجد الله الكامل. إذًا، التّجلّي هو، في آن، كشف للملكوت، وتعبير عن محبّة الرّبّ لتلاميذه.
صعد المسيح إلى جبل ثابور لكي يظهر مجد ألوهيّته. فضّل الجبل، لأنّ الأحداث المهمّة، في الأزمنة السّابقة، كانت تتمّ في أماكن مرتفعة، على الجبال، كما كان الوثنيّون يفعلون، إذ كانوا يقدّمون تقدماتهم فوق قمم الجبال. أظهر المسيح عظمة مجده على ثابور، كون إظهار مجد الطّبيعة البشريّة هو من أعظم أحداث التّاريخ البشريّ. لقد قال المسيح إنّه أتى ليبحث عن الخروف الضّالّ في الجبال. إذًا، صعد الرّبّ إلى الجبل لكي يظهر أنّه وجد الخروف الضّائع وحرّره من الخطيئة والشّيطان، وأنّه الرّاعي الصّالح والحقيقيّ، كما يقول القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ. صعود الجبل يرمز أيضًا إلى أنّ كلّ الّذين يريدون رؤية مجد الألوهيّة في طبيعة الكلمة البشريّة عليهم أن يتخلّوا عن الدّناءة وعن الأمور السّفليّة الأرضيّة ويرتفعوا، أيّ أن يتطهّروا من المادّيّات الّتي تبقيهم مربوطين بالأرض.
يكتب القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ في إحدى تراتيله: "يا يسوع، إنّ الشّمس الحسّيّة قد احتجبت من شعاع اللّاهوت، لمّا أبصرتك متجلّيًا على طور ثابور". لقد حصل تجلّي الرّبّ في وضح النّهار، فرأى التّلاميذ الشّمسين، الحسّيّة والعقليّة، الأمر الّذي يعبّر عنه القدّيس إسحق السّريانيّ بقوله إنّ التّلاميذ رأوا شمسين "واحدةً في السّماء كالعادة، وواحدةً فوق العادة". طبعًا، لم ير كلّ النّاس على الأرض مجد الشّمس العقليّة، بل وحدهم الرّسل والنّبيّان اللّذان ظهرا. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس إنّ كلّ سكّان الأرض يمكنهم أن يروا الشّمس الحسّيّة ما عدا العميان، أمّا شمس البرّ العقليّة فلا يراها إلّا المستحقّون والمستعدّون.
تمامًا كما كشف الثّالوث القدّوس عند لحظة اعتماد المسيح، كذلك أعلن عن الإله الثّالوثيّ في لحظة تجلّيه على ثابور. الأقنوم الثّاني، الّذي صار إنسانًا، لمع أمام تلاميذه وأظهر مجد ألوهيّته، والآب أكّد أنّ هذا هو ابنه الحبيب، والرّوح القدس كان السّحابة المنيرة الّتي غطّت التّلاميذ. يظهر صوت الآب أنّه كان على جبل ثابور سماع ورؤية. يقول القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث إنّ كلّ حواسّ الإنسان تصير واحدةً خلال رؤية الله والإعلان عنه، لهذا المعاينة هي سماع، والسّماع هو معاينة، والمعاينة والسّماع هما تذوّق وإحساس. يشرح القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ أنّ المعاينة هي عادةً أكثر جدارةً بالثّقة من السّماع، لأنّ الإنسان يسمع الأمر أوّلًا ثمّ يمضي لينظر إليه. هنا حدث العكس، إذ إنّ التّلاميذ رأوا مجد الله ثمّ تبع ذلك الإثبات من خلال السّمع. الفرق بين العهدين القديم والجديد يظهر في التّجلّي. المألوف في العهد القديم هو أنّ العمليّات تتمّ بالسّمع، فالأنبياء أظهروا الأمور الآتية من خلال التّنبّؤ والتّكهّن، إذ كانوا يسمعون الله ثمّ يرون، على حسب ما يقول أيّوب الصّدّيق: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني" (42: 5). في العهد الجديد، الأمر مخالف، حيث المألوف أن يسبق النّظر السّمع. في العهد القديم كان يعلن عن مجيء المسيح، وعندما أتى ابن الله المتجسّد، أصبحت رؤيته ممكنة. هذا يحدث في الحياة الرّوحيّة، إذ عندما نكون في مرحلة التّطهّر، المشابهة للعهد القديم، نسمع عن الله، الّذي نعاينه عندما يستنير ذهننا، ونتألّه عبر الحياة الأسراريّة والاشتراك بقوّة الله المنيرة المقدّسة.
يا أحبّة، رجاؤنا أن تستنير عقول السّياسيّين والمسؤولين لكي يدركوا معاناة المواطنين والظّلم اللّاحق بهم جرّاء إهمالهم وابتلاع حقوقهم وطمس حقيقة أكبر كارثة حلّت بهم فقضت على ما يزيد على المئتين من أبناء بيروت لم يكترث برحيلهم إلّا ذووهم، وأصابت الآلاف في أجسادهم وممتلكاتهم وهم ما زالوا ينتظرون العدالة أوّلاً، ومحاسبة الفاعلين، وهذا ما لم يحصلوا عليه بعد، كما لم يحصلوا على المساعدات الموعودة من أجل ترميم منازلهم، ما زاد شدّة ألآمهم الجسديّة والنّفسيّة ألمًا ومرارةً وخيبةً، وما زال المسؤولون عن الكارثة يسرحون وربّما يخطّطون لعمل وحشيّ آخر، وما زال الزّعماء والمسؤولون عاجزين عن القيام بأيّة خطوة إنقاذيّة للبلد قد تفرج عن انتخاب رئيس يليه تشكيل حكومة تمنع تدخّل السّياسيّين في عمل القضاء علّه يفكّ أسر التّحقيق ويطلق يد المحقّق من أجل جلاء الحقيقة وإحقاق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن تفجير بيروت وقهر أبنائها.
هل كان هذا التّفجير الأبوكاليبتيّ قتلاً لبيروت وأهلها أم اغتيالاً للقضاء بغية نشر الفوضى والإطباق على البلد؟ وهل يعقل أن ينتظر ذوو الضّحايا مع أهل بيروت وكلّ اللبنانيين ثلاث سنوات دون نتيجة؟ ثلاث سنوات من الألم والصّبر والمطالبة ولم تنجل الحقيقة رغم بشاعة الانفجار وجسامة نتائجه. هل هي لامبالاة أم استهانة بحياة بشر أحبّوا لبنان ولم يهجروه سعيًا وراء حياة كريمة، أم هو عجز أو طمس مقصود لحقيقة لا يريدون لها الظّهور خوفًا منها؟ وإلّا لم عرقلة عمل المحقّق؟ وإلى متى يفلت المجرمون من العقاب، كلّ المجرمين الّذين اغتالوا بيروت، وكلّ الّذين اغتالوا أشخاصًا كلّ ذنبهم أنّهم أرادوا التّعبير عن آرائهم بحرّيّة، وكلّ الّذين أوصلوا هذا البلد الجميل إلى الانهيار، وكلّ الّذين أساءوا إلى البلد وأهله واغتصبوا حقوقهم أو تخطّوا القوانين أو تحدّوا الدّولة أو قاموا بأيّ عمل سيّء؟ كيف يفلت من العقاب القاتلون والمضاربون والمحتكرون ومغتصبو الأطفال والمتعدّون على حياة الأبرياء برصاصهم الطّائش؟
العدالة ضروريّة لاستمرار الحياة بأمان والشّعور بالمساواة بين المواطنين، وإعلان الحقيقة في مأساة بيروت واجب على القضاء، ومعاقبة الفاعلين ضروريّة لتكون درسًا لمن تسوّل له نفسه القيام بجريمة مماثلة.
دعوتنا اليوم أن نلتمس الاستنارة من المسيح المتجلّي، شمس العدل العقليّة، وأن نصبح بدورنا منارات ترشد الآخرين إلى النّور الحقيقيّ، عبر إنارة دروبهم بنور المحبّة المستمدّ من الله المحبّ للبشر، آمين."