لبنان
19 كانون الأول 2022, 10:30

عوده: نكرّم ذكرى جبران بالصّمود، برفض الحقد والقهر والخنوع، ومحاسبة النوّاب على ممارساتهم العقيمة والمذلّة لمنتخبيهم

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الارثوذكس المطران الياس عوده القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، تخلّلها جنّاز لراحة نفس جبران تويني ورفيقيه. وبعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عودة عظة قال فيها:

"باسم الآب والإبن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، يدعى هذا الأحد الّذي يسبق عيد التّجسّد الإلهيّ أحد النّسبة، لذلك سمعنا في المقطع الإنجيليّ مجموعةً من الأسماء التي تشكّل نسب الرّبّ يسوع بالجسد.

قد يتساءل البعض عن سبب اهتمام الكتاب المقدّس بنسب الرّبّ يسوع، وهو ابن الله الآب، والحاجة لذكر أسماء البشر الّذين يتحدّر منهم جسديًّا.

تاريخيًّا، ظهرت جماعة عرفت باسم «الغنوصيّة»، أنكرت حقيقة التّأنس، مدّعيةً أنّ السّيّد ظهر كخيالٍ أو وهمٍ، وذلك يعود إلى أنّهم يكرهون الجسد ويعادونه ناظرين إليه كعنصر ظلمةٍ. كبار رجال الغنوصيّة ظهروا في القرن الميلاديّ الثاني، إلّا أنّ جذور هذه الجماعة بدأت في وقتٍ مبكّرٍ جدًّا. لهذا، ذكر الأنساب هو تأكيد لحقيقة التّجسّد الإلهيّ، وأنّ ذاك الّذي هو فوق الأنساب قد صار ذا نسبٍ حسب الجسد. يقول النّبيّ إشعياء: «من يعرف جيله؟» (53: 8)، ما فسّره أحد معلّمي الكنيسة الأقدمين في معرض ردّه على الغنوصيّين قائلًا: "الّذي كان قبل الدّهور مساويًا في الأزلية للآب ذاته، هو نفسه الّذي حسب في الأنساب حسب الجسد، لأنّه إذ هو إله في الحقيقة، صار هو ذاته في آخر الأزمنة إنسانًا من دون تغييرٍ، وقد أظهره متّى مشتركًا في طبيعتنا حتّى لا يقول أحد إنّه ظهر كخيالٍ أو وهمٍ".

إذًا، النّصّ الّذي نسمعه اليوم من إنجيل متّى هو تأكيد على أنّ الرّبّ يسوع إله تامّ، مولود من مريم العذراء بحلول الرّوح القدس عليها، وفي الوقت عينه، هو إنسان تامّ، ينتمي إلى سلالةٍ بشريّةٍ معروفةٍ لا يمكن التّشكيك بها.

في مخاطبته اليهود عبر إنجيله، استهلّ الإنجيليّ متّى حديثه بسلسلة النّسب، لأنّ نسب الشّخص، في الفكر اليهوديّ، يحدّد انتماءه إلى شعب الله. أرجع متّى نسب الرّبّ البشريّ إلى إبراهيم أبي الآباء، الّذي يعتبره اليهود أباهم، كما بيّن لقرّائه أنّ يسوع المسيح يأتي من نسل داود الملك، محقّقًا في ذاته نبوءات العهد القديم. أمّا الأشخاص السّتّة والأربعون المذكورون من سائر الأجيال، فقد تباينوا في حالاتهم الاجتماعيّة والرّوحيّة، وكانوا إمّا من أصحاب الإيمان العظيم كإبراهيم وإسحق وراعوث، أو من ذوي السّمعة السّيّئة مثل راحاب وتامار. كثيرون منهم كانوا أناسًا عاديّين على مثال حصرون وآرام ونحشون، وبعضهم كانوا أشرارًا مثل منسّى وأبيّا. كلّ هذا لكي ندرك تمام الإدراك أنّ عمل الله لا تحدّه سقطات البشر ولا خطاياهم، وأنّ الخلاص لم يكن للأبرار والصّالحين فقط، إنّما أيضًا من أجل الخطأة، لهذا نسمع الرّبّ يسوع قائلًا: "لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطأةً إلى التّوبة" (لو 5: 32).

ما يلفتنا في هذا النّسب أنّ الإنجيليّ متّى أراد التّأكيد على أنّ يسوع هو المسّيّا، الملك المنتظر، ولهذا يفتتح سلسلة الأنساب بقوله: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم". لقد ترك متّى كلّ الأسماء ليذكر داود وإبراهيم، لأنّ الله وعدهما وحدهماصراحةً بالمسيح، إذ قال لإبراهيم: «ويتباركبنسلك جميع أمم الأرض» (تك22: 18)، ولداود:«من ثمرة بطنك أجعل على كرسيّك» (مز 132: 11). ركّز على داود الملك وإبراهيم أبي الآباء ليعلن أنّ المسيح هو الملك الموعود به، ابن داود. هو الملك المتخفّي وراء طبيعتنا البشريّة، والمتخلّي عن كمال مجده وبهائه، لكي يعطي للشّيطان فرصة الدّخول معه في معركةٍ، كما يفعل مع سائر البشر، فيغلبه السّيّد ويخلّصنا من تسلّطه. من جهةٍ ثانية، بعدما كان اليهود يظنّون أنّهم إن رأوا وجه الرّبّ يموتون، يهبنا الرّبّ فرصةً لقبولنا إيّاه، فلا نهاب بهاءه ونهرب من جلال عظمته، بل نقبل لقاءه والاتّحاد به والثّبات فيه. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم: "لا يظهر الملك دومًا بمظهره الخاصّ، إنّما يلقي الأرجوان جانبًا ومعه التّاج، متنكّرًا في زيّ جنديٍّ عاديٍّ حتّى لا يركّز العدوّ هجماته عليه، أمّا هنا فحدث العكس، إذ قد فعل الرّبّ ذلك حتّى لا يعرفه العدوّ ولا يهرب من الدّخول معه في معركةٍ، ولكي لا يرتبك شعبه أمام بهائه، إذ جاء ليخلّص لا ليرعب".

يا أحبّة، إنّ المؤمن الحقيقيّ يفعل كما فعل الرّبّ، فلا يخاف من ضربات الشّرّير، بل يكون مستعدًّا لتلقّيها بعزمٍ وثبات. هذا ما فعله حبيبنا جبران، الّذي رأى بلده يعاني، فما طاق البقاء بعيدًا عنه، بل عاد ليواجه الشّرّ بكلمة الحقّ، وليكون إلى جانب أبناء شعبه المحتاجين صوتًا يصدح بالحقيقة ولا يتغاضى عن ظلم. حاول الشّرّ خنق صوت جبران في 12 كانون الأوّل 2005، إلّا أنّ صوت الحقّ لا يقوّض ولا يكمّ، ويصبح أقوى بعد الموت.

سبع عشرة سنةً مرّت على اغتيال الحبيب جبران، وما زال صوته مدوّيًّا، مذكّرًا اللّبنانيّين بأن يبقوا موحّدين، دفاعًا عن لبنان العظيم.

في هذا العام، الّذي مرّت فيه ذكرى استقلال لبنان بصمتٍ وحزنٍ وفراغ، نستذكر قول جبران: "المحافظة على الاستقلال تكون بتعزيز إيماننا به وبوحدتنا... وحدة لبنان مكرّسة، وحدها الوصاية الخارجيّة تهدّدها» (2005).

نادى جبران منذ شبابه بنبذ الأنانيّات والمصالح قائلًا: "صمدنا معًا ليحيا لبنان، فإيّانا وإيّاكم أن نخون حلمنا وأن يسقط وطننا فداء أنانيّاتٍ وأسبابٍ عبثيّة" (1989). لكنّ الشّعب كان وما زال أسير طغمةٍ سياسيّةٍ تحكمه وتتحكّم بمصيره، واضعةً مصالحها فوق مصلحة الوطن، ما دفع جبران إلى القول: "ما يريده الشّعب هو إلغاء هؤلاء السّياسيّين الّذين يوميًّا يبيعون الوطن من الخارج، في حين يبيعون الدّاخل مواقف كاذبة... إلى متى سنظلّ نقبل بأن يحكمنا الفاشلون المفروضون علينا بالقوّة لتشويه سمعة لبنان والإجهاز عليه؟" (1986).

ماذا كان جبران ليقول في هذه الأيّام القاتمة الّتي تمرّ على لبنان واللّبنانيّين، بسبب أشخاصٍ يعملون من أجل منافعهم ومراكزهم، تقودهم أنانياتهم، ولا يرون في بلدهم سوى قالب حلوى يتقاسمونه بدلًا من الاحتفال به مع أبناء الشّعب!

يا أحبّة، بعد سنواتٍ على اغتيال جبران، وقبله وبعده أعدادٍ من الأبطال الذين نادوا بقيام دولة القانون والعدالة، دولة الحرّية والأحرار، دولةٍ حديثةٍ يكون فيها الحكّام خدّامًا أمناء لوطنٍ يعيش فيه جميع أبنائه في كنف دولةٍ ديمقراطيةٍ ترعى جميع مواطنيها بالحقّ والمساواة والعدالة، وتحميهم من كلّ اعتداء، نتساءل هل هدرت دماؤهم عبثًا ونحن نتراجع يومًا بعد يوم، ودولتنا تتفكّك ودستورها يداس وسيادتها منتقصة وهيبتها تزول؟

لقد قتلوا جبران لأنّه حرّ، مستقلّ، نزيه، جريء في قول الحقيقة، ثائر على الفساد والكذب والظّلم والاستتباع، رافض للانحطاط السّياسيّ والتفلّت الأمنيّ والاهتراء الإداريّ والإرتهان للخارج على حساب لبنان. والمؤسف أن ما كان يشكو منه جبران قد تضاعف، وليس أحد بريئًا من دم هذا اللّبنان لأنّ الجميع ساهموا في طعنه وجلده والتّنكيل به، وآخر بدعهم تعطيل انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، واعتماد أساليب لا تمّت إلى الدّستور بصلة. صحيح أنّ متاريس الحرب أزيلت لكنّ أخلاقيّات الحرب ما زالت مستمرةً، وألاعيب السّياسيّين باتت مكشوفةً، وخطاياهم الكثيرة قد أوصلتنا إلى ما نحن فيه.

هل نستسلم أمام من ينحرنا؟ هل نترك اليأس يغزو نفوسنا؟ أم نشهر سيف المطالبة بإصلاحاتٍ جذريةٍ تضع حدًّا لكلّ فسادٍ وتهاونٍ وإساءةٍ للبلد وأبنائه، وتقتصّ من كلّ معتدٍ على الدّستور وعلى القوانين وعلى المواطنين وحقوقهم، وتعاقب كلّ من يتطاول على سيادة الدّولة وأمنها؟

نكرّم ذكرى جبران بالصّمود، برفض الحقد والقهر والخنوع، ومحاسبة النوّاب على ممارساتهم العقيمة والمذلّة لمنتخبيهم، ونكرّر ما قلناه مرارًا: نحن بحاجةٍ إلى مسؤولين، وعلى رأسهم رئيس للبلاد، ذوي ضميرٍ حيّ، يدركون عظم مسؤوليتهم ويحملون خطّةً إنقاذيّةً إصلاحيّةً واضحةً تباشر في إعادة بناء الوطن الذي استشهد جبران وجميع الأحرار من أجله.

لنرفع الدّعاء معًا من أجل راحة نفوس جبران ورفيقيه أندريه ونقولا، كما لراحة نفوس جميع من سقطوا دفاعًا عن لبنان العظيم، بإرادتهم، أو غصبًا عنهم، مثلما حدث في 4 آب 2020، عندما نحروا جزءًا من بيروت وقضى المئات من أبنائها فيما كانوا هانئين في أماكنهم. صلاتنا ألّا تذهب هباءً لا دماؤهم، ولا جهادات كلّ اللّبنانيّين الّذين يذلّون يوميًّا، صائرين شهداء وهم أحياء يناضلون من أجل حياةٍ كريمة. دعاؤنا أن يحفظ الطّفل الإلهيّ، المولود من نسلٍ بشريٍّ، جميع أبناء هذا البلد الحبيب، وأن يوقظ ما تبقّى من ضميرٍ لدى المسؤولين، حتّى ينهضوا الوطن والمواطن من هوّة اليأس، آمين."