عوده: نحن مدعوّون إلى إفراغ القلب من كلّ حقد وحسد وكبرياء
وكانت لعوده عظة قال فيها: "أحبّائي، في هذا الأحد المقدّس الّذي تدعوه كنيستنا أحد النّسبة، تقرأ على مسامعنا فاتحة الإنجيل بحسب متّى فنسمع: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم". يبدو هذه البداية تاريخيّةً جافّةً، قائمةً على سرد أسماء وأجيال، لكنّها في الحقيقة إعلان لاهوتيّ عميق، يظهر أنّ الله لم يدخل تاريخ البشر من خارجه، بل اختار أن يخلّص الإنسان من داخل نسيجه العائليّ والإنسانيّ، بكلّ ما فيه من نور وظلمة، من أمانة وخيانة، من قداسة وسقوط.
هذا النّسب في المنظور الكتابيّ، ليس مجرّد سجلّ أنساب، بل هو شهادة على أمانة الله عبر الزّمن. فالله لا يقفز فوق التّاريخ، بل يرافقه، ويصبر عليه، ويحوّله إلى طريق خلاص.
في سلسلة الأسماء الّتي يوردها متّى نرى إبراهيم المؤمن، وداود الملك، ورحبعام الخاطئ، وراحاب الزّانية، وراعوث الغريبة، ونرى السّبي والانكسار، ثمّ العودة والانتظار الطّويل. إنّه تاريخ يشبه تاريخنا، غير نقيّ، غير مستقيم، لكنّه مفتوح دومًا على الرّجاء.
يبدأ الإنجيليّ متّى بإبراهيم لأنّ به قد وضع أساس الإيمان. مقطع الرّسالة إلى العبرانيّين الّذي سمعناه قبل قليل، يشرح لنا عمق هذا الإيمان. يقول بولس الرّسول إنّ إبراهيم تغرّب في أرض الموعد كأنّها أرض أجنبيّة، لأنّه كان ينتظر "المدينة ذات الأسس، الّتي الله صانعها وبانيها". عاش إبراهيم في الخيام، لأنّ قلبه لم يتعلّق بما هو زمنيّ عابر. كان يعلم أنّ الوعد لا يكتمل في الأرض، بل في الله نفسه، فعلّمنا أنّ النّسب الحقيقيّ لا يقاس بالدّم فقط، بل بالإيمان الّذي يربط الإنسان بالوعد الإلهيّ.
من إبراهيم، ينتقل الوعد إلى داود الّذي نقرأ في النّسب أنّه "الملك"، ليس لأنّه بلا خطيئة، بل لأنّه عرف التّوبة الصّادقة ورحمة الله الواسعة، فأصبح مثال الخاطئ التّائب، وهو كاتب سفر المزامير وأشهرها المزمور الخمسون الّذي يعبّر فيه عن عمق توبته. يعلّمنا داود أنّ الله لا يرفض الإنسان بسبب ضعفه، بل بسبب كبريائه.
النّسب يحمل في طيّاته تعليمًا جوهريًّا لإنسان اليوم مفاده أنّ تاريخ الإنسان، مهما كان مثقلًا بالجراح والخطايا، يمكن أن يصير موضع عمل الله إذا شرّع القلب لهذا العمل بالتّواضع والإيمان والعودة الصّادقة إلى الله، كما فعل داود.
ثمّ يصل النّسب إلى السّبي البابليّ، إلى زمن الانكسار وفقدان الأرض والهيكل والهويّة. هنا، يكشف لنا الإنجيل أنّ الله لم يقطع خيط الخلاص في زمن الفشل الجماعيّ، بل استمرّ يعمل في صمت. إنسان اليوم، الّذي يعيش سبيًا من نوع آخر، سبي القلق والخوف والاغتراب والتّهجير القسريّ وفقدان معنى الحياة، مدعوّ إلى أن يرى في هذا النّسب رجاءً حيًّا، لأنّ الله لا يغيب في زمن الظّلمة، بل يهيّئ الإنسان لولادة جديدة.
عندما يبلغ النّسب يوسف، ننتقل من الأسماء إلى الحدث. يوسف البارّ، الرّجل الصّامت، يدخل تاريخ الخلاص لا بالكلام ولا بالمبادرات الظّاهريّة والمزايدات، بل بالطّاعة. لقد وضع أمام سرّ يفوق الفهم، هو حبل عذراء من الرّوح القدس. كان المنطق البشريّ يدفعه إلى الشّكّ والرّفض والإدانة والتّشهير، أمّا الإيمان فدعاه إلى التّروّي والقبول. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنّ يوسف "كان بارًّا، لا لأنّه تمسّك بالحرف، بل لأنّه فضّل الرّحمة والطّاعة على قساوة الحكم".
نرى في يوسف صورة الإنسان المؤمن في زمن اللّبس والضّياع. إنسان اليوم يريد أن يفهم كلّ شيء قبل أن يؤمن، بينما يوسف آمن ليس لأنّه فهم، بل لأنّه وثق بالله. هنا، يكمن جوهر الإيمان الّذي تتحدّث عنه رسالة اليوم حين تعدّد أسماء أناس "بالإيمان قهروا الممالك... سدّوا أفواه الأسود، وأطفأوا حدّة النّار، ونجوا من حدّ السّيف"، وعن أناس تألّموا وسجنوا وعذّبوا "رجموا ونشروا وامتحنوا وماتوا بحدّ السّيف"ولم ينالوا الموعد في حياتهم. هؤلاء جميعًا إشتركوا في أمر واحد، أنّهم سلّموا حياتهم لله ولم يعرفوا ابن الله بعد، فما هو عذرنا نحن الّذين روت لنا الأناجيل بشرى الخلاص ورسم لنا المعترفون والرّسل والشّهداء والقدّيسون طريق الإيمان؟
تقف الكنيسة بخشوع أمام مريم العذراء الّتي لم تذكر في النّسب كرقم في سلسلة، لأنّ فيها تحقّق الوعد لمّا حان ملء الزّمان، وفي أحشائها تجسّد من تحدّثت عنه النّبوءات وانتظرته أجيال من الآباء والأجداد، منهم من وردت أسماؤهم في إنجيل اليوم. إن كانت الأجيال السّابقة قد حملت الرّجاء، فمريم حملت المخلّص نفسه. يقول القدّيس إيريناوس إنّ "طاعة العذراء صارت سبب خلاص لها وللجنس البشريّ كلّه". هكذا نرى أنّ النّسب لا يبلغ كماله بالقوّة والبطش، بل بالاتّضاع والطّاعة لمشيئة الله.
تختم الرّسالة بالقول إنّ هؤلاء جميعًا "لم ينالوا الموعد، لأنّ الله سبق فنظر لنا شيئًا أفضل". إنّ "الأفضل" هو المسيح، هو الكمال الّذي به يكتمل التّاريخ، وبه يفهم الماضي ويفتح المستقبل. نحن لسنا فقط أبناء الّذين سبقونا بالجسد، بل شركاء في إيمانهم، وورثة رجائهم وأبناء الله بالنّعمة.
يا أحبّة، إنسان اليوم، الّذي يبحث عن هويّته في وسط عالم متقلّب، ويخشى على وجوده في خضمّ النّزاعات والحروب، مدعوّ في أحد النّسبة إلى أن يكتشف نسبه الحقيقيّ، وهو ليس العائلة وحسب، بل انتماؤه إلى المسيح. النّسب ليس صفحةً من الماضي، ولا سلسلة آباء وأجداد وحسب، بل دعوة حاضرة لنعيش الإيمان، ونحيا على الرّجاء مهما كان التّاريخ مخجلًا وملوّثًا بالخطايا والآثام. "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" لذا نحن مدعوّون إلى الإصغاء إلى صوته، إلى اللّقاء به، إلى إفراغ القلب من كلّ حقد وحسد وكبرياء، إلى الانعتاق من كلّ ما يكبّل النّفس والجسد، واستدعاء نعمة الله الّتي للنّاقصين تكمّل وللمرضى تشفي، فيصبح الله كاتب تاريخنا، ونصير نحن أبناءً لله وحلقةً حيّةً في مسيرة الخلاص، منتظرين المدينة الّتي الله صانعها وبانيها، آمين".
