لبنان
12 تشرين الأول 2020, 05:55

عوده: نحن بحاجة إلى مسؤولين لا يرتاحون طالما هناك مواطن واحد يئنّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت، وكانت له عظة بعد الإنجيل قال فيها:

"تعيد الكنيسة المقدّسة أكثر من مرّة خلال السّنة الطّقسيّة للآباء القدّيسين الّذين شاركوا في المجامع المسكونيّة السّبعة الّتي عقدت ما بين عامي 325 و787 لمواجهة بعض الهرطقات الّتي مست مباشرة أركان الثّالوث القدّوس. تكرّم الكنيسة هؤلاء الآباء لما كان لهم من دور في إعلان الإيمان وتوضيحه من جهة، وفي مواجهة الهراطقة من جهة أخرى. ولا بدّ من التّذكير أنّ العديد منهم واجهوا العذاب الجسديّ في دفاعهم عن الإيمان القويم، ومنهم من تعرّض للنّفي أو للموت بسبب إيمانهم. وضعت الكنيسة هذه التّذكارات أيّام الآحاد، وتسمّى آحاد الآباء. ففي الأحد الّذي يسبق العنصرة نعيّد لآباء المجمع المسكونيّ الأوّل، وفي الأحد الّذي يلي الحادي عشر من تشرين الأوّل، ويصادف هذا الأحد، نعيّد لآباء المجمع المسكونيّ السّابع الّذين اجتمعوا في مدينة نيقية (تركيا حاليًّا) عام 787 على عهد الإمبراطور قسطنطين وأمّه إيريني للدّفاع عن عقيدة إكرام الأيقونات. حضر المجمع حوالى 365 أسقفًا من الآباء القدّيسين من مختلف أنحاء المسكونة، وقد سنّ 22 قانونًا.

وعت الكنيسة أنّ بدعة عدم إكرام الأيقونات هي إنكار لعقيدة التّجسّد الإلهيّ. فأيقونة السّيّد في بعدها الأخير إنّما هي إثبات أنّ الإله صار إنسانًا وحلّ بيننا. والأيقونات الّتي تمثّل أحداثًا من حياة الرّبّ تأتي أيضًا في هذا السّياق. لذا بعد حرب شنّها محاربو الأيقونات دامت عشرات السّنين، أكّدت الكنيسة من خلال آباء المجمع المسكونيّ السّابع، على إكرامها للأيقونات، والصّور المقدّسة، بإحناء الرّؤوس لها، وتقبيلها، وإضاءة الشّموع أمامها، وحرق البخور. علمًا بأنّ المجمع كان صريحًا كلّ الصّراحة في إعلان أنّ هذا الإكرام ليس سوى إظهار للاحترام لمن رسم على الأيقونة، ولا يجوز أن يعدّ من قبيل العبادة الّتي لا تجوز إلّا لله وحده. نحن لسنا وثنيّين، لذا نحن نكرّم الأيقونة ولا نعبدها كما يحاول البعض اتّهامنا.

يعود الفضل في عقد المجمع المسكونيّ السّابع (787)، الّذي كرّس إكرام الأيقونات، إلى الإمبراطورة إيريني الّتي تولّت زمام الحكم بالنّيابة عن ابنها القاصر، الإمبراطور قسطنطين السّادس. وقد كانت إيريني من المتحمّسات لإكرام الأيقونات. فسارعت، بعد تولّيها الحكم، إلى عقد المجمع الّذي عمد إلى ردّ الاعتبار للصّور المقدّسة ناقضًا، بذلك، أحكام مجمع هيريا الهرطوقيّ. واللّافت أنّ المجمع المسكونيّ استنجد، في انتصاره للصّور المقدّسة، بما كان القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ قد وضعه في الدّفاع عن الأيقونات، ما يجعل تعليم هذا المجمع متأثّرًا، إلى حدّ بعيد، بأفكار القدّيس الدّمشقيّ، رغم أنّه لا يذكر في أعمال المجمع إلّا لماما. والحقّ أنّ اللّجوء إلى تعليم يوحنّا الدّمشقي يجعل من كلام المجمع السّابع عن الأيقونات امتدادًا لعقيدة التّجسّد الإلهيّ وتطبيقا لها على مستوى اللّيتورجيا والحياة الرّوحيّة الشّخصيّة. فالعقيدة الّتي أتى بها المجمع، في ما يخصّ الصّور المقدّسة، ليست تعليمًا لاهوتيًّا قائمًا في ذاته، بل هي تنبع من سرّ التّجسّد الإلهيّ. وهي، تاليًا، لا تتناقض مع وصيّة العهد القديم ألا تتّخذ لك منحوتًا وتعبده. فما يقوم به المؤمن أمام الأيقونة ليس عبادة، بل هو إكرام لأنّ المؤمن لا يعبد إلّا الله وحده. وصيّة العهد القديم كانت ضروريّة لتحذير الشّعب من مخاطر الوثنيّة المحيطة به. فالله في العهد القديم يقول عن نفسه إنّه إله غيور، لا يقبل بأن ينصرف الشّعب عنه إلى عبادة الأوثان الّتي لا حياة فيها.

أمّا ما يجري في اللّيتورجيا وفي التّقوى الشّخصيّة أمام الأيقونة، فلا علاقة له بالوثنيّة الّتي يحذّر منها العهد القديم. فالمعبود هنا هو الله نفسه، إله العهد القديم، كما ظهر في صورة ابنه المتجسّد، يسوع المسيح، الّذي بقي، رغم تجسّده، متّحدًا بأبيه. هذا يعني أنّ آباء المجمع المسكونيّ السّابع، بحذوهم حذو القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، وتثبيتهم دعائم الأيقونة على سرّ التّجسّد، لم يأتوا بتعليم مغاير لما جاء في المجامع الأخرى عن أقانيم الثّالوث، بل وسّعوا هذا التّعليم ليشمل ظاهرة لا تزال تميّز الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى اليوم، أيّ الأيقونة الّتي تضيء حياة المؤمن وتلهمه ليكون نورًا لغيره.

أحبّائي، في إنجيل اليوم يصف الرّبّ يسوع تلاميذه، أيّ كلّ الّذين يسمعون كلامه ويعملون به، بأنّهم نور العالم، ويضيف: فليضىء نوركم قدّام النّاس ليروا أعمالكم الصّالحة ويمجّدوا أباكم الّذي في السّماوات. إذًا، لا يشعّ نور المسيح من المسيحيّ من خلال كلامه، إنّما عن طريق الأعمال، وخصوصًا تلك الّتي لا يبتغي منها الإنسان مجدًا شخصيًّا، الّتي يقوم بها بمحبّة خالصة، لمجد الرّبّ، عبر إخوته الصّغار. قال الرّبّ: ليس التّلميذ أفضل من المعلّم، ولا العبد أفضل من سيّده. كيف يكون التّلميذ كمعلّمه؟ يجيبنا الرّبّ يسوع قائلاً: كلّ من يعترف بي قدّام النّاس أعترف به أنا أيضًا قدّام أبي الّذي في السّماوات. علّمنا ربّنا ألّا نهاب أحدًا على هذه الأرض، وأن نقوم بكلّ أعمالنا مزوّدين بالبركة الإلهيّة، حتّى نكون من المعترفين به. يتابع الرّبّ معلّمًا إيّانا كيف نعترف به أمام النّاس: من سقى أحد هؤلاء الصّغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحقّ أقول لكم إنّه لا يضيع أجره. إذًا، كلّما شهدنا للرّبّ بأفعال المحبّة، مهما كانت صغيرة، نرسل شعاعًا من النور ليخترق ظلمة هذا العالم الشّرّير الّتي أصبحت الأنانيّة مستشرية فيه.

كلّ مسيحيّ، في هذا العالم، هو كالشّمعة الّتي تنير الظّلام الّذي حولها. فإذا كان كلّ إنسان مسيحيّ تلميذًا حقيقيًّا، ينتشر النّور وتتبدّد الظّلمة. غالبيّة البشر هذه الأيّام أصبحوا ينجرّون إلى دهريّة شرّ عالمنا الأرضيّ، وسهولة عيش هذا الشّرّ، وأصبحوا يشكّكون بحقيقة الحياة الآتية الأبديّة، الأمر الّذي جعلهم صيدًا سهلاً للشّرّير، إن بواسطة خطايا الجسد، أو تمجيد الأنا، أو اتّباع نوع جديد من الأوثان كالمال والزّعماء والممتلكات. أصبح إنسان هذه الأيّام، بدل أن يسقي أخاه كأس ماء بارد، يسرق منه ماءه، وغذاءه، وكساءه. بدأ النّور يخفت والمنطق التّجاريّ يسود على كلّ علاقات البشر. والمطلوب عودة سريعة إلى الرّبّ قبل أن تندثر البشريّة، وأن نتذكّر دائمًا أنّ الإيمان بدون أعمال ميت في ذاته كما يقول يعقوب الرّسول.

يقول الرّبّ: لا يمكن أن تخفى مدينة واقعة على جبل. المدينة هي أورشليم، الواقعة على جبل صهيون. أورشليم رمز للكنيسة المؤسّسة على صخرة المسيح، الّتي لن تتزعزع طالما المسيح في وسطها: يقول كاتب المزامير: الله في وسطها فلن تتزعزع. هذه المدينة- الكنيسة، لن تخفى طالما المسيح صخرتها، لذلك يسمّيها سفر الرّؤيا، في الإصحاحات الثّلاثة الأولى: منارة، لأنّها تستمدّ نورها من شمس العدل، وتنير الجالسين في ظلمة هذا الدّهر وظلاله. وإن كانت الكنيسة منارة، فالمؤمن هو السّراج: لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، لكن على المنارة ليضيء لجميع الّذين في البيت. يا أحبّة، لكلّ سراج فتيل يحترق بواسطة الزّيت الّذي يملأ به السّراج. هكذا كلّ مؤمن يمتلئ بزيت النّعمة ويحرق فتيل حياته محبّة، لينير من هم حوله بأعماله اللّائقة بالله. لا شيء يحجب هذا النّور إلّا الخطيئة، الّتي هي الابتعاد عن الله، الّتي تأتي كالغيمة السّوداء فتخفت وهجه، لذلك يقول الرّسول بولس: لا تطفئوا الرّوح... إمتنعوا عن كلّ شبه شرّ. كلّ خطيئة نقوم بها، تكون كالمكيال الّذي يحجب النّور، وعندما نتوب، تعود النّعمة الإلهيّة لتشرق من خلالنا وتجذب الآخرين إلى ضياء المسيح.

يتابع الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم: لا تظنّوا أنّي أتيت لأحلّ الناّموس والأنبياء. إنّي لم آت لأحلّ لكن لأتمّم. كيف ينقض واضع النّاموس ما وضعه؟ إنّه والآب واحد، وقد تجسّد ليتمّم النّاموس المكتوب، من خلال تعليمنا كيفيّة تحقيق الأقوال بالأفعال. لا يكفي أن يتحدّث المرء كثيرًا عن المحبّة، بل عليه أن يظهرها بعيشه إيّاها. مثلاً الوالدون يقولون لأولادهم إنّهم يحبّونهم، لكنّهم لا يكتفون بالكلام بل يعيشون ما يقولون من خلال التّضحية والأسهار والأتعاب، حتّى يروا أولادهم مثل غروس الزّيتون حول مائدتهم. يا أحبّة، واضع النّاموس، أو المسؤول عن تطبيقه، لا يمكنه التّحايل على النّاموس أو كسره لمنافع شخصيّة. في بلدنا لدينا خبراء في تطويع النّواميس، أيّ القوانين، كلّ بحسب رغبته ومصلحته ومنفعة جيبه وحزبه وتيّاره، متجاهلاً دماء الشّهداء وصراخ أهل هذا البلد الحبيب القابع تحت الرّكام والفقر واليأس. حتّى متى تستباح النّواميس وتنقض؟ وتقدّم المصلحة الشّخصيّة حتّى لو أدّى ذلك إلى موت الأخ. يقول الرّبّ في إنجيل اليوم: كلّ من يحلّ واحدة من هذه الوصايا الصّغار ويعلّم النّاس هكذا، فإنّه يدعى صغيرًا في ملكوت السّماوات. نحن بحاجة إلى مسؤولين ذوي ضمير حيّ، لا يرتاحون، طالما هناك مواطن واحد يئنّ، كما عليهم أن يكونوا القدوة في احترام الدّستور والقوانين.

الدّعوة، في إنجيل اليوم، إلى العمل قبل التّعليم، إلى الفعل قبل القول. ألا يتقاطع كلام الرّبّ مع كلام نشيدنا الوطنيّ الدّاعي إلى القول والعمل في سبيل الكمال؟ يا أحبّة، كونوا منارات، لا تكونوا محبّين للظّلام، لأنّ الله نور، وأبناءه هم أبناء النّور".