لبنان
24 تشرين الثاني 2020, 06:55

عوده للرّئيس عون: أنقذ لبنان!

تيلي لوميار/ نورسات
متأمّلاً بحياة مريم العذراء، استهلّ متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده عظته في قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- بيروت، ووجّه في سياقها رسالة إلى رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة ميشال عون في عيد الاستقلال، فقال:

"أحبّائي، عيّدنا أمس لدخول والدة الإله الفائقة القداسة مريم إلى الهيكل. نرتّل في هذا العيد قائلين: "إنّ الهيكل الكلّيّ النّقاوة، هيكل المخلّص، البتول الخدر الجزيل الثّمن، والكنز الطّاهر لمجد الله، اليوم تدخل إلى بيت الرّبّ، وتدخل معها النّعمة الّتي بالرّوح الإلهيّ، فلتسبّحها ملائكة الله، لأنّها هي المظلّة السّماويّة".

إنّ كرامة والدة الإله تسمو على كلّ المخلوقات والملائكة والقدّيسين، على حسب ما نسبّحها قائلين: "يا من هي أكرم من الشّيروبيم، وأرفع مجدًا بغير قياس من السّيرافيم". هي الإناء المختار الّذي ارتضى ابن البشر أن يحلّ فيه ويتأنّس ليخلّص البشر من خطاياهم.

لقد ولدت العذراء من والدين عاقرين هما يواكيم وحنّة، اللّذين نذرا، إن رزقا ولدًا، أن يكون هذا المولود للرّبّ. لذا، عندما ولدت مريم، وصار عمرها ثلاث سنوات، اصطحبها والداها لتعيش في قدس الأقداس، أيّ في الهيكل الّذي لا يدخله أحد سوى رئيس الكهنة مرّةً في السّنة. هناك، كانت الفتاة تقضي نصف يومها منتصبةً للصّلاة والتّخشّع، ثمّ تتابع يومها بالأعمال اليدويّة، وكان ملاك الله يأتيها بالطّعام.

رئيس الكهنة الّذي استقبل الفتاة مريم عند دخولها الهيكل، هو زكريّا ابن برخيا والد يوحنّا المعمدان. عندما رأته العذراء البالغة ثلاث سنوات، ارتمت بين ذراعيه، فقال: "الرّبّ مجّدك في كلّ جيل، وها إنّه فيك، في الأيّام الأخيرة، يكشف الله الخلاص الّذي أعدّه لشعبه". كلامه هذا يحتوي في قسمه الأوّل ما قالته مريم عندما زارت نسيبتها أليصابات، زوجة زكريّا، الّتي استقبلتها بعبارة: "من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟!" (لو 1: 43)، فأجابت مريم: "تعظّم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنّه نظر إلى تواضع أمته، فها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال" (لو 1: 46-48). أمّا القسم الثّاني، فيحتوي على ما قاله سمعان الشّيخ عند دخول السّيّد إلى الهيكل: "الآن تطلق عبدك أيّها السّيّد على حسب قولك بسلام، لأنّ عينيّ أبصرتا خلاصك الّذي أعددته أمام كلّ الشّعوب" (لو 2: 29-31).

منذ البداية، ربط زكريّا بين مريم والخلاص الآتي بالمولود منها، أي إنّ العذراء، بلا المسيح، هي إنسانة عاديّة. نتعلّم من هذا الأمر أنّ كلّ واحد منّا، إن لم يدخل المسيح إلى حياته، لا يصل إلى التّألّه، إلى الغاية الّتي يبتغيها كلّ مسيحيّ، والّتي وصلت إليها العذراء مريم الّتي يقول عنها النّبيّ داود: "قامت الملكة عن يمينك مزيّنةً وموشّحةً بثوب مذهّب" (مز 45: 9)، وكما يقول الرّسول بولس: "أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني" (في 4: 13). هكذا، قويت العذراء بالمسيح الّذي حلّ في أحشائها بعد مغادرتها قدس الأقداس، لتكون مثالاً لكلّ إنسان، إذا كان مع الرّبّ، يكون الرّبّ دائمًا معه، ويولد من خلاله تمامًا كما حصل مع العذراء مريم، وعندئذ نكون آنيةً لكلمة الله المخلصة للبشر.

العذراء مريم لم تستغن بنفسها، مثلما فعل الغنيّ المذكور في إنجيل اليوم. هذا الإنسان الغنيّ تكبّر وانتفخ بسبب ما وصل إليه من غنى، فيما العذراء، الّتي وصلت إلى كمال الغنى الإلهيّ، بقيت على تواضعها، لا بل أصبحت مدرسةً في التّواضع، وجلست عن يمين ابنها في السّماوات، بينما الغنيّ في إنجيل اليوم هلك بسبب كبريائه. يقول لنا السّيّد الرّبّ: "هكذا من يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله". الغنيّ تعلّق بالمادّيّات واستغنى بها فأهلكته، والعذراء استغنت بالمسيح فمجّدها.

يا أحبّة، نعيّد اليوم في بلدنا الحبيب لبنان عيد الاستقلال. يأتي الاستقلال هذا العام، والقيود تكبّل المواطنين من كلّ صوب. يعيّد وطننا وسط حزن عميق، وحداد عامّ على الأرواح المسلوبة وأتعاب العمر المنهوبة، بالإضافة إلى جائحة تفتك بالبشر، وانهيار عامّ ماليّ وسياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ وأخلاقيّ يفتك بالبلد. أيّ استقلال في بلد غالبيّة أبنائه باعوا أنفسهم لزعماء جوّعوهم وشرّدوهم وأفقروهم وأذلّوهم، ومعظم زعمائه لا يأبهون إلّا لمصالحهم ولو كانت على حساب ولائهم للوطن. أيّ استقلال هذا، والمواطن أسير حزن لا يبرد طالما الحقائق لم تكشف والمسؤول لم يحاسب؟ لقد ناضل كبار رجالاتنا لننال استقلالاً لم يهنأ به الوطن، لأنّ كثيرين لم يدركوا معنى الحرّيّة، أو لم تكن الحرّيّة تليق بهم ولا الاستقلال. يقول الرّسول بولس: "فاثبتوا إذًا في الحرّيّة الّتي قد حرّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضًا بنير العبوديّة" (غل 5: 1).

يا أحبّة، الحرّيّة عطيّة إلهيّة، لا يستطيع أحد انتزاعها من الإنسان بلا رضاه. أمّا الاستقلال فهو التّحرّر من أيّة سلطة أو نير خارجيّ. هو غياب التّبعيّة والتّحرّر من كلّ أشكال التّوجيه أو الضّغط أو الإكراه أو التّحكّم. الدّولة المستقلّة هي الّتي تتمتّع بالسّيادة، وتمارس حقّها في إدارة شؤونها وفق إرادتها الحرّة، دون ارتباط أو تبعيّة أو خضوع لأيّة دولة أخرى، أيّ هي قادرة على ممارسة قرارها السّياسيّ بمعزل عن المؤثّرات المحيطة بها.

هل هذه هي حالنا اليوم؟

لبنان اليوم بلد منهار، مفلس، تتآكله الفوضى والفساد والفضائح وغياب القرار، السّياسيّون فيه يتباكون عليه قبل الشّعب.

لتكن ذكرى الاستقلال مناسبةً للتّأمّل في كيفيّة فكّ الأغلال والاتّجاه نحو النّور، باتّجاه شمس الحرّيّة، للانطلاق الفعليّ نحو التّحرّر من كلّ أنواع الاستعباد.

لذا أتوجّه إلى فخامة رئيس الجمهوريّة بكلمات صادقة، كلمات مواطن ومسؤول يتألّم مع شعبه، ويعاني معه، ويحلم مثله بوطن سيّد حرّ مستقلّ مزدهر ومشعّ.

فيا فخامة الرّئيس، أنت أب للّبنانيّين وشعبك يناديك وله حقّ عليك. منذ سنوات لبنان يعاني، وقد تدهورت أوضاعه إلى مكان يصعب الرّجوع منه. أنقذ ما تبقّى من عهدك وقم بخطوة شجاعة يذكرها لك التّاريخ. اللّبنانيّون يعرفونك ويعرفون أنّ طموحك كان كبيرًا، وقد وضعوا آمالهم فيك فلا تخيّب الآمال. لبنان أمانة في عنقك وقد أقسمت على المحافظة عليه، لذا أناشدك بإسم هذا الشّعب الطّيّب المرهق أن أنقذ لبنان. هو بحاجة إلى حكمتك وصلابتك إلى وقفة شجاعة تتخلّى بها عن كلّ ما ومن يعيق انتشال لبنان من حضيضه. إنّ قلبك ينزف كما قلب بيروت وساكنيها وجميع اللّبنانيّين، لكنّهم عاجزون ووحدك قادر على اتّخاذ القرار الجريء.

ربّنا يسوع المسيح الّذي نتهيأ لعيد ميلاده أخلى ذاته آخذًا صورة عبد وتجسّد وبذل نفسه من أجل خلاص خليقته. فما بال المسؤول لا يتشبّه بخالقه؟ المطلوب التعالي عن كلّ شيء والعمل فقط من أجل مصلحة لبنان واللّبنانيّين. لا تقبل أن يكون لبنان رهينةً في أيدي أطراف داخليّة أو خارجيّة. حرّيّته وسيادته واستقلاله أمانة بين يديك، وأنت تخرّجت من مدرسة الدّفاع عنها ووصلت إلى أعلى المراتب. لا يمكن للبنان أن يكون إلّا حرًّا وهو اليوم مقيّد مكبّل. لبنان يختنق إن لم ينفتح على العالم وهو اليوم معزول منبوذ. لا يمكن للبنان إلّا أن يكون مبدعًا مشعًّا على العالم وهو اليوم بلد الفقر والجوع والبطالة والتّشرّد. أين لبنان التّنوّع والتّسامح والحرّيّة والدّيمقراطيّة، لبنان النّشاط والحيويّة والازدهار والفرح؟ إنّه اليوم مفكّك حزين مظلم يائس. أين الكفاءات؟ أين الشّباب؟ أين الازدهار والعمران؟ أين الرّؤى والإبداع؟ أين لبنان ميشال شيحا وفؤاد شهاب وفؤاد بطرس وغسّان تويني؟ أين الرّجالات الكبار من كلّ الطّوائف؟ لبنان الّذي تغنّى به الشّعراء وأحبّه العالم، لبنان ملتقى الحضارات وحاضن الأديان، مقصد السّيّاح وملجأ الأحرار، لبنان العدالة والانفتاح والدّيمقراطيّة، هل يتقوقع ويضمر ويضمحل؟

لقد أحبّكم شعب لبنان فلا تخذلوه بسبب ارتباطات سياسيّة أو عائليّة أو طائفيّة. لا تدع يا فخامة الرّئيس العزيز أيّ ارتباط يقيّد قرارك وعملك من أجل الإنقاذ. لا تدع أيّ شيء أو إنسان يقف بينك وبين شعبك ولا تصغ إلّا لضميرك ولحسّك الوطنيّ، وأنا أعرف مدى محبّتك للبنان. طبّق الدّستور وافرض القوانين، أعد هيبة الدّولة باعتماد المساءلة والمحاسبة. إعمل على تفعيل الأجهزة الرّقابيّة وارفع يد السّياسيّين عنها وعن القضاء. حافظ على أرزاق النّاس وأموالهم. أصدق اللّبنانيّين القول. إفضح الفاسدين وسمّ المعرقلين. تعطيل الحكم جريمة، وصراع المصالح، وحروب الإلغاء المتبادلة، وتصفية الحسابات العبثيّة، وتنفيذ أجندات خارجيّة لا تقود إلّا إلى الهلاك. إعمل على ردعها. ما نفع السّلطة أمام خسارة النّفس والكرامة والوطن.

قم يا فخامة الرّئيس بخطوة إنقاذيّة من أجل شعبك ومن أجل أحفادك. سرّع تشكيل حكومة من نساء ورجال أحرار، تتولّى مهمّة الإنقاذ. إضغط على كافّة الأطراف من أجل مساندتك والعمل بتفان وتجرّد وإخلاص لكي نستحقّ الاستقلال ونستحقّ الحياة.

أمّا الرّئيس المكلّف تأليف الحكومة فنقول له أسرع في مهمّتك لأنّ البلد يتهاوى، والمواطن لم يعد يحتمل، والوقت يتلاشى والتّاريخ يحاسب. ضع يدك بيد فخامة الرّئيس واعملا معًا من أجل إنقاذ لبنان. الظّرف الصّعب يقتضي التّكاتف من أجل تخطّي العقبات، والتّعالي عن كلّ مصلحة أو تشفّ أو تصفية حسابات. يجب أن لا نضيّع الوقت كي لا يضيع الوطن. ودعاؤنا أن يوفّق الله كلّ مسؤول يعمل بصدق وإخلاص من أجل خير لبنان.

دعوتنا اليوم أن نكون مثل والدة الإله بالتّواضع من أجل الوصول إلى التّألّه والفرح السّرمديّ، وألّا نكون مثل الغنيّ المتكبّر الّذي لم يعد لديه مكان يضع فيه مادّيّاته، فتلهّى ببناء مكان أوسع ونسي أن يبني هيكل نفسه ليتّسع لكلمة الله.

دعوتنا أيضاً أن نسعى إلى الحرّيّة والاستقلال الحقيقيّين، أوّلاً عن الخطيئة، وثانيًا عن كلّ خاطئ يتسيّد علينا بخطاياه ويجعلنا عبيدًا عنده، مهدّدًا إيّانا بأمننا وأماننا.

في الأخير، دعائي أن يحفظكم الرّبّ الإله جميعًا سالمين، ويصون بلدنا الغالي، بشفاعات والدة الإله وجميع القدّيسين، آمين."