لبنان
17 نيسان 2022, 13:45

عوده في عظة الشّعانين: هل يملك شعبنا إرادة التّغيير ويسعى من أجل التّغيير أم أنّه سينكفئ ويختار القديم الذي اعتاده؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الشّعانين في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في الأشرفيّة، بحضور حشد من المؤمنين. وبعد الإنجيل المقدّس ألقى عوده عظة قال فيها:

"اليوم، في أحد الشّعانين، حين يدخل الرّبّ يسوع إلى أورشليم دخول الملك المنتصر، مستقبلًا بالهتاف وأغصان الزّيتون، مقدّمة لآلامه وموته وقيامته، ترسم لنا الكنيسة صورة الرّبّ يسوع الحقيقيّة، المناقضة لكلّ الآمال والتّوقّعات البشريّة. فملك إسرائيل القدّوس لم يدخل المدينة بجبروت ملوك الأرض وأسيادها، محاطًا بالمجد والحراسة الأمنيّة والمرافقين ومظاهر القوّة والتّرف، بل حضر "وديعًا، راكبًا على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21: 5)، هدفه أن يبلسم جراح المتألّمين، ويؤاسي قلوب المقهورين والحزانى والمظلومين وكلّ ضعفاء الأرض.
مع دخول مخلّصنا إلى أورشليم، ندخل اليوم في نهاية المسيرة الخلاصيّة نحو القيامة، مرورًا بالتّسليم والآلام واللّطمات والهزء وإكليل الشّوك والصّلب والموت.
أمس أنهينا الصّوم الأربعينيّ، واليوم ندخل صوم الأسبوع العظيم المقدّس، المليء بالصّلوات المكثّفة، والجهادات المقدّسة، علّنا نشارك المسيح جزءًا ممّا سار إليه طوعًا واختيارًا، ولا نكون مثل الذين هتفوا إليه: "هوشعنا" (خلصنا)، ثم صرخوا هم أنفسهم: (اصلبه). إنّ الشّعب الذي يستقبل المسيح اليوم بهتافات الظّفر، هو نفسه سيحكم على المخلّص بالموت بعد أيّام قليلة. سيتهمونه بالتّجديف لأنّه قال الحقيقة، ويحكمون عليه بالموت صلبًا لأنّه (جعل نفسه ابن الله) (يو 19: 7). الشّعب اعترف، عفويًّا، بشخص الرّبّ يسوع، المسيا الآتي، بينما لم يرد الرّؤساء العميان أن يؤمنوا به بسبب حسدهم، لأنّ كثيرين من اليهود آمنوا بالمسيح بسبب إقامته لعازر من الموت.
إنّ هتاف الشّعب للمسيح يتعارض مع تجهّم الرّؤساء وقلقهم. الشّعب يهتف، والرّؤساء المغتاظون والمنزعجون من المسيح بحجّة تعدّيه النّاموس يسألون: «أتسمع ما يقول هؤلاء؟» فيجيبهم: «نعم، أما قرأتم قط: من أفواه الأطفال والرّضع هيأت تسبيحا؟» (مت 21: 16). كانت هتافات الشّعب هي التّسبيح الذي خرج من أفواه الأطفال. لكن بساطة الشّعب، وطفوليّته بالنّسبة إلى الشّرّ، لم ترتبط بمعرفة الإيمان. كان الشّعب يفتقر إلى الرّعاية وإلى التّربية الدّينيّة. لم يقدّم الكتبة والفرّيسيّون للشّعب معرفة حقيقيّة، بل قيّدوه بتوصيات ناموسيّة لا تطاق، إلتزمت حرفيّة النّاموس، وجهلت روحه وجوهره. لذلك لم يكن قادرًا على أن يميّز صوت الرّاعي الحقيقيّ، ولا عرف بوضوح الكلمة النّبويّة عن شخص المسيح. خلط أهدافه القوميّة بظهور المسيح وعمله. هكذا، انجرّ وراء هوى الرّؤساء الذين حرّفوا الحقيقة، وانقاد إلى أفظع جريمة في التّاريخ البشريّ، إلى قتل المسيح صلبًا.
هذا الأمر نفسه نعيشه في عالمنا اليوم، وخصوصًا في بلدنا، حيث نجد مسؤولي الشّعب يغسلون أدمغة أتباعهم، مقولبين النّواميس والقوانين حسب أهوائهم، لكي يبقوا الشّعب تحت تسلّطهم، مصيبين إيّاهم بالعمى الإجباريّ حتّى لا تتفتح عيونهم ويدركوا أنّ الخلاص قد يأتي عبر آخرين. هذا تمامًا ما فعله النّاموسيّون والفرّيسيّون الذين كانوا يقنعون النّاس بأنّهم يملكون سلطة مطلقة على نفوس العباد، يدخلون من يشاؤون إلى الملكوت، ويخرجون منه من يشاؤون، كونهم حفظوا النّاموس حرفيًّا ونصبوا أنفسهم محامين، لا بل مدّعين عامين باسم الله ضدّ الشّعب. هؤلاء، نسمع الرّبّ، في مقاطع أناجيل الآلام، يقول عنهم: "فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا، لأنّهم يقولون ولا يفعلون" (مت 23: 3).
يتابع الرّبّ يسوع كلامه على رؤساء الشّعوب قائلًا: "فإنّهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف النّاس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكلّ أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم النّاس: فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبّون المتّكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتّحيات في الأسواق  (مت 23: 4-7). ألا ينطبق هذا الكلام، على غالبية مسؤولي بلادنا، الذين لا يهتمون بأبناء شعبهم إلّا عندما تقتضي مصالحهم؟ ألا ينطبق حديث الرّبّ عن الفرّيسيّين على سياسيّي بلادنا الذين يريدون التّسيّد على الشّعب بدلًا من خدمته، عملًا بكلام مخلّصنا: "أكبركم يكون خادمًا لكم، لأنّ من يرفع نفسه يتّضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 23: 11-12)؟
دخول المسيح اليوم إلى أورشليم، يعلّم كلّ مسؤول كيف تكون المسؤوليّة الحقيقيّة: إنّها المحبّة حتّى الموت. ففي المسيرة نحو الموت والقيامة، خدم المسيح تلاميذه على المائدة، وغسل أرجلهم، وقبل شتّى أنواع الإهانات، ثمّ الموت. لو كان أحد المسؤولين الحاليّين مكان المسيح، لما قبل بما عاناه الرّبّ، ولكان طلب مؤازرة لإسكات كلّ معارض وصاحب رأي حرّ، بأيّ شكل من الأشكال، قائلًا في نفسه: يموت لأحيا أنا. أمّا المسيح، الذي قدم للجميع درسًا في احترام حرّيّة الآخر حتّى أقصى الحدود، فقد قبل طوعًا بأن يصلب، وبعد صلبه برهن للجميع أنّه هو الحقّ والحياة، وأنّ ما فعلوه به، بتأثير من رؤساء الشّعوب، كان خطيئة. ومع ذلك غفر للجميع خطاياهم، وأقامهم معه بقيامته، غالبًا تسلّط الجحيم وسائر جنود الشّرّ. هذه الحرّيّة يجب أن تكون مصانة في كلّ الأوقات، لأنّها عطيّة من الله وليست منّة من أحد، وعلى الإنسان أن يستعمل حريّته بحكمة وتعقّل، لكي يمارس حقّه دون أن يسيء إلى حرّيّة الآخرين.
هنا أودّ أن أؤكّد لجميع أبنائنا أنّ عليهم القيام بواجبهم الوطنيّ بكلّ حرّيّة ومسؤوليّة، دون أن يتأثّروا بأحد، وأنّ الكنيسة لا تدعم أيّ مرشّح على حساب آخر لأنّها تحترم حرّيّة أبنائها.
إنّ عيد الشّعانين، يضعنا أمام إمتحان شخصيّ. هل نكون صادقين في هتافنا إلى المسيح: "خلّصنا يا ابن الله؟ هل نكون صادقين في قولنا "لتكن مشيئتك"؟ أم سنترك الرّبّ والمخلّص عند أوّل فرصة تتيح لنا إظهار الأنا المتملّكة فينا؟ الشّعب الهاتف من أجل خلاصه، عاد وصلب من اعتبره المخلّص الذي شفى مرضاه وأقام موتاه، لأنّ إيمانه كان متوقّفًا على الحرف، لا على روحانيّة المحبّة الصّادقة، ولأنّه كان معتادًا على أن يكون مستعبدًا، فخاف من طعم الحرّيّة. على صعيد الوطن، الإمتحان الأكبر الذي نقف أمامه اليوم، هو: هل يملك شعبنا إرادة التّغيير ويسعى من أجل التّغيير أم أنّه سينكفئ ويختار القديم الذي اعتاده؟ عندئذ سيتحمّل مسؤوليّة اختياره ولن يلقى لشكواه أذنًا سامعة، ولن يكون لأنينه أثر في نفوس سامعيه، لأنه اختار مصيره بإرادته.
دعوتنا اليوم أن نعلن ولاءنا الحقيقيّ للمسيح، الملك الوديع، الذي أحّبنا حتّى الصّليب، وأن نهتف إليه: "خلّصنا"، لأنّ لا خلاص لنا بسواه، مهما انتحل أناس هذه الأرض صفة المخلّص، آمين".