عوده: دعوتنا اليوم رفض التّجديف على الله وقدّيسيه ورفض إذلال الإنسان وظلمه وتجويعه وقتله
"أحبّائي، نعيّد اليوم للنّبيّ إيليّا التّسبيتيّ الغيور، الّذي يحتفل بتذكاره جميع المسيحيّين بحرارة. هذا النّبيّ الّذي عاش قبل المسيح بحوالى تسعمئة سنة، كان أوّل النّسّاك سكّان البرّيّة، كما كان مثالًا اقتدى به النّسّاك بعده كالقدّيس يوحنّا المعمدان السّابق والصّابغ الرّبّ، وجميع الّذين تبعوا المعمدان في مناهجه القويمة وعاشوا في البتوليّة ونكران الذّات في البرّيّة، كما نرتّل في طروباريّة القدّيس البارّ أنطونيوس الكبير: "لقد ماثلت إيليّا الغيور في أحواله، وتبعت المعمدان في مناهجه القويمة، فحصلت في البرّيّة ساكنًا، وللمسكونة بصلواتك مشدّدًا...". إنّ حياةً كهذه كانت بمثابة توبيخ لطريقة عيش الشّعب العبرانيّ في زمن النّبيّ إيليّا، وستبقى دومًا تبكيتًا للفساد المستشري في العالم وعنوانه عبادة المال والاستماتة في الحصول عليه، دون التفات إلى القيم والأخلاق والإنسانيّة، ومطاردة السّلطة إرضاءً للكبرياء.
النّبيّ إيليّا لم يترك أيّ كتابات، إلّا أنّنا نعرف عنه أكثر ممّا نعرف عن معظم الأنبياء، بسبب ما كتب عنه في سفريّ الملوك، اللّذين هما من الأسفار التّاريخيّة المهمّة في العهد القديم، وعلى من لم يقرأهما، أو قرأهما منذ زمن بعيد، أن يعود إليهما مجدّدًا للاستفادة من مضمونهما، ليس فقط في ما يتعلّق بالنّبيّ إيليّا، بل بأمور أخرى أيضًا.
نقرأ في هذين السّفرين أنّ النّبيّ إيليّا يدعى التّسبيتيّ، نسبةً إلى اسم قريته الواقعة في جلعاد. في زمانه، إبتعد معظم سكّان مملكة إسرائيل عن الله، وعبدوا الأصنام مضحّين لها بأبنائهم وبناتهم، خصوصًا لبعل. فتنبّأ إيليّا بأنّ السّماء لن تمطر مدّة ثلاث سنين ونصف عقابًا للشّعب، فتوقّف المطر، وتبعه جفاف ومجاعة. في ذلك الوقت، كانت الغربان تأتي إيليّا بالطّعام، تلك الطّيور المعروف عنها أنّها إذا جاعت تأكل فراخها، لكنّ الله سخّرها لخدمة عبده الأمين. وفي صرفت صيدا، أيّ صرفند اللّبنانيّة، الّتي أصابها الجفاف أيضًا، كانت هناك أرملة لم تبخل على نبيّ الله، بل أطعمته ما تبقّى لديها من طعام تركته لها ولابنها كي لا يجوعا. ولمّا مات ابنها توسّط إيليا لدى الرّبّ فأقام الإبن من الموت لأنّ محبّتها كانت عظيمةً إذ أطعمت إيليّا رغم عوزها وشدّتها. كانت تعبد بعل فآمنت بإله إيليّا، الإله الحقيقيّ ربّ السّماء والأرض.
إيمان إيليّا بالرّبّ كان قويًّا جدًّا، وقد تحدّى كهنة بعل بأن يقدّموا ذبيحةً لآلهتهم، وهو يقدّم ذبيحةً لله، والإله الّذي يستجيب بالنّار الآكلة للتّقدمة هو الإله الحقّ. لم يشكّ لحظةً بأنّ الرّبّ إلهه سيستجيب، وهكذا كان. غيرته لربّ الصّباؤوت جعلته يقضي على كهنة بعل. ثمّ تنبّأ بالمطر، فأمطرت السّماء وانتهى الجفاف والمجاعة. بعدما علمت إيزابيل ملكة إسرائيل بما فعله إيليّا بكهنة بعل، طلبت نفسه، فهرب إلى مملكة يهوذا. هناك أيضًا أطعمه الله عجائبيًّا بواسطة ملاك، ثمّ انتقل إلى جبل حوريب في سيناء، حيث هبّت عاصفة ولم يكن الله فيها، ثمّ زلزلة وأيضًا لم يكن الله فيها، وكذلك نار لم يكن فيها الرّبّ، إلى أن جاء نسيم عليل، وفيه كان الله، وقد تكلّم مع إيليّا معلّمًا إيّاه أنّ عظمة الرّبّ تظهر عندما يعلن نفسه في صوت ضميرنا الهادئ، وفي أعمال النّعمة، بدلًا من الآيات الضّخمة. بعد ذلك أصعد النّبيّ إلى السّماء حيًّا، على مركبة ناريّة.
عاد إيليّا مع موسى ليظهرا في العهد الجديد في حدث تجلّي الرّبّ أمام تلاميذه (متى 17)، وبعد التّجلّي بدأ الرّبّ بالحديث عن الآلام الّتي سيتكبّدها قريبًا.
يا أحبّة، إنّ حياة إيليّا كانت مليئةً بالعجائب، لكنّ الأعظم والأكثر فائدةً لنا هو فضائله. هذا النّبيّ عرف بتقشّفه إذ لم يأكل سوى الطّحين والزّيت مدّة ثلاث سنين ونصف، كما عرف بتواضعه إذ عندما حان وقت انطلاقه إلى السّماء لم يرغب أن يعاين أحد الحدث، حتّى تلميذه أليشع. كذلك، عرف بغيرته لمجد الله، تلك الفضيلة العظمى الّتي لازمت إسمه مدى الأجيال، مع أنّها الفضيلة الّتي نتناساها نحن أبناء الكنيسة. فإذا توجّه إلينا أحد بكلام أو أفعال تحطّ من قدرنا وكرامتنا ومجدنا الشّخصيّ، نكون مستعدّين للانقضاض عليه فورًا بألسنة أمضى من حدّ السّيف وبأفعال انتقام لا علاقة لها بالإنسانيّة، أمّا إذا أهان أحد مجد الرّبّ، فإنّنا نتنصّل ونهرب بحجّة صون حرّيّة الرّأي والتّعبير، عوض أن نماثل غيرة إيليّا، طبعًا ليس بالعنف وبطلب نزول غضب الرّبّ، بل بالحوار والقدوة والصّلاة إلى الله كي ينير عقل المجدّف لكي يرى مجد الله الخالق. إيليّا كان رجلًا من العهد القديم، حيث كان الرّبّ يسمح أحيانًا بالعنف والانتقام لأنّ كمال النّعمة الإلهيّة والاستنارة الرّوحيّة لم يستعلنا بعد، حتّى لأكثر البشر روحانيّةً، كالنّبيّ إيليّا. أمّا نحن فأبناء الإنجيل المقدّس، حيث أظهر الرّبّ يسوع للبشريّة طريقًا أفضل. لذا، دعوتنا اليوم أن نظهر للآخرين، عبر تصرّفنا، مثالًا عميقًا في احترام القدسات، وإنسانيّة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، فنرفض التّجديف على الله وقدّيسيه، ونرفض أيضًا إذلال الإنسان وظلمه وتجويعه وقتله كما يحصل في عالمنا. وعندما يساء إلينا، نبلسم الجرح بالكلام اللّطيف، ونعلم بالقدوة المحبّة والتّسامح والغفران. كذلك، عندما يتفوّه البشر بالتّجديف، لا نضحكنّ أو نقبلنّ بذلك، وإن كنّا لا نستطيع توجيههم نحو الرّبّ، فلنهرب من معاشرتهم، محافظين على الغيرة للرّبّ في قلوبنا كلّ حين، آمين."