لبنان
13 أيلول 2021, 07:55

عوده: بلدان المنطقة تحاول تسوية أوضاعها... فيما لبنان يحتضر بانتظار تحالفات وتسويات

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القديس جاورجيوس. بعد الإنجيل المقدّس ألقى عوده عظة جاء فيها:

"اليوم هو الأحد الذي يسبق عيد رفع الصّليب الكريم المحيي. في الرّابع عشر من أيلول، نقيم تذكار رفع الصّليب الكريم المحيي في كلّ العالم، وتحدّد الكنيسة فترة تهيئة ما قبل العيد، إضافة إلى فترة امتداد ما بعده. الأحد الذي قبل عيد الصّليب والأحد الذي يليه مكرّسان لعود خلاصنا المغبوط. تتحدّث التّسابيح والقراءات التي تتلى في الكنائس المقدّسة عن مكانة الصّليب في وجدان المؤمن الحقيقيّ، وعن طريقة المشاركة في نعمة سرّ الصّليب. في إنجيل اليوم تلفتنا العلاقة بين الحيّة النّحاسيّة وبين صليب الرّبّ. الحيّة النّحاسيّة التي رفعها موسى في البرّيّة حسب وصايا الله هي رمز للصّليب، عود الخلاص والحياة، الذي سحق المسيح عليه "من له سلطان الموت" أيّ إبليس"
إنّ صغر النّفس عند الشّعب العبرانيّ، عندما ضلّ في الصّحراء، آل به إلى التّذمّر على الله وعلى موسى، بعد أن أخرجاه من أرض مصر. شعر هذا الشّعب أنّ العبوديّة أكثر احتمالًا من حياة الصّحراء القاسية، وعميت عيونه عن مشاهدة عطايا الله. ألا يشبه شعبنا الشّعب العبرانيّ في هذا الموقف؟ أنقذ الرّبّ بلدنا وعاصمتنا من بلايا كثيرة، آخرها انفجار كارثيّ ربّما كانت نتائجه ستكون أكبر بكثير لولا العناية الإلهيّة. طبعًا لا نقصد أنّ الله حمى أناسًا وآخرين أسلمهم إلى الموت، طبعًا لا، لكن إجرام الشّرير كان يمكن أن يشمل الألوف. مع هذا، ومع أنّ الشّعب يعلم جيّدًا أنّ زعماءه مسؤولون بشكل أو بآخر عمّا حدث، لا نزال نرى غالبيّة ساحقة من الشّعب تتبع الزّعماء وتهتف لهم عوض مطالبتهم بالعدالة وبتسهيل عمل القضاء والمساهمة الفعّالة بكشف الحقيقة. 

نرى على الصّليب جسد المسيح متأثّرا بالجلدات. إنّه جسد إنسان لكن بلا خطيئة، مثلما كانت الحيّة النّحاسيّة بلا سمّ. لقد حمل المسيح عواقب خطيئة العالم على عاتقه، وهو بلا خطيئة، لذلك كان موته جورا. لقد خلّصنا من العبوديّة للخطيئة، فيما يهرع البشر نحو العبوديّة لزعماء هذا العالم وأسياده، الذين عوض أن يقوموا بما يخلّص شعبهم من الأزمات، يفتعلون الأزمة تلو الأخرى حتّى يبقوا مطبقين على رقاب الشّعب المخنوق أصلًا بالأعباء المعيشيّة التي أغرق فيها. إرتكب الشّيطان اختلاسًا للسّلطة، لأنّه لم يملك سلطة الموت إلّا على الذين انجرحوا بشوكة الخطيئة. أمّا الأحرار فلن يقوى عليهم شيء، حتّى الموت، لأنّ كلمتهم الحرّة ستبقى تصرخ شاهدة للقيامة من موت العبوديّة للخطيئة والذّلّ والهوان. في حالة المسيح، حقق الشّرير ظلمه غير المحدود، فتسبب بإماتة بريء صلبًا، لكنّ الله العادل بادر وألغى سلطة الشّيطان بموت ابنه. من هنا نرى على الصّليب موت الخطيئة. فالحيّة النّحاسيّة ترمز إلى موت الحيّة العقليّة، أيّ إلى موت الشّيطان. ونحن، فيما نجعل انتباهنا الدّاخليّ، أيّ كياننا كلّه عند الصّليب، ننتعش بسبب إماتة الموت والشّيطان، ونأتي إلى الشّركة مع الحياة الحقيقيّة، أيّ المسيح. لذا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا (1كور1: 23).
الصّليب لا ينفصل عن المصلوب، لأنّه ليس مجرّد شكل، ولا رمزًا لفكرة ما، بل هو يشمل محبّة الله كلّها للعالم. إنّه قوّة الله التي تجدد الخليقة بسحق الخطيئة، وتاليًا لا ينفصل الصّليب عن القيامة، ولو لم يرتبط الصّليب بالقيامة لكان أداة قتل، أمّا الآن فهو باب الحياة. إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله (1كور1: 18). تحمل هذه الحقيقة نتائجها في الحياة اليوميّة للمؤمن، حيث يعبر ارتباط الصّليب بالقيامة عن حياة المؤمن المستقيم الرّأي الذي لا يعيش حالات من جهة واحدة: لا حزنًا بلا تعزية، ولا فرحًا مفرطًا، بل يعيش الحزن والفرح معًا. لذلك نرتّل: يا ربّ، إنّ صليبك لهو حياة وقيامة لشعبك، لأنّنا كنيسة القيامة، والصّليب مركز حياتها. لذلك تدعونا الكنيسة دائمًا، من خلال الآباء القدّيسين، إلى أن نجد النّعمة المختبئة داخل الآلام والأحزان والمصائب. إن لم نفعل هكذا، أصبنا باليأس، وأنهينا حياتنا بأيدينا، وقد سمعنا في الآونة الأخيرة عن لبنانيّين يئسوا من صعوبة الحياة وسواد الرّؤية فأقدموا على الإنتحار لأنهم لم ينظروا باب النّعمة المفتوح ضمن غرفة بلدنا المظلمة. يقول القدّيس بورفيريوس الرّائي: إنّنا ننتفع كثيرًا من الأمراض. يكفي أن نتحمّلها بلا تذمّر وأن نمجد الله بها، طالبين رحمته... وأن نجاهد كي نقتني نعمة الله... والنّعمة سوف تعلّمنا الأمور الأخرى أيّ كيف نودّع المسيح ذواتنا... والله سيعمل الأعجوبة بما يوافق نفوسنا.
سمعنا في إنجيل اليوم: كما رفع موسى الحيّة في البرّيّة، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به (يو 3: 14-15). هذا الكلام كثيف بالمعاني، إذ نرى فيه الإيمان مرتبطًا بالصّليب، حاملًا الحياة الأبدية كنتيجة. هكذا، يوازي الإيمان بشخص المسيح رؤية الحيّة النّحاسيّة آنذاك. بالنّسبة إلى الحيّة فإنّ كلّ من لدغ ونظر إليها يحيا (عدد 21: 8)، أمّا الآن فكلّ من يؤمن به... له الحياة الأبديّة. إيماننا يكرز بيسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا، ويرشد المؤمنين إلى مشاركة نعمة الصّليب بالطّاعة لمشيئة الله، التي كثيرًا ما تصطدم بمشيئتنا الذّاتيّة الفانية الخاطئة. يولّد هذا الإصطدام انتصارنا الحقيقيّ عندما نسمّر جسد الخطيئة طوعًا على صليب وصايا المسيح. هذا الألم يأتي من الإيمان الذي يقودنا إلى ألم التّوبة الشّافي. نحن نعيش في عصر يعارض سلوك الكنيسة في هذا الفهم للصّليب. فالإنسان المليء بالأهواء يعتبر إنسانًا طبيعيًّا ومقياسًا لكلّ الحقائق. وفق عقليّة العالم المعاصر، يريد كثيرون أن تكون الكنيسة متساهلة مع الخطأة، إلّا أنّ الكنيسة تترأّف على الخاطىء لكنّها لا تبرر خطيئته بل تنير له درب الخلاص منها. لذا، أينما وجدت الخطيئة، ستكون الكنيسة لها بالمرصاد، دالة البشر على الطّريق المؤدّي إلى الملكوت السّماويّ". فيا أبناءنا الأحبّة، لا تنجرّوا وراء أحد على هذه الأرض الفانية، لأنّ من يقبل باستعبادكم أو من يتسبّب بكل ما تقاسونه في هذه الأيّام الصّعبة ليس من الله، لأنّ الله إله محبّة وحرّيّة وشعبه محبوب وحرّ. إتبعوا فقط من يرشدكم نحو الرّبّ، ومن يطبّق المحبّة الحقيقيّة والتّضحية والرّحمة في كلّ مجالات حياته، وتقبّلوا منه صليب الطّاعة، التي هي نقيض العبوديّة، والتي تبدو صعبة التّطبيق لكنّها هي التي تتحدنا بمشيئة الله. فالمسيح أطاع حتّى الموت، موت الصّليب، لكنّه تمجّد بالقيامة البهيّة. أمّا من يستعبدكم من البشر والزّعماء فهم يفتّشون عن مصالحهم ولا يأبهون إلّا لسعادتهم حتّى لو كانت على حسابكم وحساب حياتكم ومصالحكم. 

المسؤولون والزّعماء الذين لم يدم قلوبهم تفجير قلب العاصمة، وسقوط الضّحايا، وتدمير المنازل والأحياء، ولم يحرّك ضمائرهم وضع اللّبنانيين المزري، الذين يموتون جوعًا ومرضًا وذلًّا، كانوا غير مبالين بضياع الوقت والفرص. سنة مرّت والبلد يتخبّط بلا حكومة تتحمّل المسؤوليّة وتعمل من أجل الإنقاذ، فيما كانوا منشغلين بتقاسم الحقائب والحصص، يتلهّون بالمطالب والفيتويات والمناكفات. أمّا الآن، وقد توصلّوا إلى تأليف حكومة، فأملنا أن يشكّل أعضاؤها فريقًا واحدًا متجانسًا يتطلع إلى هدف واحد هو العمل بنزاهة وإخلاص وتواضع وزهد ونكران للذّات، ودون تردد أو إضاعة للوقت، من أجل وقف التّدهور وبدء مسيرة الإنقاذ، مقدّمين المصلحة العامّة على كلّ مصلحة. الطّريق شاق وصعب ويتطلّب جهودًا كبيرة، لكن من قرر القيام بعمل، وهو مقتنع بجدواه، لا بدّ سينجح. أنظروا حولكم. في البلدان المجاورة حوّلوا أرضهم الموحشة إلى معمورة، وجعلوا من الصّحاري واحات تنبض بالحياة، فيما نحن حوّلنا بلدنا إلى خربة وشعبنا إلى متسوّل. بلدان المنطقة تحاول تسوية أوضاعها وتحسين حياة شعوبها، وتتطلّع إلى المستقبل، فيما لبنان يحتضر بانتظار تحالفات وتسويات. لنصلّ معًا لكي يلهم الرّبّ الإله رئيس وأعضاء الحكومة الجديدة من أجل القيام بكلّ عمل صالح لخير لبنان وبنيه، بمحبّة وصدق وتفان وتضحية، بعيدًا من المحاصصات والنّكايات والكيديّات، وبعيدًا من كلّ عامل خارجيّ يؤثّر سلبًا على وطننا. المسؤوليّة صليب على المسؤول أن يحمله ونظره إلى فوق لكي يستحقّ القيامة ويبلغ النّجاح. 

دعوتنا اليوم أن نؤمن بالمخلص الذي بذل نفسه على الصّليب من أجل أن يخلّصنا من الموت النّاتج من الخطيئة، وأن نتعلّم منه هذه المحبّة العظمى التي قد تقودنا أحيانًا كثيرة إلى الألم، لكن نهايتها ليست سوى فرح قياميّ لا يزول".