لبنان
24 كانون الثاني 2022, 06:55

عوده: المغامرة باستقرار البلد فهي جريمة لذلك مطلوب عملاً إنقاذيًا سريعًا قبل فوات الأوان

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، ألقى خلاله عظة قال فيها:

"أحبّائي سمعنا في إنجيل اليوم عن أعمى كان يطلب صدقةً من جميع عابري السّبيل خارج أريحا. لما سمع الجمع مجتازًا سأل ما هذا فأخبر بأنّ يسوع النّاصريّ عابر فصرخ قائلاً: "يا يسوع ابن داود ارحمني". لم يثنه عن إلحاحه التّعقّل المزعوم، الّذي أبداه المجتمع حوله، بل ازداد صراخًا: يا ابن داود ارحمني! عدم إذعانه للضّغوط من حوله، وتوسّله الملحّ في آن، جعلا يسوع يطلب أن يقدّم إليه، وسأله: "ماذا تريد أن أصنع لك؟". سؤال المسيح هذا، الّذي يبدو غريبًا للوهلة الأولى، يحمل مضمونًا عميقًا. هل يحتاج أحد أن يسأل الأعمى عمّا يريد؟ طبعًا يريد أن يعود نور عينيه. هكذا تمامًا أجاب الأعمى: "أن أبصر".

من المهمّ أن يعرف الإنسان مشكلته الأساسيّة الّتي تعذّب وجوده فعلًا، بحيث يصير الشّفاء منها همّه الأوّل. هذا الهمّ يعبّر عنه الإنسان في حواره مع المسيح من خلال الصّلاة. إنّ عقم صلاتنا يعود، بدرجة كبيرة، إلى عدم معرفتنا ما يجب أن نطلبه، أو كيف نطلبه. من هنا أهمّيّة التّأمّل في المعنى الّذي يخفيه سؤال المسيح.

إنّ ما طلبه الأعمى من المسيح هو الرّحمة. قال: "ارحمني". أيّ أنّه أراد من المسيح أن يعطف عليه ويساعده. هذا الدّعاء، أيّ طلب الرّحمة، هو صلاة الكنيسة الدّائمة والمستمرّة. وما الرّحمة الّتي نطلبها في قولنا "يا ربّ ارحم" أو "ربّي يسوع المسيح ارحمني" سوى طلب نعمة الله، وعمله المطهّر المنير، الّذي يشفي نفوسنا من أمراض الأهواء. تحوي كلمة "رحمة" طلبات النّفس المصلّية كلّها. عندما نقول: "ارحم"، نعترف بتواضع أنّنا بحاجة إلى الرّحمة، أيّ إلى إحسان الله لنا، كفقراء ومرضى، غير قادرين على تطبيق وصايا الإنجيل. لكنّ هذا الطّلب العامّ يجب أن يرافقه تطبيق عمليّ.

يقول الآباء القدّيسون إنّ الصّلاة فيها تبدّلات تغير صفاتها دائمًا، وترتبط بسائر تفاصيل الحياة الرّوحيّة ومراحلها، ومنها يتشبّع كلّ عمل نقوم به. إنّها ليست مستقلّةً عن جهادنا ضدّ الأهواء، كما لا يمكن أن تتجاهل مشاكلنا اليوميّة. في الحقيقة، من حيث الجوهر، المشكلة هي نفسها، دائمًا وفي كلّ مكان: إنّها تمرّدنا على مشيئة الله. هذا التّمرّد يمزّق وجودنا، ويعرقل عمل النّفس، فيجعلنا غير قادرين على مقاومة كلّ ما تثيره فينا الطّبيعة من الخارج. إنّها الخطيئة بمختلف مظاهرها.

يعلّم آباؤنا القدّيسون أنّ شفاءنا من مرض الخطيئة والأهواء لا يتمّ فجأةً، بمجرّد "إخراج الصّوت". فهو يتبع ترتيبًا معيّنًا، ومسيرةً متنامية، ويحتاج إلى كثير من الوقت والصّبر والمثابرة. في هذه المسيرة الرّوحيّة، يجب أن نعرف كلّ مرّة ما الهوى الّذي يعذّبنا، أو يحاربنا عن كثب، وأن نبادره أوّلًا بسهام الصّلاة. يريدنا المسيح أن نجيبه دائمًا، في صلاتنا، عن سؤاله: "ماذا تريد أن أصنع لك؟"، مظهرين الهوى الأساسيّ أو المشكلة الأساسيّة الّتي تعذّبنا. طبعًا، إنّ الهوى الرّئيس ليس سوى عدم إحساس النّفس، وعدم معرفتنا لذواتنا. عندئذ، يمكن أن تتضمّن صلاتنا كلمات مثل: "أضئ ظلمتي... أريد أن أبصر".

سؤال المسيح عمّا نريده أن يصنع لنا يحمل دينونةً لنيّتنا وتوجّهاتنا. فلو فحصناها لوجدناها مرارًا لا تعرف ماذا تريد من المسيح. هذا ما حدث مع تلميذي المسيح عندما طلبا حقّ التّقدّم على الآخرين، فيما هو يكلّمهما على تضحية الصّليب. عندئذ قال لهما: "أنتما لا تعلمان ماذا تسألان" (مر 38: 10). وفي سياق آخر نصح تلاميذه قائلًا: "أطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه" (مت 6: 33). أمّا نحن، فبسبب افتقارنا إلى النّضوج الرّوحيّ، نطلب من الله أن يتدنّى إلى خدمة مصالحنا الشّخصيّة. طبعًا، حياتنا كلّها تخصّ الله، كما أنّ كلّ عمل نعمله ينبغي أن نباشره ببركته. هذا يتطلّب إيمانًا حيًّا، واستعدادًا ليستنير كلّ ما تنطوي عليه حياتنا بحضرة الله. إلّا أنّ أناسًا كثيرين يصبّون اهتمامهم كلّه في مصالحهم وتصريف أعمالهم، من غير أن يتوقّفوا طويلًا عند السّبل المؤدّية إلى نجاحها. عندئذ يساوون بين الإيمان والتّنجيم، فيقصدون المنجم بالسّهولة نفسها الّتي يستدعون بها الكاهن. هذه مشكلة حقيقيّة فيها دينونة لإيماننا لأنّنا نطلب أوّلًا سائر الأمور، ونترك ملكوت الله.

لقد أجاب الأعمى تلقائيًّا عن سؤال المسيح: "أريد أن أبصر". في حالة الأعمى، كما في حالات أخرى، يوجّه المسيح أسئلته في سياق الحوار الّذي يدور بينه وبين الإنسان المقترب إليه، مريدًا أن يظهر إيمان ذاك الإنسان، وفضيلته وشفافيّة مطالبه. كذلك يريد أن يسمع الحاضرون جميعًا طلبه، ليتأكّدوا فيما بعد أنّه أعطي ما طلب. المسيح يمنحنا ما نطلبه، شرط ألّا ينافي الطّلب مشيئته، ويشكّل خطرًا على خلاصنا. وإذا تأخّر فلكي يمتحن صبرنا. نحن نجدّف عندما نتضرّع إلى الله ليصير خادمًا لنوايانا الخاطئة. يقول الرّسول يعقوب أخو الرّبّ: "تسألون ولا تنالون لأنّكم لا تحسنون السّؤال، لرغبتكم في الإنفاق على أهوائكم" (4: 3). إنّ عدم تحقيق الله لإحدى رغباتنا هو بركة وعطف خاصّ من لدنه. هو يحبّنا، ويعتني بكلّ تفاصيل حياتنا. يريد أن يجعلنا مشابهين له بالنّعمة، لا غارقين في الوحل. لذا، فليكن طلبنا الأساسيّ جواب الأعمى للمسيح: "أريد أن أبصر"، سائلين أن يفتح أذهاننا "لنفهم الكتب"، وأن ينير أعين نفوسنا علّنا نرى بوضوح "طريق الرّبّ" في كلّ ظرف.

يا أحبّة، إنّ ما يحدث في بلدنا الحبيب هو العمى بذاته، لكنّ العميان عندنا لا يلجأون إلى الرّبّ لينير عيونهم وعيون ضمائرهم، بل يتلطّون خلف المظاهر الإنسانيّة والتّسميات الدّينيّة والمطالبة بحقوق الطّوائف، لا محبّةً بأبناء الإيمان، بل خدمةً لمصالحهم الشّخصيّة. لهذا، يطبّق على قادتنا ما قاله الرّبّ للنّبيّ إشعياء: "غلّظ قلب هذا الشّعب وثقّل أذنيه واطمس عينيه، لئلّا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، ويرجع فيشفى" (إش 6: 10). كلّما أراد المسؤولون الاستفادة شخصيًّا يسمعوننا الكلام الطّائفيّ المحرّض أو المفرّق. الله يجمع ولا يفرّق. الدّين محبّة لا تفرقة فيه، فلا تستخدموه إلّا للاقتراب من الرّبّ، وطلب الغفران منه على ما اقترفتم بحقّ الشّعب.

الأسبوع الماضي فرح البعض لأنّ الحكومة ستعود للعمل من أجل تسيير أمور النّاس. أليس الطّبيعيّ أن تجتمع الحكومة وتستميت في خدمة الشّعب عوض جعله رهينةً ومطيّةً للمصالح والأهواء؟ أليس طبيعيًّا أن تكون اجتماعاتها مفتوحةً في هذه الفترة العصيبة الحرجة، وألاّ تهمل أيّ تفصيل يساهم في إنهاض البلد وإنقاذه؟ طبعًا نأمل أن تجتمع الحكومة باستمرار، وأن تعمل من أجل إنقاذ ما تبقّى من الشّعب في أرض الوطن، أو ما تبقّى منه حيًّا يرزق بعد أن فقدت مقوّمات الحياة في البلد، ولم يتبقّ شيء يذكر. وعوض بحث "بعض" الأمور، عليها البحث في "كلّ" الأمور ومعالجتها بأقصى سرعة. كما نأمل أن لا يسود قانون الغاب حيث يحصل الأقوى على ما يريده، ويأكل الأضعف، بل أن يدار البلد بحكمة وتعقّل وشفافيّة وضمير حيّ،  وبحسب ما يمليه دستور البلد وقوانينه لا مصالح الأفراد أو الجماعات. إنّ قيام المسؤول بمهامه، ومنها حضور جلسات مجلس الوزراء والمشاركة في إنقاذ البلد، يجب ألّا يكون خيارًا يتّخذه بل واجبًا يحتّمه الحسّ الوطنيّ والمسؤوليّة. إنّ المصلحة الوطنيّة هي الحدّ الّذي تتوقّف عنده الأنانيّات والمصالح. أمّا المغامرة باستقرار البلد فهي جريمة، لذلك مطلوب عملاً إنقاذيًّا سريعًا قبل فوات الأوان.

دعاؤنا أن يحفظ الله أبناء هذا البلد الحبيب من كلّ مكيدة وشرّ، وأن يمنحهم الاستنارة كي يعرفوا أخطاءهم ويحسنوا الطّلب إلى الله العطوف، الّذي لا يهمل طلبة البارّ، ويستجيب دعاء الصّادقين. فكما قال للأعمى "إيمانك قد خلّصك"، هكذا إيماننا بالله الّذي يشدّد انتماءنا إلى الوطن هو سبيلنا إلى الخلاص. كما نسأله أن يلهم هذا الشّعب الطّيّب لكي يحسن اختيار ممثّليه، لأنّ الوقت حان لإجراء تغيير حقيقيّ يقود البلد إلى حيث يطمح شعبه ويستحقّ. شدّدكم الرّبّ وأناركم وبارك حياتكم، آمين."