لبنان
09 آب 2021, 05:55

عوده: المطلوب عمليّة إنقاذ ضروريّة الخطوة الأولى فيها تشكيل حكومة تتولّى الحوار مع المجتمع الدّوليّ لمساعدة لبنان

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، أمس الأحد، خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، ألقى خلاله عظة بعد الإنجيل المقدّس قال فيها:

"بإسم الآب والإبن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، نسمع في إنجيل اليوم عن أعميين كانا يتبعان الرّبّ يسوع ويصرخان قائلين: "إرحمنا يا ابن داود". لحاقهما بالرّبّ يسوع وصراخهما يدلّان بوضوح على عزمهما الواضح على طلب الشّفاء، وقد عبّرا عنه بإلحاح، فخرج صراخهما صلاةً مستمرّةً، فيما كانا يتبعان المسيح. اللّافت في هذا الإنجيل أنّ الرّبّ يسوع انتظر وصوله إلى البيت الّذي كان يقصده قبل أن يكلّم الأعميين اللّذين كانا يصرخان.

لقد سعى يسوع كما في مواضع كثيرة أن يشفيهما بعد توسّل، حتّى لا يعتقد أحد أنّه يقوم بالعجائب حبًّا بالمجد، ولكي يظهر استحقاقهما.

الأعميان بقيا مثابرين في الالتماس، جادّين في إثر السّيّد وإن بدا غير سامع. إنّ الالتماس والمثابرة أساسيّان في علاقتنا مع الله، لأنّ اقتبال نور المسيح رهن بالقرار الشّخصيّ لكلّ إنسان. لذا علينا أن نبرز إرادتنا الحرّة في السّعي إلى المسيح وطلب الخلاص، "والّذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (متّى 24: 13).

لا شكّ أنّ الرّبّ كان يعرف مقصد الرّجلين، لكنّه بسؤاله أعطاهما الفرصة لكي يعلنا على الملأ إيمانهما بشخصه وبقدراته الإلهيّة. لم يسألهما: هل تؤمنان أنّي أقدر أن ألتمس لكما من الرّبّ ما تريدان، بل قال: "هل تؤمنان أنّي أقدر أن أفعل ذلك؟".

لقد تبيّن أنّ صراخ الأعميين مستند إلى إيمان متين، لأنّهما أجاباه بلا تردّد: "نعم، يا ربّ". كان اعتراف الإيمان هذا شرطًا لشفائهما، فلمس المسيح أعينهما قائلًا: "بحسب إيمانكما ليكن لكما".

الإيمان الشّخصيّ مفتاح الخلاص وسبيل المسيح إلى قلوبنا (أف 3: 17). لقد ترك المسيح إيمانهما يحدّد مسبقًا نتيجة فعله، وقد أظهر شفاؤهما أنّ إيمانهما حقيقيّ واعترافهما صادق.

حادثة شفاء الأعميين تصف لنا علاقة الإيمان بالعجائب، كما تبيّن لنا كم يعتني المسيح بحياة البشر، وكيف يدبّر حياتهم دون أن يلغي حرّيّتهم.

قال يسوع للأعميين بعد أن لمس أعينهما: "كإيمانكما فليكن لكما"، فانفتحت أعينهما. معجزة الإبصار أتت شهادةً للحقيقة الّتي أعلناها ودليلاً على قوّة فعل الإيمان. الأعميان آمنا ثمّ أبصرا. هذا دليل على أنّنا بالإيمان نستحقّ ما نلتمس، وأنّ علينا ألّا نبني إيماننا على أساس ما يعطى لنا. بالإيمان والجهاد يرتقي الإنسان إلى اقتناء ملكوت الله ويصبح ابنًا للنّور.

بعد شفائهما، أوصى الرّبّ الأعميين بلهجة صارمة ألّا يعلنا العجيبة. إذا ربطنا وصيّة المسيح هذه بسؤاله: "هل تؤمنان أنّي أقدر أن أفعل هذا؟"، نرى احترام المسيح الكبير لحرّيّة الإنسان. هو لا يريد إجبار أحد على قبول شخصه، ولا يريد أن يأتي ذلك نتيجة حدث مدهش. العجيبة هي نتيجة الإيمان، وليس الإيمان نتيجة العجيبة، والمسيح لم يرد أن يصنع العجائب ليدهش العالم وينشئ أتباعًا له. لم يرد أتباعًا يحبّون مصلحتهم الشّخصيّة، بل أراد تلاميذ مؤمنين به.

أمر آخر يجب التّشديد عليه وهو أنّ الرّبّ يسوع، بطلبه إلى الأعميين أن يبقيا الأمر سرًّا، رغم علمه بأنّهما سيحدّثان بما صنع الله لهما، يرسم لنا قدوةً نتبعها. هو يعلّمنا بالمثال أن لا نسعى إلى استعراض فضائلنا بل أن نبقيها مكتومةً، والله يكشفها متى رأى فيها بنيانًا للآخرين. فإن كان فينا شيء من فضيلة فهو نعمة من الله لا فضل لنا بها. ومن شاء التّمثّل بالسّيّد لا تعنيه ذاته وأعماله بل يهتمّ بخير الآخرين. ابن الله الوحيد، يسوع المسيح، المساوي للآب في الجوهر، والّذي به كان كلّ شيء، لم يتجسّد وينحدر إلى عمق حياتنا الأرضيّة باستعراض مجد وقوّة، بل وديعًا، متواضعًا، حاملاً آلامنا وأحزاننا (إش 53: 3-4). أفلا يخجل كلّ إنسان يستعرض فضائله وينشر حسناته وعطاياه؟

هذا الإنجيل هو دينونة لكلّ مسؤول أو سياسيّ أو زعيم يساعد النّاس، ثمّ يذكّرهم بما فعل. إن كان المسيح نفسه لم يطلب مقابلاً لما صنع مع البشر، بل كان دومًا يطلب منهم أن يبقوا على صمتهم، كيف يمكن لإنسان أن يملي على من ساعدهم القيام بما لا يريدون؟ وكيف يذعن البشر لأوامر من يساعدهم مرّةً ثمّ يغيب إلى حين تقتضي مصلحته؟ الزّعماء والسّياسيّون لا يعرفون شعبهم إلّا عند المصلحة الشّخصيّة. لذلك من واجب المواطن أن يكون واعيًا ومسؤولاً في خياراته. ويؤسفنا أنّ المجتمع الدّوليّ يهتمّ أكثر من ذوي السّلطة بلبنان وكيفيّة إنقاذه مع شعبه. قرأنا في بيان الرّئاسة الفرنسيّة بعد اجتماع 4 آب: "إنّ أفضل مورد للبنان هو شعبه، وإنّ الأزمة وتداعيات المماطلة السّياسيّة تؤدّي إلى ارتفاع عدد اللّبنانيّين الّذين يغادرون بلدهم. هذا خطر أساسيّ على مستقبل لبنان، وهو يقوّض حاليًّا القطاعات النّخبويّة في لبنان، وخصوصًا في مجالي التّربية والصّحّة". هلّا فهم مسؤولو بلدنا، أنّ من لم يقضوا عليهم بواسطة التّفجير سيقضون عليهم بواسطة التّهجير! ما الغاية من إفراغ البلد من شبابه ومثقّفيه وخيرة ثروته البشريّة؟

ورد أيضًا في البيان الفرنسيّ: "أشار المشاركون إلى أنّ قيام حكومة لتنفيذ الإصلاحات الّتي لا غنى عنها، وبشكل فوريّ، هي الخطوة الأولى لمجهود دائم لمواجهة التّحدّيات الّتي تواجه لبنان..." وأنّ "الاقتصاد البنيويّ والمساعدة الماليّة، تقتضي تغييرات عميقةً منتظرةً من القادة اللّبنانيّين". كيف يكون مسؤولًا من لا يعرف مسؤوليّاته تجاه شعبه، ولا يعرف إدارة بلاده، ولا يعرف كيف يصلح ما فسد؟

المطلوب تحرّك فوريّ، عمليّة إنقاذ ضروريّة، الخطوة الأولى فيها تشكيل حكومة تتولّى الحوار مع المجتمع الدّوليّ لمساعدة لبنان. لكنّ المماطلة سيّدة الموقف منذ انفجار 4 آب الكارثيّ، ولم نشهد إلّا تعقيدات وتعطيلاً. بلاد منكوبة، اقتصاديًّا وماليًّا وصحّيًّا وتربويًّا، دون أن ننسى النّكبات الّتي خلّفها تفجير العاصمة، ومسؤولونا مرتاحون على عروشهم، يأخذون وقتهم في اتّخاذ القرارات المصيريّة الّتي كان يجب أن تتّخذ منذ سنة.

أحبّائي، منذ يومين عيّدنا لتجلّي الرّبّ. على جبل ثابور، شاهد الرّسل مجد الرّبّ المتجلّي، وبعد عظم ما شاهدوه، طلب منهم الرّبّ يسوع "أن لا يحدّثوا أحدًا بما أبصروا، إلّا متى قام ابن الإنسان من الأموات" (مر 9: 9). يعلّمنا الرّبّ يسوع، من خلال كلّ ما قام به، أنّ التّواضع والصّمت هما أساس المجد الّذي لا يزول. الأساس هو العمل المجدي والفعّال لا الشّعارات والوعود والاستعراضات. الوقت لم يعد وقت كلام بل وقت أفعال. بعد الذّكرى السّنويّة للمأساة الّتي ضربت بيروت شعرنا بالغضب الكبير الّذي يعتمر في صدور المواطنين، وهم على حقّ لأنّنا لم نشهد منذ ذلك اليوم الأسود ما يثلج الصّدور. الأمور تتدهور والشّعب يختنق وما زال من بيدهم القرار يتسابقون للحصول على مكسب إضافيّ. هل تشكيل حكومة بهذه الصّعوبة؟ إن صفت النّيّات وتخلّى الجميع عن مصالحهم يتمّ التّشكيل في أيّام معدودة.

أمام هؤلاء، لا يمكننا إلّا أن نثمّن جهود كلّ الجنود المجهولين الّذين لولاهم ما بقي بلد، أعني المعلّمين والممرّضين والأطبّاء والمسعفين والإطفائيّين وعمّال النّظافة وغيرهم الكثير. هؤلاء هم مداميك الوطن ودعاماته، وما على المسؤول سوى أن يكون خادمًا أمينًا للحفاظ عليهم مثلما يحافظون هم على البلد وأبنائه.

في النّهاية، يعلّمنا الرّبّ يسوع في تجلّيه، وفي إنجيل اليوم، طريقة الإحسان العمليّة الّتي لا تستعبد الحرّيّة، كما يعلّمنا أنّ المجد لا يصل إليه الإنسان بالكبرياء والتّسلّط، بل بالخفر والتّواضع. لذا، دعوتنا اليوم أن نتعلّم كيف نفعل أكثر ممّا نتكلّم، لأنّ حقل الرّبّ وتراب الوطن يحتاجان إلى فلّاحين، لا إلى فلاسفة ومنظّرين ومستنفعين، آمين".