لبنان
27 أيلول 2021, 05:55

عوده: الله يسمع أنين المحتاج على عكس الجشعين الّذين يتحيّنون الفرص للرّبح المادّيّ

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده بقدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، أحيا خلاله عيد رقاد الإنجيليّ يوحنّا اللّاهوتيّ الحبيب.

وبعد الإنجيل المقدّس، كانت عظة لعوده جاء فيها: "أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم لعيد رقاد الرّسول والإنجيليّ يوحنّا اللّاهوتيّ الحبيب كاتب الإنجيل الرّابع بالإضافة إلى ثلاث رسائل، وقد وضعت الكنيسة تذكارًا آخر له في الثّامن من شهر أيّار. في هذه المناسبة، أتقدّم بإسمي، وإسم إخوتي إكليروس الأبرشيّة وأبنائها بالمعايدة القلبيّة من أبينا صاحب الغبطة، البطريرك يوحنّا العاشر الكلّيّ الطّوبى. نسأل الرّبّ إلهنا أن يمدّه بالصّحّة والسّنين المديدة، ليبقى قاطعًا كلمة الحقّ باستقامة، ويصل بأبناء أنطاكية الحبيبة إلى المدينة السّماويّة.

يا أحبّة، إنّ يوحنّا هو ابن زبدى، من بيت صيدا في الجليل. كان أصغر التّلاميذ الإثني عشر سنًّا، وهو الّذي اتّكأ على صدر السّيّد في العشاء الأخير. دعاه الرّبّ يسوع مع أخيه يعقوب، الّذي قتله هيرودس أغريباس الأوّل، ليكونا من تلاميذه (مت 4: 21). يبدو أنّه كان على جانب من الغنى، لأنّ أباه كان يملك عددًا من الخدّام (مر 1: 20). أمّا سالومة أمّه فكانت امرأةً فاضلةً نقيّة. كانت شريكة النّساء اللّواتي اشترين الحنوط الجزيل الثّمن لتكفين جسد الرّبّ يسوع. يقال إنّها كانت أخت العذراء مريم، أو نسيبتها (يو 19: 25). لقد اتّخذ يوحنّا الصّيد حرفةً، لأنّ عادات اليهود كانت تقضي بأن يتعلّم أبناء الأشراف حرفةً، كما كان من تلاميذ يوحنّا المعمدان ومن تلاميذ الرّبّ يسوع الأوّلين (مر 1: 19؛ مت 4: 21-22)، كذلك كان هو وأخوه شريكين للرّسول بطرس في الصّيد (لو 5: 10).

كان يوحنّا معروفًا لدى قيافا رئيس الكهنة (يو 18: 15)، وربّما كان له بيت في أورشليم (يو 19: 27). يوحنّا وأخوه كانا حادّيّ الطّبع، سريعيّ الانفعال والغضب (مر 9: 38؛ لو 9: 52-56)، فلقّبهما الرّبّ يسوع بـ"إبني الرّعد" أو الغضب (مر 3: 17). كانا طموحين، ولديهما نزعة إلى العظمة والمجد، لكنّ هذه النّزعة سرعان ما تلاشت وأصبحا مستعدّين لمجابهة الموت من أجل المسيح والبشارة بتعاليمه (مر 10: 35-40؛ مت 20: 20-23).

في قائمة الرّسل، يذكر يوحنّا دائمًا بين الأربعة الأوّلين (مت 10: 2؛ مر 3: 14-17؛ لو 6: 13-14)، وقد كان أحد الرّسل الثّلاثة الّذين اختارهم الرّبّ يسوع ليرافقوه عدّة مرّات، وهم وحدهم عاينوا إقامة ابنة يايرس (مر 9: 2؛ لو 8: 51)، والتّجلّي الإلهيّ (مت 17: 1؛ مر 9: 2؛ لو 9: 28)، وجهاده في الجسمانيّة (مت 26: 37؛ مر 14: 33). ظلّ يوحنّا أمينًا لسيّده، ملازمًا له حتّى النّهاية، وفي اللّيلة الّتي أسلم فيها السّيّد، تبعه إلى دار رئيس الكهنة عن قرب، لا عن بعد مثلما فعل بطرس. أمّا عند الصّليب، فبقي أمينًا أيضًا، فأوصاه الرّبّ بالعناية بأمّه، كما سمعنا في إنجيل اليوم "كانت واقفةً عند صليب يسوع أمّه... فلما رأى يسوع أمّه والتّلميذ الّذي كان هو يحبّه واقفًا قال لأمّه يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتّلميذ هوذا أمّك". وعندما قصد يوحنّا القبر الفارغ، كان أوّل من آمن بالقيامة المجيدة (يو 20: 1-10).

كتابات الرّسول يوحنّا الإنجيليّ مفعمة بروح المحبّة. يروى عنه أنّه عندما شاخ ولم يعد قادرًا على الوعظ، كان يحمل إلى الكنيسة ويقف بين المؤمنين مردّدًا عبارة: "يا أبنائي، أحبّوا بعضكم بعضًا". سئم سامعوه من تكراره العبارة نفسها، فسألوه عن السّبب، فأجابهم: "لأنّها وصيّة الرّبّ، وهي وحدها كافية لخلاصنا، لو أتممناها". رقد يوحنّا حوالى السّنة المئة، على عهد الإمبراطور تراجان، عن عمر ناهز التّسعين.

يعلّمنا الرّسول يوحنّا، في المقطع الّذي تلي على مسامعنا اليوم من رسالته الأولى الجامعة، أنّنا إن كنّا محبّين يثبت الله فينا. يقول: "إن أحببنا بعضنا يثبت الله فينا وتكون محبّته كاملةً فينا". المحبّة هي أعظم الوصايا الّتي تركها لنا الرّبّ يسوع، هو الّذي طبّق هذه الوصيّة على الصّليب، إذ أحبّنا باذلًا نفسه من أجلنا حتّى الموت. لا يوجد في الحياة أمر أعظم من المحبّة، من لا يحبّ لا يعرف الله لأنّ الله محبّة (1يو4: 8). يقول القدّيس البارّ بورفيريوس الرّائي: "هدفنا واحد في هذه الحياة، وهو محبّة المسيح ومحبّة النّاس الآخرين. أن نصبح جميعنا واحدًا ورأسنا هو المسيح. هكذا فقط سنقتني النّعمة والسّماء والحياة الأبديّة. محبّة الأخ، القريب، تنمّي المحبّة نحو الله... فلنحبّ الجميع ولنضحّ بأنفسنا من أجل الجميع، بلا مقابل، من دون أن نطلب تعويضًا، عندئذ يتوازن الإنسان. المحبّة الّتي تطلب مقابلًا هي محبّة المصلحة، وليست محبّةً نقيّةً صافيةً لا غشّ فيها". كلام القدّيس بورفيريوس يذكّرنا بأولئك الّذين يبدون محبّةً واهتمامًا بالشّخص عند حاجتهم إليه، وعندما يصلون إلى مبتغاهم تبرد محبّتهم ويتلاشى اهتمامهم. هذه ليست محبّةً بل مصلحة، في حين تبقى الكنيسة، على مثال سيّدها، الوحيدة الّتي تقدّم المحبّة المجّانيّة للجميع، بلا مقابل. يقول القدّيس بورفيريوس: "هذه هي الكنيسة: أنا وأنت وهو والآخر، علينا أن نشعر بأنّنا أعضاء المسيح وأنّنا واحد". إذًا، محبّة الذّات، أيّ الأنانيّة، ليست محبّةً، لكنّها مرض يدخل النّفس فيجعلها حزينةً وحيدةً، أمّا المحبّة الحقيقيّة فتكون باتّجاه الآخر، المخلوق على صورة الله ومثاله. يحذّرنا الرّسول يوحنّا من محبّة العالم قائلًا: "لا تحبّوا العالم ولا الأشياء الّتي في العالم. إن أحبّ أحد العالم (أيّ عالم الخطيئة، عالم الشّرير، مسكن الشّيطان) فليست فيه محبّة الآب. لأنّ كل ما في العالم: شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته، أمّا الّذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد" (1يو 2: 15-17). هذا العالم يؤثّر علينا، لهذا يحذّرنا الإنجيليّ يوحنّا منه. يبدو هذا التّأثير على ثلاثة وجوه: الجسد، الّذي يدلّ على الرّغبات الجامحة في الطّبيعة البشريّة، شهوة العين الّتي هي الرّغبة في أن نمتلك كلّ ما نرى ولا نشبع. وتعظّم المعيشة عندما يكتفي الإنسان العائش في التّرف بما عنده، فلا يعود يثق بالله، ولا يهتّم من بعد بالأخ والقريب.

أناس كثيرون يسعون نحو عيشة أرضيّة كريمة، حتّى لو كانت على حساب إخوتهم البشر، الأمر الّذي عاينّاه في الفترة الماضية ولا نزال مع المحتكرين والتّجّار الّذين سارعوا إلى رفع أسعار سلعهم مستغلّين الظّرف الصّعب. خافوا على خسارتهم المادّيّة، فاستغلّوا إخوتهم، وبذلك خسروا الإكليل السّماويّ. الله يسمع أنين المحتاج، على عكس الجشعين الّذين يتحيّنون الفرص للرّبح المادّيّ ولو على حساب الأخ.

يا أحبّة، يقول الرّسول يوحنّا: "هذا هو الخبر الّذي سمعتموه من البدء: أن يحبّ بعضنا بعضًا. ليس كما كان قايين من الشّرّير وذبح أخاه... لا تتعجّبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم. نحن نعلم أنّنا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأنّنا نحبّ الإخوة. من لا يحبّ أخاه يبقى في الموت. كلّ من يبغض أخاه هو قاتل نفس، وأنتم تعلمون أنّ كلّ قاتل نفس ليست له حياة أبديّة ثابتة فيه. بهذا قد عرفنا المحبّة: أنّ ذاك وضع نفسه من أجلنا، فينبغي لنا أن نضع نفوسنا من أجل الإخوة. والأخ هو كلّ إنسان آخر. وأمّا من كانت له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبّة الله فيه؟ يا أولادي، يقول يوحنّا، لا نحبّ بالكلام ولا باللّسان، بل بالعمل والحقّ!" (1يو 3: 11-18). يختصر لنا الرّسول يوحنّا المحبّة بهذا الكلام العميق، الّذي إذا حفظناه وعملنا به نرث الحياة الأبديّة. إنّ طريق الملكوت تعبر عبر الآخر الّذي نحبّه مجّانًا، لأنّنا بمحبّة الآخر نتّحد بالله. فإن لم نقدّم له المحبّة الحقّة المجّانيّة، تقطع طريقنا ويسبقنا الجميع نحو العرس السّماويّ. لهذا، دعوتنا اليوم، في عيد "رسول المحبّة"، أن نكون مقتدين مثله بالمسيح الّذي بذل نفسه من أجل خلاص الجميع، لا أن نكون ممّن يسعون إلى خلاص أنفسهم أوّلًا، فيدوسون كرامات الآخرين ظانّين أنّهم بذلك يصلون أوّلًا، أمّا جهادنا نحن ففي أن نتبع المسيح، أن نتمثّل به، فتمتلئ حياتنا بعشق المسيح ومحبّته. فهلمّ نمشي وراء المسيح ونتبعه، آمين."