لبنان
06 تشرين الثاني 2023, 08:40

عوده: التّوبة ضروريّة والعمل بوصايا الرّبّ ضروريّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة، قال فيها:

"باسم الآب والإبن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم مثل الغنيّ ولعازر، وهو من الأمثال الّتي عالج الرّبّ يسوع من خلالها موضوع الغنى والفقر. يعتبر البعض هذا المثل من التّعاليم القاسية ضدّ الأغنياء، وكأنّهم معرّضون دائمًا للعقاب، كما يعتبرون في المقابل أنّ الرّبّ يتعاطف دومًا ومطلقًا مع الفقراء. لكنّنا، إذا تمعّنّا في قراءة المثل بتأنٍّ، يظهر لنا بوضوحٍ أنّ الرّبّ يسوع يتوجّه إلى نوعٍ محدّدٍ من الأغنياء والفقراء، وأنّ الهدف من المثل هو دعوة القارئ أو السّامع، غنيًّا كان أو فقيرًا، لكي يعي وضعه ويسعى إلى العمل بحسب الرّسالة الّتي شاءها المعلّم من كلامه.

يتّضح لنا من النّصّ أنّ الغني هو من الشّعب اليهوديّ، لأنّه نادى إبراهيم قائلًا: «يا أبت إبراهيم» (16: 24)، وهذا يعني أنّه يعرف الشّريعة والنّاموس وعليه أن يطبّق ما يفرضانه، ومن أهمّ الفروض النّاموسيّة تلك المتعلّقة بالاهتمام بالغريب كإعطائه طعامًا ولباسًا كما طلب الله في تثنية الاشتراع: «أحبّوا الغريب لأنّكم كنتم غرباء في أرض مصر» (10: 19). كذلك، على الّذين يطلبون الله ويسرّون بالتّقرّب منه، أن يهتمّوا بالمساكين ويطعموا الجياع ويضيفوا التّائهين، مثلما نقرأ في سفر إشعياء النّبيّ القائل: «أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التّائهين إلى بيتك، إذا رأيت عريانًا أن تكسوه وألّا تتغاضى عن لحمك» (58: 7). كذلك، على اليهوديّ أن يكون قد تلقّن درسًا من ضربة الله لشعبه المختار، الأمر الّذي نقرأه في سفر عاموس النّبيّ: «هكذا قال الرّبّ: من أجل ذنوب إسرائيل الثّلاثة والأربعة لا أرجع عنه لأنّهم باعوا البارّ بالفضّة والبائس لأجل نعلين، الّذين يتهمّمون تراب الأرض على رؤوس المساكين ويصدّون سبيل البائسين» (2: 6-7). 

خطيئة الشّعب اليهوديّ، منذ القدم، أنّهم يسيئون معاملة الفقير والمسكين، لهذا حاول الله، بأنبيائه، أن يبعدهم عن هذه الخطيئة، لكنّهم لم يرتدّوا. هنا نرى المسيح يعيد تذكيرهم بما أوصاهم به الله في النّاموس والأنبياء، علّهم يتوبون، لكنّ قلوبهم الغليظة لم تفهم، وهذا ما نشاهد نتائجه اليوم من خلال ما يفعلونه بالمساكين من قتلٍ وتهجيرٍ وتدمير. 

غنيّ مثل اليوم، تجاهل إنسانًا مطروحًا عند باب بيته ولم يبادر إلى الاهتمام به بمقتضى الشّريعة. يصوّره لنا الرّبّ يسوع كرجلٍ مفترض أنّه مؤمن، إلّا أنّه لا يحفظ وصايا الله. كذلك المسكين المطروح عند باب الغنيّ يهوديّ أيضًا، واللّافت أنّ الرّبّ أعطاه اسمًا هو «لعازر»، الّذي يعني «الله معيني»، فيما بقي اسم الغنيّ مجهولًا كونه استغنى بنفسه وابتعد عن الله المعين والمغني. نستنتج من اسم الفقير أنّ الرّبّ يخبرنا عن إنسانٍ فقيرٍ يؤمن بالله، ويعتبره معينًا له، أي إنّه يلقي همّه عليه، متأكّدًا من أنّ الله إلى جانبه، كما يقول صاحب المزامير: «ألق على الرّبّ همّك فهو يعولك» (55: 22). كان لعازر مضروبًا بالقروح، مثل أيّوب الصّدّيق (أي 2: 7)، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الّذي يسقط من مائدة الغنيّ، متشبّهًا بالكلاب (مت 15: 27).

لا تظهر نتائج طريقة عيش الغنيّ مقابل وضع الفقير المطروح عند بابه في الحياة الحاضرة، بل بعد الموت، حيث سيدان الإنسان بحسب قربه من الله، أيّ على قدر وجود الله في حياته، الأمر الّذي لا يقاس إلّا من خلال تعاطي البشر مع إخوتهم البشر، لأنّ سلوك الإنسان هو ميزان الفضائل أو المساوئ التي سيدان بسببها في الحياة الآتية. فالغنيّ الّذي لم يعمل بوصيّة الله دفن بعد موته وذهب إلى الجحيم والعذاب الأبديّ (16: 22- 23). أمّا الفقير فكان موقفه الّذي يدلّ عليه اسمه «لعازر» (الله معيني) اتّكالًا على معونة الرّبّ، لذلك ذهب إلى حضن إبراهيم محمولًا على أيدي الملائكة (16: 22).

المفارقة أنّ عمل الرّحمة الّذي اشتهاه لعازر في حياته من قبل الغنيّ، صار الغنيّ يشتهيه من لعازر نفسه وهو في مكان العذاب، حيث نسمعه يقول: «يا أبت إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليغمس طرف إصبعه في الماء ويبرّد لساني لأنّي معذّب في هذا اللّهيب» (16: 24). هذا الأمر كان متوقّعًا، لأنّ «الله يجازي كلّ واحدٍ حسب أعماله (رو 2: 6)، الأمر الّذي نقرأه أيضًا في سفر الأمثال: «أفلا يفهم وازن القلوب، وحافظ نفسك ألا يعلم، فيردّ على الإنسان مثل عمله؟» (24: 12).

إنّ ما يطلبه الرّبّ يسوع منّا، انطلاقًا من مثل إنجيل اليوم، أن نكون معه، وأن يكون معيننا، أغنياء كنّا أو فقراء. إذا لم نع هذا الأمر، سنواجه مصير الغنيّ، إلّا إذا تبنا إلى الله، مصغين إلى وصاياه وعاملين بها، لأنّنا إن لم نفعل، فإنّنا لن نصدّق ما ستؤول إليه حالنا ولو «قام واحد من الأموات» (16: 31).

يا أحبّة، يظنّ أراكنة العالم اليوم أنّهم خالدون، وأنّهم فوق المحاسبة العادلة والدّينونة الإلهيّة الآتية، مثلما هم هنا على هذه الأرض. إنّهم يعيثون فسادًا وخرابًا وقتلًا في الأرض كلّها، حيث لا مكان في مأمنٍ من شرّهم، لأنّهم طامعون بخيرات الأرض ومجدها الزّائل، ناسين أنّ الأهمّ هو خلاص نفوسهم وربح أكاليل المجد الأبديّ. السّباق إلى التّسلّح بما يميت الجسد أصبح هدفًا ضروريًّا، في مقابل السّباق إلى التّوبة والتّسلّح بسلاح الله الكامل من أجل الثّبات ضدّ مكائد إبليس (أف 6: 11). لم يعد هناك احترام لقدسيّة الحياة ولكرامة الإنسان ولا لأرضٍ مقدّسة. يشنّون الحروب المدمّرة ولا يحيّدون النّساء والأطفال والمعابد والمستشفيات. لقد تخلّى معظم حكّام العالم عن إنسانيّتهم وصمّوا آذانهم عن صراخ الأطفال وأنين الأمّهات، ولا يصغون لصراخ الضّمير. أسابيع مرّت ولم نر نيّةً لوقف القتال وحماية المدنيّين الأبرياء الذين يقتلون وكأنّهم ليسوا على صورة الله ومثاله ولهم الحقّ في حياةٍ كريمة. إن لم ينظر العالم بعين العدل لن يكون سلام ولا استقرار لأنّ الحكم المبنيّ على الظّلم لا يدوم. 

لم يبق مكان آمن على الأرض، والعدالة لم تعد أمرًا بديهيًّا بل هي خاضعة للمصالح، لهذا فإنّ التّوبة ضروريّة والعمل بوصايا الرّبّ ضروريّ حتّى يكون الإنسان، كائنًا من كان، مجهّزًا للانطلاق من هنا بسلامٍ «لأن ليس لنا هنا مدينة باقية، لكنّنا نطلب العتيدة» (عب 13: 14)، آمين."