لبنان
13 كانون الأول 2021, 06:55

عوده: التّطاول على القضاء والقضاة والتّهرّب من العدالة هي الآفة الّتي تنخر جسم وطننا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ، صباح الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، وأقام خلاله الجنّاز لراحة نفس جبران تويني في الذّكرى السّادسة عشرة لاغتياله مع رفيقيه.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى المطران عوده عظة قال فيها: "أحبّائي سمعنا في إنجيل اليوم مثلًا عن "إنسان صنع عشاءً ودعا كثيرين". العشاء العظيم هو دعوة الله إلى الملكوت. من اللّافت أنّه "دعا كثيرين" في البدء، ثمّ دعا النّاس جميعهم. لقد دعا أوّلًا شعبه إسرائيل، الّذي حاز النّاموس، وبعد جحوده، دعا الأمم الخاطئة كلّها، كما دعا المنبوذين: "المساكين والمشوّهين والعرج والعميان"، ثمّ دعا عابدي الأوثان، والّذين "في الشّوارع والأزقّة" وخارج المدينة. لقد دعانا كلّنا إلى ملكوته، ولمّا أصبحنا مجالسي مائدته، صرنا نشارك عشاء ملكوته في سرّ الشّكر المقدّس.  

سرّ الشّكر هو السّرّ الّذي يؤسّس الكنيسة، حيث نعيش الأمور الماضية والمستقبلة كأنّها حاضرة. تظهر خبرة الكنيسة هذه جليًّا في الكلام الجوهريّ، حيث يقول لنا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنّ الإله الثّالوث هو من أحضرنا من العدم إلى الوجود، وأقامنا ثانيةً نحن السّاقطين، وصنع كلّ شيء حتّى أصعدنا إلى السّماء ومنحنا ملكه الآتي. لذلك نشكره على كلّ إحساناته، نشكره من أجل ملكوته الآتي، الّذي منحنا إيّاه الآن، إذ إنّنا نتذوّقه مسبقًا باشتراكنا في سرّ الشّكر، بعد التّهيئة اللّازمة. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "المحبّة الّتي كرز بها الرّبّ هي الملكوت... فماذا تراه الّذي تأكلونه وتشربونه على مائدة الملكوت إلّا المحبّة؟". المحبّة ليست شعورًا سطحيًّا، بل هي معرفة الله وشركة معه.  

حسب مثل اليوم، يدعو الله النّاس جميعًا إلى معرفته، لكنّ معرفته ليست من نطاق العقل والفهم، بل هي نتيجة الرّؤية القلبيّة الطّاهرة: "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله". نحن لا نأتي إلى الكنيسة ونشارك في الأسرار الإلهيّة لكي نتمّم أحد الواجبات الدّينيّة، ولا لمجرّد مشاركة النّاس في الإيمان الواحد، بل لندخل في معرفة الله بعمق. معرفة الله العميقة هي الّتي توحّدنا، محقّقةً طلبة صلاة المسيح الكهنوتيّة: "ليكونوا واحدًا" (يو 17: 21).

الحجج الّتي أعطاها المدعوّون المستعفون لا تدلّ على عدم الإيمان، بل على التصاقهم بالأموال والأملاك والعائلة. طبعًا، لا يكمن الشّرّ في الأملاك أو العمل أو العائلة، بل في تقييم الأمور بطريقة خاطئة. هذه كلّها يباركها الله عندما نستخدمها وفقًا لمشيئته، إلّا أنّ نجاحنا لا يتحقّق إلّا عندما يكون الله وكلمته مركز حياتنا ونشاطاتنا كلّها. إنّ الطّريقة الّتي نعيش فيها وسلوكنا طيلة النّهار يؤثّر على صلاتنا. إذا لم نفكّر بالله ولم نهتمّ للتّصرّف وفقًا لمشيئته، يصبح الذّهن ثقيلًا عندما نقف للصّلاة، عاجزاً عن الإنفصال عن موضوع اهتمامه، فلا يقدر أن يصلّي، وحينئذ يقول بسهولة: "أسألك أن تعفيني". لهذا تدعونا الكنيسة، في القدّاس الإلهيّ، أن "نطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ، كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكلّ".

يا أحبّة، نستذكر اليوم إنسانًا لم يتهرّب ولم يستعف من كلّ استحقاقات بلاده الموصلة إلى عرس الحرّية والدّيمقراطيّة، الّذي لم نصل بعد إلى الاحتفال به حقًّا. ففي حين استعفى الكثيرون، وهربوا، عاد جبران إلى بلده الأحبّ إلى قلبه، عاد ليصير ذبيحًا على مذبح الحرّيّة ومحبّة الوطن. جبران عمل جاهدًا للمحافظة على استقلال لبنانه، وحمايته من الشّرذمة والطّائفيّة والتّحزّب الأعمى لغير الوطن، هو القائل: "المحافظة على الاستقلال تكون بتعزيز إيماننا به وبوحدتنا". للأسف، كلّما اتّحد اللّبنانيّون لينهضوا ببلدهم، يعاد تفتيتهم إلى مجموعات متفرّقة، تحت عدّة رايات وعدّة رؤوس، غير راية الوطن، الرّأس الأوحد. قال أيضًا: "لم يعد مقبولاً أن تبقى الحكومة مكتوفةً، مشلولة القرار والتّحرّك، خاضعةً لأقلّيّة سياسيّة تتصرّف ببساطة كأنّها هي الأكثريّة الحاكمة".

لقد دعا جبران، منذ العام 2005، إلى ما لا يزال اللّبنانيّون يطالبون به. قال: "كشف الحقيقة يعني ألّا حماية بعد اليوم للمجرمين، أيًّا كانوا، وأينما كانوا"، لكنّنا فوجئنا بعدّة جرائم، على رأسها تفجير العاصمة، ولم نفاجأ بمحاولة إخفاء الحقيقة والمجرمين، لأنّ هذا النّهج قد تجذّر في لبناننا. إنّ عدم المساءلة وعدم المحاسبة، وعدم معاقبة أيّ مخالف للقانون ومرتكب لجنحة أو جريمة قد أوصلنا إلى هذا الفلتان. أمّا التّطاول على القضاء والقضاة، والتّهرّب من العدالة  فهي الآفة الّتي تنخر جسم وطننا.

صرخ جبران منذ سنوات قائلًا: "وحدة لبنان مكرّسة ووحدها الوصاية الخارجيّة تهدّدها"، لكنّ الآذان صمّت عن سماع هذا النّداء، وفضّل بعض اللّبنانيين استعداء الدّاخل من أجل ارتباطهم بالخارج، ولو على حساب وحدة البلد ومصلحة المواطن.  

لقد عرف جبران أنّ "قدر لبنان أن تكون حرّيّته دائمًا معمّدةً بالدّم"، إلّا أنّه تفاءل دومًا بأنّ "قدره أيضًا أن يبقى شامخًا وأقوى من كلّ المؤامرات". ناضل جبران دومًا من أجل توعية الشّباب كي لا يقعوا في أخطاء الماضي نفسها، وكان يقول: "على الجيل الجديد أن يتذكّر الحرب ليعتبر بتجاربها لا ليحيي أحقادها"، لكنّ السّاسة لم يريحوا شباب بلدنا من ضخّ الأحقاد، وتسعير الخلافات الحزبيّة والطّائفيّة، والتّذكير بماض أليم، كثيرون من أولئك الشّباب لم يعيشوا بشاعته.

عاش جبران آلام بلده الحبيب، وبشّرنا بأنّ "لبنان سيقوم بعد صلب الدّيمقراطيّة فيه"، لكنّ جلجلة الوطن لم تنته بعد، وقيامته تأخّرت بسبب من يحسدونه ولا يحبّونه، ويسخّرونه مطيّةً لأهدافهم. أمّا الّذين أحبّوه حبًّا كبيرًا  فقد أهرقت دماؤهم، الّتي نأمل أن يعي أبناء لبنان ثمنها الباهظ، ولا يدعوها تذهب هباءً، وأن يحافظوا على كلّ ذرّة تراب خضّبت بتلك الدّماء الزّكيّة. صاح جبران بأعلى صوته: "لا أحد سيسكت صوتنا. صوتنا هو صوت الشّعب، صوت المنتفض، صوت الفاضح، صوت الحقّ والحقيقة"، لكنّ مسؤولي بلادنا فعلوا ما بوسعهم ليبقوا هذا الصّوت منخفضًا، لا بل مكتومًا، هؤلاء نفسهم الّذين قال عنهم: "ما يريده الشّعب هو إلغاء هؤلاء السّياسيّين الّذين يوميًّا يبيعون الوطن من الخارج، في حين يبيعون الدّاخل مواقف كاذبةً للاستهلاك". لقد فضح جبران نفاقهم ففجّروا جسده، لكنّ صدى صوته ما زال يقضّ مضاجعهم، ويخيفهم من فكرة عودة اللّبنانيّين إلى وعيهم، والسّير نحو الصّورة البهيّة الّتي عمل جبران، ومن ماثله في حبّ الوطن، على رسمها لسنين طوال، قبل أن يحاولوا إسكاتهم بالتّرهيب والتّفجير. ليت أبناء بيروت ينصتون إلى ما قاله جبران في العام 1986 عن عاصمتنا الحبيبة: "بيروت بكت وصرخت للجميع: إلى متى سيبقى شعبي يتعاطى معي وكأنّي فندق وكأنّ أبنائي نزلاء فندق؟". حتّى بعدما فجّرت العاصمة، تعاطى معها المسؤولون كأنّها فندق أصابه التّصدّع، وليست قلب وطن رمي بطعنة أصابت منه مقتلاً.  

أمام الاستحقاق الانتخابيّ المقبل، نستذكر ما قاله جبران: "إلى متى سنظلّ نقبل أن يحكمنا الفاشلون المفروضون علينا بالقوّة لتشويه سمعة لبنان والإجهاز عليه؟"، ولا يسعنا إلّا أن نأمل بما تفاءل به قائلًا: "إنّ شعب لبنان هو تلك الأعجوبة اللّبنانيّة، آملين أن يعي الجيل الجديد هذه الحقيقة ويعمل على أساسها".

هذا الشّابّ المفعم بالحياة والأمل كان عاشقًا لوطنه، أمينًا له، نذر له الحياة والقلم، وعمل من أجل حرّيّته واستقلاله ووحدته وازدهاره وتفوّقه. أمثال جبران يخيفون ذوي النّفوس الضّعيفة الّتي تضمر الحسد والحقد والغدر لكنّها لا تقوى على المواجهة. هؤلاء يبيعون وطنهم من أجل ولاء أو مصلحة. لكنّ التّاريخ لا يذكر إلّا الأبطال ولا يمجّد إلّا الكبار، كبار النّفس والهدف. وهل أنبل من حبّ الوطن والموت من أجله؟

رغم غيابه بالجسد، جبران ما زال حاضرًا في قلوب محبّيه، وفي صوت بناته، وهو لن يغيب عن صلاتنا وعن ذاكرة لبنان.

دعاؤنا أن يرحم إلهنا المحبّ البشر نفوس أحبّائنا جبران ورفيقيه أندريه ونقولا، وجميع الّذين سقطوا دفاعًا عن وطن الحرّيّة لبنان، وأن يلهم شباب لبنان وشابّاته في مسيرتهم نحو التّغيير، مستلهمين سيرة جبران وأقواله آمين."