لبنان
20 كانون الأول 2021, 06:55

عوده: إلى متى ستبقى الحكومة محتجزةً وجلد الذّات مستمّرًا؟

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الأخير قبل عيد الميلاد، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده القدّاس الإلهيّ، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط العاصمة، ألقى خلاله عظة جاء فيها:

"أحبّائي، اليوم هو الأحد الّذي يسبق عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وهو يدعى "أحد النّسبة". سمعنا في إنجيل اليوم قسمين: الأوّل يذكر نسب الرّبّ يسوع بالجسد، انطلاقًا من إبراهيم وصولًا إلى يوسف خطيب والدة الإله، والثّاني يتحدّث عن يوسف وحيرته أمام حبل العذراء مريم وعن الجواب الإلهيّ الّذي أتاه بأنّها حبلى من الرّوح القدس. هذه الحيرة الّتي نسمع عنها اليوم، تتحوّل، في إنجيل الأحد المقبل، أيّ الأحد بعد الميلاد، إلى عمل بطوليّ يقوم به يوسف منتقلًا بمريم ومولودها الإلهيّ من مكان إلى آخر هربًا من الأحكام الجائرة الّتي أطلقها الملك هيرودس.

يا أحبّة، إذا كان الصّمت لغة الدّهر الآتي، فإنّ يوسف "رجل مريم" هو نموذج الإنسان الصّامت في الدّهر الحاضر. لم يحفظ الكتاب المقدّس أيّ كلمة له، إذ كان رجلًا صامتًا، لكنّه سجّل بعض نواياه وأفكاره الّتي ترسم عظمة فضيلته عجائبيًّا. لقد عاش في النّاموس، لكنّه بحياته فاق النّاموس. لم يكبّل بحرفيّة الكلمة، بل نفذ إلى روحها، لذلك أظهر بطريقة حياته أنّه نبيّ، سبق ودلّ على معنى البرّ الحقيقيّ حتّى قبل ميلاد المسيح، وقبل حلول الرّوح القدس. لقد عاش البرّ حسب روح تعليم المسيح، عاشه على أنّه المحبّة. لذلك استحقّ أن يصبح أبًا للمسيح بالتّبنّي، حاميًا للطّفل يسوع ابن الله، ولوالدته بحسب الجسد. هكذا كرز مسبقًا بطريقة الحياة الجديدة. فالمسيح هو "شمس العدل" كما سنرتّل بعد أيّام قليلة في ترنيمة الميلاد، ويوسف يمثّل انبلاج الفجر قبيل شروق تلك الشّمس.

لقد استلم يوسف خطيبته الكلّيّة القداسة من الهيكل عذراء، لكن "قبل أن يجتمعا وجدت حبلى". نحن نعرف تطوّر الأحداث، نعرف عجيبة تجسّد الله العظيمة، أمّا يوسف فلم يكن باستطاعته آنذاك إلّا أن يرى في حبل خطيبته خيانةً، أيّ ثمرة علاقة لا شرعيّة. الولادة من فتاة بتول بقوّة الرّوح القدس هي أمر لا يمكن أن يدركه ذهنه. عندئذ، مثلما نقول في المديح الّذي لا يجلس فيه: "إنّ يوسف العفيف ارتاب منذهلًا من أفكار مضطربة". إلّا أنّ مزايا الإنسان وفضائله تظهر في الصّعوبات والاضطرابات. فيوسف "إذ كان بارًّا ولم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرًّا". كان أسمى من أن يغار، ولم تنهشه أنانيّته المجروحة، بل فكّر بالّتي ظنّها خائنة، وإذ كان بارًّا لم يشأ أن يسلّمها إلى العدالة، لأنّه لم يرد أن تعاقب بالرّجم والموت، ولا أن تهان علانيّةً. ولأنّه لم يرد أن يجرّ نفسه إلى خطايا غريبة، فكّر سرًّا بأن يطلق سبيلها ويرحل، قبل أن يوضح له ملاك الرّبّ "أنّ المولود فيها إنّما هو من الرّوح القدس".  

بحسب الكتاب المقدّس، البارّ هو الفاضل. يفسّر القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنجيل اليوم بقوله: "يوسف رجل مريم كان بارًّا. كلمة بارّ تعني هنا أنّه كان فاضلًا في كلّ شيء"، وطريقة مواجهته لحدث حبل البتول بالمسيح، هذا الأمر غير المتوقّع، دلّت على أنّه كان حقًّا فاضلًا في كلّ شيء. لقد ملك كامل قواه النّفسيّة، فلم تضرم الغيرة غضبه، لأنّه ضبط الغضب بفضيلة المحبّة. إنفتح ذهنه على الله، بسيطًا ومصلّيًا، لذلك استطاع أن يقبل نبوءة الملاك وإرشاده إلى ما يجب أن يفعل. عاش بصمت وأطاع قول الملاك الآتي من عند الله بلا اعتراض. حضوره إلى جانب والدة الإله، وحمايته لها، هما أهمّ شهادة للحبل العجائبيّ ولولادة المسيح. أحبّائي، لقد أوصانا الرّبّ يسوع بأن نطلب "أوّلًا ملكوت الله وبرّه" (مت 6: 33)، لكن هل يعيش البشر هذه الوصيّة؟ هل يدركون أنّ محبّة الله ومحبّة القريب هي الطّريق إلى الملكوت؟ وأنّ العدل يرافق المحبّة، وهو المطلب العميق لسائر الشّعوب المعذّبة والمضطهدة. إنّ الظّلم الّذي تعانيه هذه الشّعوب لا تكمن جذوره حصرًا في العوامل الخارجيّة، بل تنبع من ظلم داخليّ، من ظلم الأقوياء للضّعفاء. العدل يعني المساواة، الأمر الّذي يفرضه القانون البشريّ، لكنّه لا يطبّق دائمًا. مرارًا كثيرةً تدخل المصلحة الشّخصيّة، خصوصًا في الأنظمة الدّيكتاتوريّة، فتعبّر الأحكام عن إرادة القويّ وليس عن العدل. أليس هذا ما يحدث عندنا في لبنان؟ مع أنّ بلدنا كان مهدًا للدّيمقراطيّة، إلّا أنّه تحوّل إلى ديكتاتوريّة مقنّعة، تحكمها شريعة الغاب. أصبح من يلجأ إلى القانون في بلدنا هو الضّعيف والمهان والمظلوم، أمّا القوّيّ والمتسلّط فلا يأبه للقانون ولا يعير أحكامه أيّة أهمّيّة أو احترام. حتّى إنّ البعض أصبح يستهين بثقة النّاس الممنوحة لهم، وبواجباتهم الّتي تفرضها عليهم مسؤوليّتهم. هذا ما نعيشه في بلدنا الحبيب، حيث نعاين يوميًّا الإجحاف الّذي يلحقه الزّعماء والحكّام والمتحكّمون بسائر القطاعات الحيويّة بالشّعب. فمن تعطيل الحكومة وتجميد أعمالها وعدم تسيير أمور البلد، إلى عزل لبنان عن محيطه وعن العالم، إلى التّلاعب اليوميّ بسعر صرف اللّيرة، الّذي يؤدّي إلى غلاء فاحش في أسعار السّلع الأساسيّة والضّروريّة لحياة كريمة، إلى التّلاعب بمصير النّاس بسبب صعوبة العيش في بلد مجهول المصير والمستقبل، يتحكّم فيه أهل السّياسة بمقدّرات البلد، وأصحاب المصارف بأموال الشّعب. والخلاصة: لا مال، لا دواء، لا طعام، لا كهرباء، لا ماء، لا عمل، لا خطّةً إنقاذيّة، لا خطةً إقتصاديّة، لا سياسةً نقديّةً واضحة. شلل تامّ. إنهيار شامل. حتّى الأمان المجتمعيّ أصبح مفقودًا بوجود عصابات السّرقة واقتحام المؤسّسات، والمسؤولون متربّعون على عروشهم يطلقون المواقف ويتراشقون الاتّهامات، إنّما لا يحرّكون ساكنًا من أجل وقف الانهيار وتصويب الاتّجاه وإطلاق عمليّة الإنقاذ.  

إنّ المواقف الكلاميّة لا تجدي وإلقاء المسؤوليّة على الآخرين لا ينفع. الجميع مسؤولون. من ارتضى المسؤوليّة عليه القيام بواجبه، وإلّا فليترك مكانه لمن يريد العمل والإنقاذ. في بلد يحترم المسؤولون فيه بلدهم وشعبهم، هل يحتاجون إلى تسويات للقيام بأبسط واجباتهم، والمشاركة في اجتماع مجلس الوزراء وغيرها من الاجتماعات؟؟

إلى متى ستبقى الحكومة محتجزةً وجلد الذّات مستمّرًا؟ هل يدري من يعطّلون عمل المؤسّسات أنّهم يدفعون البلد دفعًا إلى الانهيار الكامل؟ هل يمكن التّصدّي للكارثة بحكومة مشلولة وانعدام قرار؟ أليست الحكومة فريق عمل يدير شؤون البلاد، وهي ليست مكانًا للمناكفات وتصفية الحسابات؟  

حبّذا لو يتعلّم مسؤولونا العدل من التّراث الكنسيّ، حيث هو جميع الفضائل مجموعةً، تتّحدها أسمى فضيلة بينها، أيّ المحبّة. لا يسمّى الله عادلًا بالمفهوم البشريّ، لأنّه عوض أن يدين الخطأة، صلب من أجلهم بدافع محبّته الفائقة. العادل بالنّسبة إلى الكنيسة هو من يحفظ صورة الله في الإنسان، ويرتّب حياته بحسب وصايا الله، لكنّنا لا نرى حولنا سوى أناس يتبعون مصالحهم ويطالبون بحقوقهم وحقوق طوائفهم، قبل أن يبدأوا باحترام صورة الله في جميع البشر. لا بل يختلقون المشاكل ويفتعلون الاضطرابات للوصول إلى مطامعهم، غير آبهين بالتّدهور الّذي يصيب جميع المواطنين.

يعتبر القدّيس غريغوريوس بالاماس أنّ جذر الشّرور هو في محبّة النّفس، أيّ الأنا، الأمر الّذي يجعل النّاس استغلاليّين ومستبدّين وظالمين، لا يرون أنفسهم ولا الّذين أمامهم كأيقونات لله، بل ككائنات بيولوجيّة فقط، وهذا ما يسمح لهم بتخطّي جميع القوانين والشّرائع، لأنّهم أبعدوا الله من حياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.

يا أحبّة، إنّ عدل يوسف قد فاق النّاموس الموسويّ الموافق لقساوة قلوب الشّعب، واتّحد بالمحبّة. هذا العدل هو الرّجاء الوحيد للانعتاق من تخدير المصالح الّتي تجعل الشّعوب مفكّكين إلى أفراد لا تواصل بينهم، عوض أن يكونوا مجتمعين حول دستور بلادهم ووحدة أرضهم واستقلال وطنهم.

دعوتنا اليوم أن نتعلّم من يوسف كيف نلجم الغضب السّريع الاشتعال، ونحكّم العقل والقلب قبل اتّخاذ أيّ قرار متسرّع قد يؤذي الآخر ويبعدنا عن الله، آمين".