لبنان
24 نيسان 2023, 05:55

عوده: أيّها العظيم في الشّهداء جاورجيوس تشفّع إلى الإله من أجل خلاصنا!

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة عيد العظيم في الشّهداء جاورجيوس اللّابس الظّفر، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ صباح الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، بحضور مجلس إدارة مستشفى القدّيس جاورجيوس والمدير العامّ والأطبّاء، ورئيس جامعة القدّيس جاورجيوس مع إدارتها، وحشد من المؤمنين.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة جاء فيها:

"أحبّائي، بعد ظهوراته الأولى يوم القيامة، ظهر الرّبّ يسوع لمجموعة من تلاميذه كانوا مجتمعين في العلّيّة، ولم يكن توما معهم، ثمّ جاء بعد ثمانية أيّام "وكان تلاميذه أيضًا داخلًا وتوما معهم". في الظّهور الأوّل منح المسيح تلاميذه مواهب، أولاها السّلام، عندما قال لهم: "السّلام لكم". هذا ما تفعله الكنيسة مرارًا، في كلّ الخدم والصّلوات، على لسان رئيس الكهنة، أو الكهنة، لتذكيرنا بأنّ دخولنا إلى الكنيسة، حاملين الاضطرابات في نفوسنا وعقولنا، يجب أن يتحوّل إلى خروج سلاميّ، إذ نكون قد طرحنا عنّا كلّ اهتمام دنيويّ، وامتلأنا من سلام المسيح، فنصبح كالرّسل الّذين اضطربوا وخافوا بعد القيامة، ثمّ جاء الرّبّ يسوع ومنحهم سلامه، فقاموا بدورهم بحمل رسالة السّلام القياميّ إلى جميع الأمم.

الموهبة الثّانية الّتي منحها المسيح لتلاميذه هي الرّوح القدس، ومعها سلطان مغفرة الخطايا. هذه الموهبة تسلّمها رؤساء الكهنة من الرّسل الأطهار، ثمّ سلّموها بدورهم إلى الكهنة القانونيّين، لكي يساعدوا شعب الله على التّوبة فيرثوا الملكوت السّماويّ. مغفرة الخطايا تشبه قيامة السّيّد، لأنّها تساعد الإنسان على النّهوض من موت الخطايا، تمامًا كما فعل الرّبّ بموته على الصّليب وقيامته المحيية.

الرّسول توما كان غائبًا عندما ظهر المسيح لتلاميذه أوّلًا. مع هذا، لم يشأ السّيّد أن يمنع عنه مواهبه، فعاد بعد ثمانية أيّام من أجله. يشبّه القدّيس غريغوريوس بالاماس اجتماع التّلاميذ بقدّاس الأحد، وينصحنا بألّا نغيب عنه مثلما غاب توما حتّى لا نعاني مثله. يفسّر القدّيس ثيوفيلاكتوس أنّ توما كان متردّدًا، واعتبر أنّ قيامة المسيح مستحيلة. لم يكن توما قد بلغ بعد الحالة الرّوحيّة اللّازمة لرؤية المسيح القائم. فعاد الرّبّ بعد ثمانية أيّام لكي يكون توما قد استعدّ روحيًّا.  

عندما أصبح توما مستعدًّا كما يليق، صار هو نفسه لاهوتيًّا عندما ظهر المسيح له، فاعترف قائلًا: "ربّي وإلهي". تظهر هذه العبارة إدراكه لطبيعتي المسيح وأقنومه الواحد، لأنّ كلمة "ربّ" أيّ سيّد، تشير إلى الطّبيعة البشريّة، وكلمة "إله" إلى الطّبيعة الإلهيّة، وهاتان الطّبيعتان متّحدتان في المسيح القائم. إذًا، لم يكن توما غير مؤمن بمعنى الإلحاد ونكران الله. هناك فرق كبير بين الملحد، عدوّ الله، والمرتاب أو الشّخص الميّال إلى الشّكّ.  

لقد أسّس الرّسول توما لإيمان بلا شكوك، حازه جميع الّذين أتوا بعده، وهذا ما عبّر عنه الرّبّ بقوله له: "لأنّك رأيتني آمنت، طوبى للّذين لم يروا وآمنوا". هؤلاء هم القدّيسون، ومنهم الشّهداء الّذين آمنوا بالرّبّ وقدّموا حياتهم ذبيحةً من أجل إيمانهم.

اليوم، نعيّد لأحد الشّهداء العظماء في تاريخ المسيحيّة، هو القدّيس جاورجيوس الحائز راية الظّفر، شفيع كاتدرائيّتنا، ومستشفانا، وجامعتنا، ومدينتنا بيروت، كما أنّه شفيع لعدّة مدن وعواصم وكنائس حول العالم. لم يخجل القدّيس جاورجيوس بإيمانه المسيحيّ، ولا خاف من تهديدات الحاكم بقتل المسيحيّين، بل جاهر بإيمانه، ولم تغره التّقدمات الّتي حاول الإمبراطور أن يقدّمها له من أجل ثنيه عن مسيحيّته. لقد احتمل الكثير من العذابات من أجل إيمانه بالمسيح القائم من بين الأموات، الّذي كان يقيمه دومًا سالمًا، منجّيًا إيّاه من الأوجاع المرّة، أمام ذهول معذّبيه، فكان جاورجيوس يظهر كزهرة مجمّلةً بالنّعم الإلهيّة، ومنها إيمانه العظيم بالرّبّ يسوع. وقد أصبح العظيم في الشّهداء جاورجيوس رمزًا للمحبّة الخالصة للمسيح، لذلك نرتّل له: "فإنّ المحبّة قد غلبت الطّبيعة، وأقنعت العاشق أن يصل بواسطة الموت إلى المعشوق، أعني المسيح الإله مخلّص نفوسنا".

يا أحبّة، في أيّامنا هذه، نجد أنّ الشّكّ الإلحاديّ يزداد، وأنّ المحبّة تجاه المخلّص تفتر، لأنّ البشر أصبحوا يلهثون وراء ما في هذا العالم من مادّيّات، سوّقها لهم المنتفعون على أنّها من ضروريّات المعيشة، فأصبح الرّبّ خارج لائحة الأساسيّات الحياتيّة. لو التصق الجميع بالرّبّ لما وجدنا أحدًا يكره أخاه أو يحتقره أو يقاتله، أو يذلّه، أو حتّى ينظر إليه نظرة سوء واستغلال. إنّ الاستشهاد من أجل المسيح أصبح نادرًا، ولا أعني إهراق الدّماء، بل الموت عن الخطايا، وحبّ الذّات، والمصالح الشّخصيّة، والتّعلّق بالمادّيّات وسواها. هذا ما نبتغيه من المسؤولين عن هذا البلد، الّذي حملت عاصمته اسم القدّيس العظيم جاورجيوس. لقد ضاق لبنان وشعبه ذرعًا بالصّفقات السّياسيّة، والحسابات الضّيّقة، والمساومات والأحقاد، وها هو يصرخ إلى القدّيس جاورجيوس: "بما أنّك للمأسورين محرّر ومعتق، وللفقراء والمساكين عاضد وناصر، وللمرضى طبيب وشاف، وعن المؤمنين مكافح ومحارب، أيّها العظيم في الشّهداء جاورجيوس اللّابس الظّفر، تشفّع إلى الإله من أجل خلاصنا". فما لم يستطع ذوو السّلطة تأمينه للشّعب، من حرّيّة وأمان وعضد ونصرة وشفاء، بسبب أنانيّاتهم ومصالحهم وتقاعسهم عن القيام بواجباتهم، بإمكان كلّ إنسان الوصول إليها بالعودة إلى الرّبّ المخلّص القائم من بين الأموات، والمقيم إيّانا من الموت والفساد. هنا يأتي دور المؤسّسات التّابعة للكنيسة، الّتي عليها أن تكون النّور الّذي يضيء عتمة الأيّام، والعضد للفقير والمريض والمحتاج. طبعًا لا يمكنها الحلول محلّ الدّولة، وهي لا تملك القدرات الخارقة، لكنّها تعطي ممّا أعطاها الله، بمحبّة، ولأنّها تضع رجاءها في الرّبّ، هي قادرة على بلسمة جراح النّفوس، بانتطار أن يصحو ضمير المسؤولين، ويتمّموا واجباتهم من أجل إنهاض هذا البلد الجريح وشعبه البائس.

مستشفى القدّيس جاورجيوس، وبيت القدّيس جاورجيوس، وجامعة القدّيس جاورجيوس، وكافّة مؤسّسات هذه الأبرشيّة، تطلب معونة الرّبّ النّاهض من بين الأموات، بشفاعة القدّيس جاورجيوس اللّابس الظّفر، لكي تكون دائمًا في خدمة الإنسان، في كافّة المجالات.  

لذلك دعوتنا اليوم أن نؤمن بالإله الوحيد الحقيقيّ المحيي، وأن ننبذ السّعي وراء زعماء يؤلّهون أنفسهم ليحيوا هم، ويميتونا. فليبارككم الرّبّ مشدّدًا إيمانكم، بشفاعات شهيده العظيم جاورجيوس، وجميع القدّيسين، آمين".