لبنان
05 كانون الأول 2022, 06:55

عوده: أليس الأجدى الاستعجال في انتخاب رئيس وإعادة انتظام عمل المؤسّسات وتسيير شؤون النّاس؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ أمس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم لقدّيسين أنطاكيّين هما الشّهيدة بربارة البعلبكيّة، والبارّ يوحنّا الدّمشقيّ.

المعروف عن العظيمة في الشّهيدات بربارة أنّها كانت ابنة رجل متعصّب لوثنيّته، فائق الغنى. كانت جميلةً جدًّا، فخاف عليها أبوها من الرّجال، وأقفل عليها في قصره وأمّن لها كلّ ما تحتاجه. في عزلتها، تحرّك قلب بربارة إلى التّأمّل في الخليقة، حتّى بلغت الخالق وأدركت ضلال الأصنام وكذبها. بتدبير إلهيّ، التقت من بشّرها بالمسيح، فآمنت ونذرت البتوليّة، كي لا تتلهّى عن الرّبّ بأيّ عريس أرضيّ، ولكي لا تفرض عليها الوثنيّة تحت غطاء الزّواج. عندما اكتشف أبوها أنّها أصبحت مسيحيّةً ثار وأسلمها بيده إلى الحاكم.

حاول الحاكم استمالة بربارة إلى الوثنيّة باللّين أوّلًا، فلم ينجح. بعد ذلك لجأ إلى التّهديد والوعيد، فلم يتزعزع رأيها، فأسلمها إلى عذابات مرّة من جلد وتمزيق بالحديد وسجن، ثمّ إلى الموت. هنا امتلأ والدها غضبًا، وطلب أن يكون هو نفسه جلّادها، فقطع رأس ابنته.

أمّا القدّيس البارّ يوحنّا الدّمشقيّ، فكان إنسانًا واسع الثّقافة ومتبحّرًا في العلوم، وقد شغل منصبًا إداريًّا رفيعًا في الدّولة الأمويّة إذ بعد وفاة والده تسلّم عنه، لمدّة من الزّمن، إدارة بيت مال الدّولة، إلى أن هبّت رياح التّغيير فأخذ الحكّام يضيّقون على المسيحيّين، ثمّ صدر قانون حظر فيه على أيّ مسيحيّ أن يتسلّم وظيفةً رفيعةً في الدّولة ما لم يغيّر دينه. تمسّك يوحنّا بإيمانه وتخلّى عن مكانته، ثمّ انصرف من العالم إلى الحياة الرّهبانيّة في دير القدّيس سابا القريب من أورشليم، وتعمّق في دراسة العلوم اللّاهوتيّة.

قبل ذهابه إلى الدّير، اندلعت في الإمبراطوريّة البيزنطيّة، حرب الأيقونات، وبدأت حملة واسعة لتحطيمها وإزالة معالمها وبثّ موقف لاهوتيّ رافض لها. إجتهد الإمبراطور في إسكات الأساقفة، فخفتت الأصوات المعارضة المتمسّكة بالأيقونات. لكنّ القدّيس يوحنّا هبّ مدافعًا، فكتب عدّة رسائل حاثًّا على المجاهرة بهرطقة الإمبراطور. حاول الملك لاون خنق صوت الدّمشقيّ، فاستدعى أمهر الخطّاطين وطلب منهم نسخ رسالة مزوّرة نسبت ليوحنّا، تتضمّن كلامًا ضدّ الخليفة، الّذي ثار عندما اطّلع عليها، وأرسل في طلب يوحنّا وواجهه، فدافع القدّيس عن نفسه بلا جدوى، لأنّ الخليفة أمر بقطع يده اليمنى وتعليقها في ساحة المدينة. إستردّ يوحنّا يده المقطوعة فأخذها إلى بيته وارتمى أمام أيقونة والدة الإله، وصلّى باكيًا. فيما هو يصلّي غفا، فتراءت له والدة الإله في الحلم وأعادت له يده إلى مكانها.

ذاع صيت يوحنّا كناسك بارّ مطيع، وككاهن قدّيس، وكمعلّم وواعظ تجري من فمه التّعاليم كالذّهب الّذي يغني الكثيرين. كان من أبرز معلّمي الكنيسة الّذين أغنوها بالمؤلّفات في العقائد والدّفاع عن الإيمان القويم ضدّ الهراطقة المنتشرين في زمانه، كما كانت له اليد الطّولى في نظم التّسابيح والقوانين اللّيتورجيّة، وفي وضع الألحان الكنسيّة ونظام موسيقاها. بعدما أمضى القدّيس يوحنّا ثلاثين سنةً في الدّير، رقد بسلام في الرّبّ، شيخًا جليلًا غنيًّا بالصّالحات.

يا أحبّة، أمام مثلين كبيرين من القدّيسين، لا بدّ لنا من أن نسأل أنفسنا عن الطّريق الّتي نسلكها نحو القداسة، هل ما زالت في بدايتها، أم إنّنا نتقدّم فيها، أو نتوقّف عند كلّ صعوبة أو خطيئة تواجهنا، فنيأس ونتعلّل "بعلل الخطايا"، ما يجعلنا نتقهقر ونعود إلى نقطة البداية. القداسة ليست بستانًا مفروشًا بالأزهار، بل جهاد شاقّ مملوء بالأشواك والمخاطر والكمائن الّتي ينصبها لنا الشّرّير عدوّ الصّالحات. لم يصل أيّ قدّيس إلى التّألّه من دون كدّ وجهاد روحيّ مضن، لأنّ "ملكوت السّماوات يغصب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12). القدّيسة بربارة، الفائقة الغنى والجمال، أدركت أنّ الحياة مع الله هي الغنى الحقيقيّ، وطبّقت قول السّيّد: "من أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني" (مت 10: 37)، كما عاشت قول الرّسول بولس: "إن عشنا فللرّبّ نعيش، وإن متنا فللرّبّ نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرّبّ نحن" (رو 14: 8). كذلك فعل القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ الّذي ترك المناصب والغنى والعلوم والعالم بأسره، والتصق بالرّبّ كناسك متواضع مطيع، فأغنى بيعة الرّبّ بما يفوق الذّهب والفضّة.

نأسف في أيّامنا لرؤية بشر يتمسّكون بالمنصب والكرسيّ والأموال مهملين الحياة مع الرّبّ. نحزن لأنّنا نشاهد المادّة وقد أصبحت أهمّ من البشر المخلوقين على الصّورة والمثال الإلهيّين. هل يعي الإنسان أنّه عند الموت يترك كلّ ما جمعه من مال وألقاب ويمضي عاريًا من كلّ شيء إلّا الصّفات الحسنة والأعمال الصّالحة، لذلك ندعو أن يكون ذكره مؤبّدًا.  

يا أحبّة، نعم الله تغمرنا ونحن عنها غافلون. والشّتاء نعمة إلّا في لبنان. فعند كلّ هطول مطر تغرق الشّوارع وتتلف الممتلكات وكأنّ المسؤولين في سبات عميق لا يستفيقون منه إلّا عند حصول الكارثة، وعوض العمل على تلافيها يتقاذفون التّهم والمسؤوليّة. التّعاون بين الوزارات والإدارات مفقود والمحاسبة غائبة وكأنّ أرواح النّاس وممتلكاتهم رزق سائب لا قيمة له.

لم ننس بعد تفجير المرفأ والكارثة الّتي حلّت بنصف العاصمة الّتي ما زال معظم سكّانها ينتظرون من يقضي بالعدل ويفرض العدالة وينصف ضحاياهم ويعوّض عليهم بعضًا من خسارتهم. ولن نكرّر الحديث عن مأساة المودعين الّذين لا يعرفون مصير أموالهم في المصارف، ومشكلة الكهرباء الّتي لم يجدوا لها حلًّا بعد، والطّرقات وغيرها ممّا يعاني منه المواطنون.

كيف يدار بلد بلا رأس؟ وكيف تعالج شؤون النّاس وينتظم عمل المؤسّسات الدّستوريّة وإدارات الدّولة في غياب رئيس وحكومة؟ وما زلنا نشهد كلّ خميس جلسةً تفتقر إلى الجدّيّة والشّعور بعظم المسؤوليّة، وكأنّ بعض نوّاب الأمّة استقال من واجبه الوطنيّ ونكث بعهده لناخبيه، ولا يرى حرجًا في عدم الاقتراع لإسم يراه صالحًا لتبوّء مركز الرّئاسة، ويفضّل الورقة البيضاء وتعطيل الجلسة، وكأنّهم يفضّلون إغراق السّفينة بمن فيها عوضًا عن أن يكونوا مرساةً وبحّارةً ماهرين وميناءً لخلاص المواطنين ونجاتهم من الغرق. وعوض عقد جلسة لحكومة تصريف أعمال، ومع ضرورة معالجة الأمور الضّروريّة، أليس الأجدى الاستعجال في انتخاب رئيس وإعادة إنتظام عمل المؤسّسات وتسيير شؤون النّاس؟ لا أحد منهم مستعدّ للتّضحية بمصالحه وارتباطاته في سبيل إنقاذ الوطن.  

ولا ننسى طبعًا مسؤوليّة المواطنين في المحاسبة أوّلاً وفي التّصرّف بمسؤوليّة أيضًا، لأنّهم إن لم يحافظوا على بيئتهم وغاباتهم وشوارعهم والممتلكات العامّة كأسلاك الكهرباء مثلاً فلن يجدوا من يحافظ عليها.

دعوتنا اليوم أن نسعى إلى القداسة، غير خائفين ممّا قد يسبّبه لنا الشّرّير من عثرات ومطبّات. علينا أن نكون جريئين في إيماننا، ثابتين على صخرة المسيح، حافظين للتّقليد الشّريف ومحافظين على أنفسنا ممّن قد يسعون إلى جرّها نحو الخطيئة. ألا بارك الرّبّ حياتكم، وقدّسكم، ومنحكم نعمه الّتي لا تحصى، آمين."