عودة: هل بين زعمائنا من يختار إفقار نفسه واضعًا ثرواته في خدمة الشّعب؟
"المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة. أحبّائي، أعايدكم بميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وأرفع الدّعاء معكم من أجل أن يبعد الله عن العالم أجمع كلّ وباء ومحنة، وأن يخلّص بلدنا الحبيب من كلّ ما يعيق نهوضه وتقدّمه، حتّى يعود الفرح والرّجاء إلى قلوب جميع اللّبنانيّين، وخصوصًا الذين طالتهم الأحزان في الفترة الأخيرة. نرفع الدّعاء لكي يعزّي الرّبّ إلهنا كلّ من فقد عزيزًا في التّفجير الدّمويّ الذي طال عاصمتنا العزيزة، ويرحم كلّ الذين ذهبوا ضحيّة فساد مستشر ومتجذّر، ويعين كلّ الذين هجّروا وشرّدوا، ويلهم المسؤولين إلى السّبل الحميدة لإعادتهم إلى بيوتهم مكرّمين، وإعادة النّبض إلى قلب لبناننا الذي تقترب ساعة وقوفه إن لم نتحرّك إلى الأمام بسرعة قصوى من أجل إنقاذه. وطننا في مأزق باعتراف الجميع. قدراته الماليّة تستنزف يوميًّا، والمخاطر الأمنيّة محدقة باعتراف العارفين، وشعبه يمات يوميًّا، وهو يصرخ مستغيثًا، وليس من يسمع ممّن في يدهم القرار. إلى متى هذا التّجاهل؟ ولم التّباطؤ في اتّخاذ القرارات الضّروريّة وأوّلها تشكيل حكومة"
الوقت ليس وقت المناكفات وتصفية الحسابات. إنّه وقت العمل الحثيث من أجل إنقاذ هذا البلد. الشّعب غير مهتم بالتّباينات التي تفرّق المسؤولين والتّعقيدات التي تعترضهم. الشّعب لا يريد إلّا العيش الهانىء الكريم والآمن في ظّل دولة عادلة تحمي حياته وحقوقه. هل يطلب المستحيل؟
يأتي ميلاد ربّنا يسوع المسيح، هذا العام، مشابهًا في ظروفه لميلاد الفادي. زعماء يتحكّمون بالشّعب، مجبرين إيّاه على تطبيق الكثير من القوانين والتّعميمات المجحفة بحقّه، مثلما فعل هيرودس مع شعبه مجبرًا إيّاه على الاكتتاب. العذراء مريم التي كانت على وشك الولادة، ويوسف الخطيب، لم يجدا مكانا يبيتان فيه، واليوم آلاف العائلات مهجّرة ومشرّدة، فيما الجميع يتلهّون بالمباحثات الغبيّة والأنساب والخصومات التي ينصح الرّسول بولس تلميذه تيطس باجتنابها لأنّها غير نافعة وباطلة (تيطس 3: 9). مغارة مظلمة استقبلت المسيح المتجسّد، وها نحن نستقبل ميلاده في بلد كان في غابر الأيام ينافس البلاد المتقدّمة، ويقدّم للعالم أفضل نموذج عن تفاعل الأديان والحضارات والثّقافات. أمّا اليوم فقد أظلم بسبب الأحقاد والخصومات والمماحكات وشتّى أنواع الفساد. لقد أظلمت قلوب الكبار ونفوسهم بسبب الكبرياء والحقد والجشع، وها هم ينشرون الظّلمة بين البشر. هناك هيرودس قتل آلاف الأطفال الأبرياء، وهنا فساد وتقصير وغموض راح ضحيّتها الأبرياء، ومن لم يقتل منهم جسديًّا أصيب إصابات نفسيّة كبيرة، لا يمحو أثرها سوى سعي حثيث من أجل تأليف حكومة تبصر النّور اليوم قبل الغد، حتّى تنتشل المواطنين من الهاوية التي يقبعون فيها، والجوع الذي يتربّص بهم، والعوز الذي يهدّد كرامتهم. يقول الرّسول بولس: فإنّكم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح، أنّه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره (2 كو 8: 9)، فهل بين زعمائنا من يختار إفقار نفسه واضعًا ثرواته في خدمة الشّعب؟
مسيحنا المتجسّد هو المثال الأمثل للخدمة الحقيقيّة. لقد تجسّد ليخلّص البشريّة من العبوديّة للخطيئة أوّلًا، وللطّغاة ثانيًا، كما سبق فصور موسى بإخراجه الشّعب المختار من العبوديّة لفرعون المصريّ. إلّا أنّ البشر أنفسهم، في الكثير من الأحيان، يخطئون في اختياراتهم التي قد توصلهم إلى العبوديّة عوض الحرّيّة. في العهد القديم، لام الشّعب موسى على إخراجهم من أرض مصر، لأنّهم جاعوا في الصّحراء، فطالبوه بإعادتهم تحت جناحي المستعبد الذي كان ينكل بهم، لكنّه كان يطعمهم. لم يثقوا بالله القادر على إشباعهم، الذي أرسل لهم المنّ والسّلوى ووعدهم بإرساله يوميًّا، لكنّهم لم يثقوا به، وراحوا يخزّنون الطّعام للأيّام المقبلة، ففسد الطّعام المخزّن، وأظهر الشّعب عدم إيمان وثقة بخالقهم الذي لا يمكن أن يتركهم يموتون، هو الذي يعتني بطيور السّماء وأزهار الحقول. يقول القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ: غير المتجسد يتجسّد، والكلمة يتّحد بالأرض. غير المنظور ينظر وغير الملموس يلامس، ومن لا بدء له يبتدىء، وابن الله يصير ابن الإنسان... نعيّد لمجيء الله إلينا لكي نعود نحن إلى الله، لنخلع الإنسان القديم ونلبس الجديد. وكما متنا في آدم سنعيش في المسيح. فلنولد معه ونصلب، وندفن ونقم بقيامته. هذا هو المعنى الحقيقيّ للميلاد. لقد تجسّد الله ليتألّه الإنسان ويعود إلى الحياة، إلى الفردوس الذي خلقه فيه الله في البدء. لقد شوه الإنسان الصّورة الإلهيّة التي خلق عليها، هو المخلوق على صورة الله ومثاله، وهو مدعو إلى العودة، إلى التّوبة، إلى استرجاع النّقاوة بدوسه الخطيئة.
عيد الميلاد هو عيد ميلادنا الجديد. بميلاد المخلّص، القديم قد عبر وصار كل شيء جديدًا. الخطيئة ليست من طبيعة الإنسان، بل هي عمل إرادته. لقد خلقنا الله أحرارًا نريد أو لا نريد، نقبل أو نرفض. منحنا رفعة بجعلنا على صورته، وأعطانا أن نختار أن نكون معه أو بعيدًا عنه. الاختيار هنا مرتبط بالمحبّة، ولا إكراه في المحبّة. فإن أحببنا الله اتّحدنا به وكنّا معه، وإن رفضناه انقطعنا عنه وأهملنا وصاياه. هذا الانقطاع عن الله هو الخطيئة، والخطيئة تلوّث الطّبيعة البشريّة، تستعبدها وتذلّها. لهذا السّبب تجسّد ابن الله. لفرط محبّته لم يشأ ترك خليقته في الهلاك. حمل خطايانا وأوجاعنا، وكما يقول إشعياء النّبيّ: «هو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا... كلّنا كغنم ضللنا. ملنا كلّ واحد إلى طريقه، والرّبّ وضع عليه إثم جميعنا. ظلم، أمّا هو فتذلّل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذّبح (إش 53: 5-7). هل من حبّ أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه من أجل أحبّائه؟ الميلاد عيد المحبّة والرّحمة والتّضحية. سمعنا في رسالة اليوم: لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التّبنّي. المسيح افتدانا بدمه، ويبقى علينا حفظ الأمانة. جاء في سفر الرّؤيا: كن أمينًا إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة (2: 10). الأمانة تحتاج إلى جهاد وتعب، والسّقوط وارد لأنّ الجسد ضعيف. المهمّ أن ننهض من جديد ونتابع السّير طالبين وجه المخلّص وحده. المهمّ ألّا نيأس وأن نعيش دومًا على الرّجاء، والذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص (متّى 10: 22).
كلّ ما نمرّ به ينفعنا إذا كنا نلتمس مشيئة الله. كلّ ما نمر به من تجارب وضيقات ومشقّات يعزز فينا تواضع القلب إذا وضعنا رجاءنا في الله. وبالتّواضع نماثل الله ونستوعب عطاياه التي لا يعبّر عنها. التّواضع كان طريق ابن الله الوحيد إلينا بالتجسد، لكيما يكون التّواضع طريق المؤمنين إليه بالقداسة. يأتي ميلاد المخلّص بارقة أمل، في زمن غيّب فيه الأمل عن كلّ سكّان الأرض، إن بسبب الوباء المستشري، أو بسبب الحروب والقلاقل والنّزاعات على أشكالها. كيف لا نشعر بالأمل في ميلاد القائل: روح الرّبّ علي، لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرّيّة (لو 4: 18-19)؟ إذا وضعنا رجاءنا في المسيح لن نخيب أبدًا، أمّا إذا اتّكلنا على البشر فإنّنا سنحزن كثيرًا. لذا، لا تخافوا، لأن عمانوئيل ولد، ومعنى اسمه الله معنا، وإن كان الله معنا فمن علينا؟ الذي لم يشفق على ابنه بل بذله من أجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كلّ شيء؟... من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف؟... ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبّنا كما يقول بولس الرسول (رو 8: 31-39)."
وإختتم عودة قائلًا: "في الأخير، نرفع الصّلاة مجددًا من أجل جميع إخوتنا في هذا الوطن الحبيب، الذين تأذّوا نفسًا وجسدًا من التّفجير الذي أصاب قلب عاصمتنا، كما نصلّي من أجل جميع العاملين في الحقل الطّبّيّ والتّمريضيّ، كي يضع الرّبّ يده الشّافية مع أيديهم، علّنا نصل قريبًا إلى الشّفاء التّامّ من الوباء المتفشّي. كما نصلّي من أجل كلّ المتألّمين والمظلومين والمحزونين والمخطوفين والمشرّدين. ولا ننسى أخوينا المطرانين بولس ويوحنّا اللّذين نفتقدهما في هذا العيد المبارك، ونسأل الطّفل الإلهيّ أن يعيدهما سالمين معافين. حفظكم الإله المتجسّد، ومنحكم الصّبر والرّجاء والأمل. بارككم، وبارك وطننا، ومنح مسؤولينا استنارة العقل والقلب حتّى يرأفوا بمن تبقى في أرض لبنان".