لبنان
20 كانون الثاني 2017, 08:00

عظة البطريرك الراعي - قداس يوبيل 25 سنة للصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحّي

بمناسبة اليوبيل الـ 25 للصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحّي احتفل البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي بالقداس الإلهي وألقى عظة جاء فيها:

 

تجلّت رحمة الله بشخص يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، وبلغت ذروتها في ذبيحة ذاته على الصليب من أجل خلاص البشريّة جمعاء، وفي وليمة جسده ودمه لحياة العالم. وأراد أن تكتمل ذبائح العبادة بأفعال الرحمة. فلمّا انتقده الفريسيّون المتمسّكون بحرف الشريعة وطقوسها، إذ رأوه يوآكل العشّارين والخطأة، قال لهم: "أريدُ رحمةً، لا ذبيحة" و"المرضى هم بحاجة إلى طبيب لا الأصحاء" (متى 9: 12 و13).

 

في إطار كلام الربّ يسوع في إنجيل اليوم، ورسالة الكنيسة الراعوية-الاجتماعية، يندرج نشاط الصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحي، الذي أُنشئ منذ خمس وعشرين سنة، كفرع من "الصندوق الاجتماعي الماروني" المعروف اليوم باسم "المؤسّسة الاجتماعيّة المارونيّة". وكان مجلس المطارنة الموارنة قد أنشأ هذه المؤسّسة، في عهد أبينا صاحب الغبطة والنيافة، سلفنا الكلِّي الطوبى، البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس، في حزيران 1987، لكي تُعنى أساسًا بالسّكن والصحة والتعليم والغذاء. ولكن مع الممارسة اقتصر العمل على إنشاء وحدات سكنيّة، وإطلاق الصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحي. ومؤخَّرًا بدأت المؤسّسة الاهتمام بالشأن الإنمائي إلى جانب بناء وحدات سكنيّة، وفقًا للحاجة.

 

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي نفتتح بها يوبيل الخمس وعشرين سنة لتأسيس "الصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحّي". فأحيِّي معكم رئيسه الفخري الدائم سيادة أخينا المطران رولان أبو جوده، ورئيس مجلس الإدارة الأب جورج صقر، وأعضاء المجلس، والعاملين في مختلف قطاعات الإدارة والمنتسبين، وبخاصة أولئك الذين مرّ على انتسابهم خمس وعشرون سنة، وهم يُكرَّمون في هذا الاحتفال.

 

نسأل الله أن يباركهم جميعًا ويبارك عملهم ونشاطاتهم في خدمة المحبّة الاجتماعيّة وأعمال الرحمة، وشعارهم كلمة القدّيس بولس الرسول: "أما أنتُم، أيُّها الإخوة، فلا تملّوا من عمل الخير" (2تسا3: 13). ونلتمس أن تكون هذه الذبيحة المقدّسة، المكتملة بأعمال المحبة والرحمة، ذبيحةَ شكر لله على الخير الجسدي والروحي والمعنوي الذي تحقّق بالبركة الإلهيّة طيلة خمس وعشرين سنة؛ وذبيحة التزام في متابعة الخدمة التي يؤدّيها "الصندوق التعاضدي"، وفقًا لأهدافه ورسالته، على هدي أنوار الروح القدس، وإلهامات محبّة المسيح.

 

وإننا كلّنا نعرب عن شكرنا وتقديرنا للقيِّمين على إدارة هذا "الصندوق التعاضدي" وللتطوّر والنموّ اللَّذَين تحقَّقا في البرامج ونوعيّة الخدمات. وإنّا معهم نصلّي صلاة  المزمور:

 

"طوبى لمَن يعتني بالضعيف، فالربّ في يوم السوء ينقذه.

الربّ يحفظه ويحييه، وفي الأرض يُسعده،  وعلى سرير الوجع يعضده.

تبارك الربّ منذ الأزل وإلى الأبد" (مز41: 2-4 و14).

 

يعتزم "الصندوق التعاضدي" منذ نشأته أهدافًا ورسالة.

أهدافه خدمة أبناء الكنيسة المنتسبين إليه، أفرادًا وعائلات ومجموعات في الرعايا والأبرشيّات. فيعزّز التعاون معهم وفيما بينهم، ويساندهم في تحمّل أعباء الطبابة والاستشفاء، ويقف إلى جانبهم، مقدّمًا مساعدات عائليّة واجتماعيّة ومدرسيّة ومنح، بعدالة ومساواة دونما تفرقة أو تمييز. أمّا رسالته فهي الاستهداء بتعليم الكنيسة وتوجيهاتها، والسعي الدائم لتأدية رسالة المحبة وخدمة القريب بأمانة، عملًا بقول السيّد المسيح في مَثَل السامري الصالح: "إمضِ، وعاملْ أنت أيضًا قريبَك بالرحمة" (لوقا10: 37).

 

لقد حقّق "الصندوق التعاضدي" أهدافه ورسالته ببرامج متنوّعة ومتعدِّدة ومتتالية. وهي برامج استشفائيّة وصحّية، مع مساعدات إضافيّة عائليّة؛ وبرنامج خاصّ بالمطارنة المتقاعدين والإكليروس؛ وبرنامج مسكونيّة خدمة المحبة؛ وبرنامج التغطية الاستشفائيّة خلال السّفر خارج لبنان؛ وخدمة طبابة الأسنان؛ وخدمة طبابة السّمع والبصر؛ وبرنامج توأمة العائلات في القرى والأرياف مع أبنائهم وذويهم في بلدان الانتشار، بتأمين التغطية الاستشفائيّة والصحّية لأفرادها؛ ودار الراحة للمسنّين والنقاهة للمرضى مع ما يستلزمان من خدمات؛ ومركز التدريب للعاملين في صناديق التعاضد، والتدريب التقني للإداريِّين والموظَّفين؛ ومشروع برنامج التقاعد وضمان الشيخوخة.

 

فالشّكر لله على إنجازات هذا "الصندوق التعاضدي" الذي انطلق مثل حبّة الخردل، على ما يقول الربّ في الإنجيل: "فهي أصغر البزور كلّها، زرعها رجل في حقله. وإذ نمت، كانت أكبر البقول، بل صارت شجرةً حتى أنّ طيور السماء تأتي فتعشعش في أغصانها" (متى13: 31-32).

 

لقد علّمت الكنيسة باستمرار ودافعت عن حقّ كلّ مواطن في الصحّة والطبابة، لأنّ من حقّه أن يتمتّع بصحّة جيّدة، وأن يتجنّب الألم والمرض، ويُحمى من التلوُّث البيئي والطبيعي، الناتج عن إهمال السَّهر على الصحّة العامّة. ومن حقّه أن يتوفّر له الضمان الصحّي والعلاج الصحيح، فلا يضطر إلى الاستدانة أو إلى بيع ممتلكاته وصرف مدّخراته. هذا إذا توفّرت لكي يتعالج من أمراضه. وهذه كلّها موجبات تقع على عاتق الدولة التي تستوفي من المواطن الرسوم والضرائب، وتمتلك المرافق والمرافئ والمال العام.

 

أمّا، وأنّ الكنيسة تنشئ المؤسّسات الاستشفائيّة والصحيّة والطبيّة، فلا يحقّ للدولة أن تهمل واجباتها المالية تجاه هذه المؤسّسات التي تستقبل الداخلين إليها من قِبل الدولة ووزاراتها والضمان الاجتماعي.

 

فإنّنا معكم نناشد الدولة اللبنانية، وبخاصة وزارة الصحة ووزارة المالية ووزارة الشؤون الاجتماعية وصندوق الضمان الاجتماعي، أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه هذه المؤسسات وان يفوا بما عليهم من واجبات ومستحقات المالية تجاهها.

 

"أريد رحمة لا ذبيحة" (متى 9: 13). كلمة الربّ يسوع هي إعادة لِما قاله الله لشعبه على لسان هوشع النبي: "إنّما أريدُ الرحمة لا الذبيحة (هو6:6)، ليقول أنّ التغيير الصادق في باطن الإنسان هو وحده ذبيحة مقبولة لدى الله. وعندما راح الفرّيسيّون في ظرف آخر ينتقدون تلاميذ يسوع، لأنّهم فركوا السنابل بأيديهم ليسدّوا جوعهم، وكان يوم سبت، والشريعة لا تحلّل العمل. قال لهم: "لو فهمتهم معنى هذه الآية: "إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة". لما حكمتم على مَن لا ذنب عليهم. فابن الإنسان سيّد السبت" (راجع متى 12: 1-8).

 

كم نحن بحاجة اليوم، وفي مجتمعنا إلى فهم هذه القاعدة الإلهيّة "أريدُ الرحمة لا الذبيحة"، وهي تعني أنّ جميع أعمالنا، في الكنيسة والمجتمع ومؤسّسات الدولة، تفقد وقعها وروحها بل وقيمتها إذا لم تكن صادرة من قلوب مُحبّة تسعى إلى تمجيد الله في خلقه، وتلتزم الخدمة المتجرّدة والعدل وإنماء الشخص البشري والمجتمع.

 

إنّ ذبيحة المسيح الفادي، التي نحتفل بها في الليتورجيا المقدّسة، تحمل قيمتها من ذاتها؛ وتؤتي ثمارها في النفوس التي تضمّ إليها قرابين أعمالها الصالحة ولاسيّما أعمال المحبة والرحمة والعدالة. وهي مصدر القوّة لمحبّتنا الفاعلة في المجتمع. منها استمدّ قدّيسو الرحمة قوّة محبتهم، أمثال الأم تريزا دي كالكوتا، وأبونا يعقوب حداد الكبوشي، والقديس منصور دي بول، وسواهم العديدون.

 

فيا ربّ، إقبل، مع ذبيحة هذا القداس الإلهي، أعمال المحبة والرحمة التي قام بها الصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحّي طيلة الخمس وعشرين سنة الأولى من حياته، لمجدك وتسبيحك، أيّها الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.