الفاتيكان
13 حزيران 2023, 13:20

صدور رسالة البابا فرنسيس لليوم العالمي السّابع للفقراء وعنوانها: "لا تُحَوّلْ وَجهَكَ عن فَقير"

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير" (طوبِيّا ٤، ٧)، صدرت اليوم رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ السّابع للفقراء الّذي يُحتفل به في 19 تشرين الثّاني/ نوفمبر المقبل.

وكتب البابا عن هذا الموضوع بحسب "فاتيكان نيوز" ما يلي:

“يبلغنا اليوم العالميّ للفقراء، العلامة الخصبة لرحمة الآب، للمرّة السّابعة لكي يعضد مسيرة جماعاتنا. إنّه موعد بدأت الكنيسة تجذِّره تدريجيًّا في عملها الرّعويّ، لكي تكتشف أكثر فأكثر محتوى الإنجيل الرّئيسيّ. نحن ملتزمون يوميًّا باستقبال الفقراء، ولكنَّ هذا لا يكفي. إنَّ نهر الفقر يجتاز مدننا ويصبح كبيرًا لدرجة أنّه يفيض؛ ويبدو أنّ هذا النّهر يغمرنا، فيما تعلو وتشتدّ صرخة الإخوة والأخوات الّذين يطلبون المساعدة والدّعم والتّضامن. لذلك وفي الأحد الّذي يسبق عيد يسوع المسيح ملك الكون، نجتمع حول مائدته لكي ننال منه مجدّدًا العطيّة والالتزام لكي نعيش الفقر ونخدم الفقراء.

"لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير". تساعدنا هذه الكلمة لكي نفهم جوهر شهادتنا. لنتوقّف عند سفر طوبِيّا، نصٌّ غير معروف من العهد القديم، جذَّاب ومليء بالحكمة، سيسمح لنا بأن ندخل بشكل أفضل في المحتوى الّذي يريد الكاتب المُلهَم أن ينقله إلينا. ينفتح أمامنا مشهد حياة عائليّة: الأب، طوبيت، يسلِّم على ابنه، طوبيّا، الّذي يهمُّ للانطلاق في رحلة طويلة. وكان طوبيت الشّيخ يخشى ألّا يتمكّن من رؤية ابنه مرّة أخرى، ولذلك ترك له "وصيّته الرّوحيّة". كان طوبيت منفيًّا إلى نينوى، وهو اليوم أعمى، وبالتّالي كان فقيرًا مُضاعفًا، لكنّه كان يتحلّى باليقين الّذي يعبِّر عنه اسمه، "الرّبّ خيري". هذا الرّجل الّذي وضع ثقته في الرّبّ دائمًا، يرغب كأب صالح أن يترك لابنه لا بعض الخيور المادّيّة وحسب، وإنّما شهادة للدّرب الّتي يجب أن يتبعها في الحياة أيضًا، ولذلك يقول له: "اذكُرِ الرَّبَّ، يا بُنَيَّ، جَميعَ أَيَّامِكَ، ولا تَرْضَ بِأَن تَخطأَ وتَتَعَدَّى وَصاياه. إعمَل أَعْمالَ البِرِّ جَميعَ أَيَّامِ حَياتِكَ، ولا تَسلُكْ سُبُلَ الإِثْم". كما يمكننا أن نلاحظ على الفور، إنَّ الذّكرى الّتي طلبها طوبيت الشّيخ من ابنه لا تقتصر على فعل تذكّر بسيط أو على صلاة يوجّهها إلى الله، ولكنّه يشير إلى أعمال ملموسة تقوم على القيام بأعمال صالحة والعيش في البرّ والصّلاح. وتصبح هذه الوصيّة أكثر تحديدًا: "شأنَ الَّذينَ يَعمَلونَ بِالبِرّ. تَصَدَّقْ مِن مالِكَ ولا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير".

تدهشنا كثيرًا كلمات هذا الشّيخ الحكيم. ولا يجب أن ننسى، في الواقع، أنّ طوبيت فقد بصره بعد أن قام بعمل رحمة. كما روى هو نفسه، كانت حياته منذ صباه مكرَّسة لأعمال المحبّة: "تَصَدَّقتُ كَثيرًا على إِخْوَتي وعلىَ بَني أُمَّتي الَّذينَ جُلوا معي الى نينَوى في بِلادِ أَشُّور. [...] فكُنتُ أُقَدِّمُ خُبْزي لِلجِياعِ وثيابًا لِلْعُراة، وإِذا رَأَيتُ أَحَدًا مِنِ بَني أُمَّتي قد ماتَ وأُلقِيَ مِن وَراء أَسْوارِ نينوى، كُنتُ أَدفِنُه". من أجل شهادة المحبّة هذه، حرمه الملك من جميع خيراته، فصار فقيرًا معدومًا. لكنَّ الرّبّ كان لا يزال بحاجة إليه، وإذ استعاد منصبه كمدبِّر، لم يخَفْ أن يستمرّ في أسلوب حياته. لنصغِ إلى روايته، الّتي تخاطبنا اليوم أيضًا: "في عيدِنا، عيد العَنْصَرَة، أو عيد الأسابيع، أُقيمَت لي مأدُبَةٌ فاخِرة، وجَلَستُ لِلطَّعام وقُرِّبَت إلَيَّ المائِدَة وجيءَ لي بِألْوانٍ كَثيرة. فقُلتُ لِطوبِيَّا آبني: هَلُمَّ، يا بُنَي، ومَن تَجدُه فقيرًا يَذكُرُ الله بِكُل قَلبِه بَينَ إِخوَتنا المَجلُوِّينَ الى نينَوى، فأتِ بِه لِيُشارِكَني في الطَّعام. وها إِنِّي في انتِظارِكَ، يا بُنَيَّ، إِلى أن تعود". كم سيكون جميلاً، في هذا اليوم العالميّ للفقراء، لو كان اهتمام طوبيت هذا هو اهتمامنا أيضًا! أن ندعُوَ إلى مشاركة غداء يوم الأحد، بعد أن نكون قد تشاركنا في المائدة الإفخارستيّة. فتصبح الإفخارستيّا الّتي احتفلنا بها، معيار شركة حقًّا. من ناحية أخرى، إذا كنّا ندرك أنّنا حول مذبح الرّبّ نحن جميعًا إخوة وأخوات، ستصبح هذه الأخُوّة مرئيّة أكثر من خلال مشاركة طعام العيد مع الّذين يفتقرون إلى ما هو ضروريّ!

فَعَلَ طوبيّا كما قال له والده، لكنّه عاد مع خبر أن هناك فقيرًا قد قُتِلَ وتُرِكَ في وسط ساحة المدينة. بدون تردّد قام طوبيت الشّيخ من على المائدة وذهب لكي يدفن الرّجل. وعندما عاد إلى بيته متعبًا، نام في ساحة داره. فسقط ذَرقُ طيرٍ في عينيّه وأصيب بالعمى. يا لسخريّة القدر: تقوم بعمل محبّة وتقع عليك مصيبة! قد نفكّر بهذه الطّريقة. لكن الإيمان يعلّمنا أن نذهب إلى العمق. لأنَّ عمى طوبيت سيصبح قوّته لكي يتعرَّف بشكل أفضل على أشكال الفقر العديدة الّتي كانت تحيط به. وسيعمل الرّبّ في الوقت المناسب، لكي يرُدَّ للأب الشّيخ بصره وفرح رؤية ابنه طوبِيَّا مجدّدًا. ولمّا جاء ذلك اليوم، "أَلْقى طوبيت بِنَفْسِه على عُنُقِه وبَكى ثُمَّ قال: إِنِّي أَراكَ يا وَلَدي ونورَ عَينَيَّ. وأَضاف: مُبارَكٌ الله ومبارَكٌ أسمُه العَظيم! مُباركةٌ جَميعُ مَلائكتِه القِدّيسين! مُباركٌ آسمُه العَظيم أَبَدَ الدُّهور! لأَنَّه ضَرَبَني فَرحِمَني ولِأَنِّي أَرى طوبِيَّا ابْني". يمكننا أن نسأل أنفسنا: من أين استمدَّ طوبيت الشّجاعة والقوّة الدّاخليّة اللّتين سمحتا له بأن يخدم الله في وسط شعب وثني وأن يحبّ قريبه لدرجة المخاطرة بحياته؟ نحن أمام مثالٍ حياة رائع: طوبيت زوج مخلِص وأب حنون. نُفيَ بعيدًا عن أرضه وتألَّم ظلمًا، واضطهده الملك وجيران بيته... وعلى الرّغم من أنّه كان طيِّبًا وصالحًا، إلّا أنّه ابتُلِيَ بالمحن. وكما يعلّمنا الكتاب المقدّس غالبًا، إنّ الله لا يبعد المحن عن الّذين يصنعون الخير. ولكن لماذا؟ هو لا يقوم بذلك لكي يذلَّنا، وإنّما لكي يثبِّتَ إيماننا به.

في لحظة المحنة، اكتشف طوبيت فقره، الّذي جعله قادرًا على التّعرّف على الفقراء. كان أمينًا لشريعة الله وكان يحافظ على الوصايا، ولكن هذا لم يكن كافِيًا بالنّسبة له. وقد تمكّن من أن يبدي اهتمامًا عمليًّا بالفقراء لأنّه اختبر شخصيًّا ما يعنيه أن يكون المرء فقيرًا. لذلك، فالكلام الّذي وجّهه لابنه طوبيّا هو ميراثه العفويّ: "لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير". بإختصار، عندما نكون أمام شخص فقير، لا يمكننا أن نحوّل نظرنا بعيدًا عنه، لأنّنا بذلك سنمنع أنفسنا من أن نلتقي بوجه الرّبّ يسوع. ولنلاحظ جيّدًا هذه العبارة "عن فقيرٍ" أيّ عن كلّ فقير. كلّ شخص هو قريبنا. لا يهمّ لون البشرة، والحالة الاجتماعيّة، ومن أين هو... إن كنتُ فقيرًا، يمكنني أن أتعرّف على من هو الأخ الّذي يحتاج إليَّ حقًّا. نحن مدعوّون لكي نلتقي بكلّ فقير وبجميع أشكال الفقر، ولكي نتخلّى عن اللّامبالاة والأعذار المبتذلة الّتي نقدّمها لكي رفاهيّتنا الوهميّة. نحن نعيش مرحلة تاريخيّة لا تعزَّز الاهتمام بالأشخاص الأشد فقرًا. وصوت نداء الرّفاهيّة يرتفع ويزداد، فيما نُسكِت أصوات الّذين يعيشون في الفَقر. كذلك نحن نميل إلى أن نُهمل كلّ ما لا يدخل ضمن نماذج الحياة المخصّصة للأجيال الشّابّة، الّتي هي الأكثر هشاشة أمام التّغيّر الثّقافيّ القائم. فنتجاهل كلّ ما هو غير سارّ ويسبّب الألم، فيما نُعلّي الصّفات الجسديّة كما لو كانت الهدف الأساسيّ في الحياة. ويسيطر الواقع الافتراضيّ على الحياة الواقعيّة، ويزداد الخلط بين العالمَين بسهولة. يصبح الفقراء صورًا يمكن أن تحرّك المشاعر لبضع لحظات، ولكن عندما نلتقي بهم شخصيًّا في الطّريق، يَغلِب علينا عندها الانزعاج والتَّهميش. والسُّرعة، رفيقة حياتنا اليوميّة، تمنعنا من أن نتوقّف ونساعد الآخر ونعتني به. إنَّ مَثَل السّامريّ الصّالح ليس رواية من الماضي، بل هو مَثَلٌ يسائل حاضر كلَّ فرد منّا. من السّهل أن نفوّض الآخرين، كما أنّها بادرة سخيّة أن نعطِيَ المال لكي يقوم آخرون بأعمال المحبّة، لكن الالتزام الشّخصيّ هو دعوة كلّ مسيحيّ.

نشكر الرّبّ لأنّه هناك العديد من الرّجال والنّساء الّذين يعيشون التّفاني إزاء الفقراء والمهمّشين والمشاركة معهم، وأشخاصٌ من جميع الأعمار والظّروف الاجتماعيّة يستقبلون ويلتزمون قرب الّذين يعيشون حالات تهميش وألم. إنّهم ليسوا رجالًا خارقين، بل هُم "جيران" نلتقي بهم يوميًّا، ويصبحون بِصَمتٍ فقراء مع الفقراء. هُم لا يكتفون بتقديم شيء ما: بل يُصغون ويتحاورون ويحاولون أن يفهموا المواقف وأسبابها، لكي يقدّموا النّصائح المناسبة والمراجع الصّحيحة. وهُم يتنبّهون إلى الحاجة المادّيّة وإلى الحاجة الرّوحيّة أيضًا، وإلى التّنمية المتكاملة للشّخص البشريّ. وبهذه الخدمة السّخيّة والمجّانيّة، يُصبح ملكوت الله حاضرًا ومرئيًّا، ويكون حقًّا مثل البِذرة الّتي تقع في الأرض الطّيّبة لحياة هؤلاء الأشخاص، فتعطي ثمارها. إنَّ امتناننا العديد من للمتطوّعين يطلب منّا أن نصلّي لكي تكون شهادتهم مثمرة.

في الذّكرى السّنويّة السّتّين للرّسالة العامّة، السّلام على الأرض، من المُلحِّ أن نستعيد كلمات القدّيس البابا يوحنّا الثّالث والعشرين: "كلّ إنسان له الحقّ في الحياة، وفي السّلامة الجسديّة الكاملة، ووسائل الحياة الأساسيّة والكافية ليعيش في مستوى حياة كريمة، لاسيّما فيما يتعلّق بالمأكل والملبس والمسكن والرّاحة والرّعاية الطّبيّة والخدمات الاجتماعيّة الضّروريّة، وبالتّالي له الحقّ في الضّمان في حالة المرض والعجز والتّرمّل والشّيخوخة والبطالة، وفي كلّ حالة أخرى فيها يفقد وسائل العيش بسبب ظروف خارجة عن إرادته". كم علينا أن نعمل بعد لكي تصبح هذه الكلمات حقيقة، وكذلك من خلال التزام سياسيّ وتشريعيّ جادّ وفعّال! على الرّغم من حدود وفشل السّياسة أحيانًا في رؤية وخدمة الخير العامّ، يمكن للتّضامنَ والتّآزر أن ينميا لدى الكثير من المواطنين الّذين يؤمنون بقيمة الالتزام الطّوعيّ للتّفاني في سبيل الفقراء. يتعلّق الأمر بالتّأكيد بأن نحفّز ونضغط لكي تقوم المؤسّسات العامّة بواجبها على أكمل وجه، ولكن لا ينفعنا أن نبقى خاملين هامدين في انتظار أن نحصل على كلِّ شيء "من علو": ينبغي أن يتمَّ إشراك الأشخاص الّذين يعيشون في حالة فَقر، ومرافقتهم في مسيرة تغيير ومسؤوليّة.

مرّة أخرى، للأسف، علينا أن نلاحظ أشكالًا جديدة من الفَقر تُضاف إلى تلك الّتي ذكرناها من قبل. أفكّر بشكل خاصّ في الشّعوب الّتي تعيش في أماكن الحرب، ولاسيما في الأطفال المحرومين من حاضر هادئ ومستقبل كريم. لا يمكن لأحد أن يعتاد أبدًا على هذه الحالة. لنحافظ على جميع الجهود حيّة لكي يتثبّت السّلام كعطيّةً من الرّبّ القائم من بين الأموات وثمرةً للالتزام في سبيل العدالة والحوار. كذلك لا يمكنني أن أنسى التّلاعبات الماليّة الّتي أدّت، في قطاعات مختلفة، إلى ارتفاع مأساويّ بالأسعار يزيد فقر عائلات كثيرة. فتنفد الأجور بسرعة، وتُجبر على حرمان يهدّد كرامة كلّ شخص. إذا كان هناك عائلات عليها أن تختار بين الطّعام للاغتذاء والأدوية للعلاج، فهذا يعني أنّه علينا أن نُسمِعَ أصوات الّذين يؤيّدون الحقّ في كلا الخيرين باسم كرامة الإنسان. كذلك، كيف يمكننا ألّا نلاحظ الاضطراب الأخلاقيّ الّذي يطبع عالم العمل؟ المعاملة اللّاإنسانيّة الّتي يتعرَّض لها الكثير من العمّال والعاملات، الأجر الّذي لا يتناسب مع العمل الّذي يتمُّ القيام بها، وآفة عدم الاستقرار، وضحايا الحوادث الكثيرة، الّتي غالبًا ما تسبّبها العقليّة الّتي تفضّل الرِّبح الفوريّ على حساب السّلامة... تبادر إلى ذهني كلمات القدّيس يوحنّا بولس الثّاني: "الأساس الأوّل لقيمة العمل هو الإنسان نفسه. [...] الإنسان مُوجَّه ومدعُوٌّ إلى العمل، لكن العمل أوّلًا هو "من أجل الإنسان"، وليس الإنسان "من أجل العمل".

هذه اللائحة، الّتي هي بحدّ ذاتها مأساويّة، تقدّم عرضًا جزئيًّا فقط لحالات الفقر الّتي تشكّل جزءًا من حياتنا اليوميّة. لا يمكن أن أتجاهل، بشكل خاصّ، شكلًا من أشكال القلق الّذي يظهر أكثر وضوحًا يوميًّا ويطال عالم الشّباب. كم من الإحباط، وكم من حالات الانتحار بين الشّباب الّذين خدعتهم ثقافةٌ تقودهم إلى الشّعور بالضّعف والفشل. لنساعدهم لكي يقاوموا أمام هذه العوامل القتّالة، ولكي يتمكّن كلّ واحدٍ منهم من أن يجد الدّرب الّذي عليه اتّباعه ويكتسب هويّة قويّة وسخيّة. من السّهل في حديثنا عن الفقراء أن نسقط في الإفراط في الكلام. كما إنّها تجربة ماكرة أيضًا أن نتوقّف عند الإحصائيّات والأرقام فقط. الفقراء هُم أشخاص، ولهم وجوه وتاريخ وقلوب وأرواح. إنّهم إخوة وأخوات بمحاسنهم ومساوئهم، مثل الجميع، ومن المهمّ أن ندخل في علاقة شخصيّة مع كلّ واحدٍ منهم. يعلّمنا سفر طوبيّا أن نعمل بشكل ملموس مع الفقراء ومن أجلهم. إنّها مسألة عَدل تُلزمنا جميعًا لكي نبحث عن بعضنا البعض ونلتقي مع بعضنا مع البعض، من أجل تعزيز الانسجام الضّروريّ، لكي تكون الجماعة جماعة حقًّا. لذلك، فإنّ اهتمامنا بالفقراء لا يُستنفد في صدقة سريعة، بل يتطلّب منّا أن نعيد بناء العلاقات الشّخصيّة الصّحيحة الّتي دمّرها الفقر. بهذه الطّريقة، تقودنا الآية "لا تحوِّل نظرك عن الفقير" لكي نحصل على فوائد الرّحمة والمحبّة الذّتي تعطي معنى وقيمة للحياة المسيحيّة بأسرها.

ليكُنْ اهتمامنا بالفقراء مطبوعًا دائمًا بالواقعيّة الإنجيليّة. كذلك على مشاركتنا أن تجيب على احتياجات الآخر الملموسة، وليس فقط على التّحرّر من الفائض لديّ. هنا أيضًا، نحن بحاجة إلى التّمييز، تحت إرشاد الرّوح القدس، لكي نتعرّف على متطلّبات الإخوة الحقيقيّة، وليس على تطلّعاتنا. إنَّ ما يحتاجون إليه بشكلٍ ملحٍّ بالتّأكيد هو إنسانيّتنا، وقلبنا المُنفتح على الحُبّ. لا ننسَينَّ هذا الأمر أبدًا: "نحن مدعوّون لكي نكتشف المسيح فيهِم، ولكي نُعطي صوتنا لقضاياهم، وإنّما أيضًا لكي نكون أصدقاءهم، ونصغي إليهم، ونفهمهم ونقبل الحكمة السّرّيّة الّتي يريد الله أن ينقلها إلينا من خلالهم". يعلّمنا الإيمان أنّ كلّ فقير هو ابن لله وأنّ المسيح حاضر فيه أو فيها: "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه".

تصادف هذه السّنة الذّكرى السّنويّة المئة والخمسون لولادة القدّيسة تريزا الطّفل يسوع. في صفحة من صفحات كتابها "قصّة نَفْس" كتبت ما يلي: "الآن فهمت أنّ المحبّة الكاملة تقوم على أن نتحمّل عيوب الآخرين، وألّا نتفاجأ على الإطلاق من ضعفهم، وأن نتعلّم من أصغر أعمال الفضيلة الّتي يقومون بها، ولكنّني فهمت بشكل خاصّ أنّه لا يجب على المحبّة أن تبقى دفينة في أعماق القلب، لأنّ يسوع قد قال: "لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الّذين في البيت". ويبدو لي أنّ هذا السّراج يمثّل المحبّة الّتي يجب أن تُنير وتُبهج ليس الّذين أحبّهم وحسب، وإنّما جميع الّذين في البيت، دون استثناء أحد". وفي هذا البيت الّذي هو العالم، يحقُّ للجميع أن يستنيروا بالمحبّة، ولا يمكن أن يُحرَمَ أحد منها. لتُلهِم مُثابرة المحبّة في القدّيسة تريزا قلوبنا في هذا اليوم العالميّ، ولتساعدنا لكي "لّا نُحوِّل نظرنا عن الفقير" ونبقيه ثابتًا على الدّوام على وجه الرّبّ يسوع المسيح، البشريّ والإلهيّ."