العراق
08 تشرين الأول 2021, 11:15

ساكو: علينا أن نكون فاعلين وليس متفرّجين

تيلي لوميار/ نورسات
أضاء بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو على إبراهيم أب الآباء في تعليمه السّادس، داعيًا المؤمنين على ضوء سيرته أن يقوموا بدورهم لأجل مستقبل البشريّة والعالم. فكتب بحسب موقع إعلام البطريركيّة الرّسميّ:

"لم يخلقنا الله صدفةً، بل عن تصميم، وعلينا ان نقوم بدورنا

لم يخلق الله البشر من باب الصّدفة، بل عن قصد. هذا ما ينبغي ان نفهمه من رواية الخلق (تكوين فصل1 و2) ومن دعوة ابراهيم الّتي هي في مستوى "سرّ تدبير الله"، لذلك علينا أن نكون فاعلينَ، وليس متفرّجينَ، وأن نقوم بدورنا لنساهم في مستقبل عالمنا وبشريّتنا. لن نستطيع أن نغيّر عالمنا إن لم نغيّر أنفسنا. خبرة هؤلاء الآباء بظِلالها المضطربة وأضوائها تعلّمنا دروسًا بليغة في الحياة، وتفتح أمامَنا آفاق بركة ربّانيّة ورجاء وفرحٍ.

أسماء الأشخاص مهمّة جدًّا في الكتاب المقدّس

إبراهيم (أب جمهور) واسمه الأوّل أبرام (الأب الأعظم) وزوجته ساراي (امرائي) الّذي تغيّر إلى سارة (اميرتي)، إسحق (إضحك) واسماعيل (الله يسمع)1. يحتلّ ابراهيم مكانة فريدة عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين، الّذين يعدّونه أباهم في الإيمان، وحامل الوعد– العهد مع الله. إبراهيم يسمع كلمة الله ويستقبلها بحماسة، فاتحًا لها باب قلبه لكي يدخل الله إليه وينجز تصميمه. الإيمان ليس مجرّد قبول عاطفيّ وانتماء شكليّ، بل مشروع حياة متكاملٍ، لا يحقِّقُهُ سوى أشخاص أقوياء يدركون أهمّيّته، ويجدون فيه مسرّتَهم.

البُعد التّاريخيّ

الفصول 11 الأولى من سِفر التّكوين رمزيّة بمعانيها البليغة، لكن نكتشف مع إبراهيم وإسحق ويعقوب الّذين نعتبرهم الآباء المؤسّسين، أسسًا تاريخيّة لأسرة واحدة تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى جماعة دينيّة وإثنيّة لها خصوصيّتها. جماعة تعيش في نفس البقعة الجغرافيّة (حران وحبرون وناحور)، ولها نفس التّقاليد والتّوجّهات. تدور الأحداث ما بين القرن 18-15 ق. م 2.

ثقة دائمة وطاعة مطلقة

"قالَ الرَّبُّ لأَبْرام: اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ. وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة.. فاَنطَلَقَ أَبْرامُ كما قالَ له الرَّبّ" (تكوين 12/ 1-2، 4).

تبدأ قصّة إبراهيم بكلمة الله الّتي سمعها في روحه وقلبه، وعلى أثرها ترك أرضهُ (أور الكلدانيّين في بلاد ما بين النّهرين) وديانتهُ ووالده تارح "كان أبي آراميًّا تائِهًا– بدويًّا" (تثنية الاشتراع 26/ 5). يا لها من مسيرة شاقّة ومغامرة إلى مكان مجهول. يرتضي إبراهيم من دون تردّد أن يقدِّم إبنه اسحق ذبيحة على طلب الله ليثبّت ثقته به إلى النّهاية، وكأنّه يسير في ظلام اللّيل ونوره الوحيد إيمانه وطاعته ورجاؤه وثقته.

يواصل إبراهيم مشروعه من دون توقّف لأنّه يؤمن بوجود الله في تاريخه، لذا باركه الله على أمانتِه وثباتِه "وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تكوين 12/ 3). هذه البركة ليست له فحسب، بل هي للكلّ3 مثلما خلاص المسيح هو للجميع. هذه البركة تثمر عندما تكون العلاقات صحيحة. لقد تحمَّل ابراهيم أعباءً ثقيلة لالتزامه المطلق بنداء الله، وبالرّغم من ارتكابه بعض الأخطاء (التّقيّة– الكذب، على سبيل المثال، في موضوع سارة تكوين 20/ 2-5)، جازاه الله لطاعته وأمانته ما لم يكن يتخيّل.

عائلة ميثاق حُبّ ومسيرة

عائلة إبراهيم كما ترويها القصّة، ميثاق شخصيّ وعائليّ مع الله ومع بعضهم، ومسيرة غنيّة بالقيم الدّينيّة والاجتماعيّة الرّاسخة يُعبّرون عنها بالتّفاهم والحبّ والإيمان والرّجاء والفرح والتّعاون والانسجام.

تعدّد الزّوجات

إنّ تعدّد الزّوجات عرفٌ اجتماعيّ كان مسموحًا به في الدّيانة اليهوديّة، ويذكر العهد القديم أنّ ابراهيم وأولاده وأحفاده كان لهم أكثر من زوجة، بالرّغم من تعارضه مع تصميمِ الله. يبدو أنّ الزّواج الأحادي كان القاعدة في كلّ من العهد القديم والتلمود (تكوين 2/ 24) وخصوصًا في العهد الجديد مع يسوع المسيح "فلا يكونانِ اثنَينِ بعدَ ذلكَ، بل جَسَدٌ واحد. فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان" (تكوين 2/ 24، متّى 19/ 6). تعدّد الزّوجات يهدف الى إنجاب عدد كبير من الأولاد لحماية العائلة وللعمل في الحقل والرّعاية، خصوصًا أنّ العديد من الزّوجات والأولاد كانوا يموتون بسبب انعدام شروط الصّحّة العامّة. الزّواج مقدّس بالعبريّة (قدوشين)، وبالرّغم من العلاقات المضطربة عند الآباء نشاهد مساحة من الشّراكة واقتسام المسؤوليّة بين الرّجل والمرأة.

البُعد الإنسانيّ والإيمانيّ

روايات الآباء المؤسّسين إبراهيم وإسحق ويعقوب، هي خبرات إنسانيّة عظيمة، ودينيّة فريدة، لا تزال تُخاطبنا اليوم ببلاغاتها الإنسانيّة والعائليّة العميقة، وقيمها الإيمانيّة والرّوحيّة، وتساعدنا للتّمرُّس عليها. من هذا المنطلق يدعو المحتفل في القدّاس الكلدانيّ المؤمنين قائلاً: إرفعوا أفكاركم إلى العُلى، فيجيبون: إليك يا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أيّ نحن أيضًا نريد أن نرتفع ونسمو لنيل بركة الله وحمايته على مثالهم، آمين.

يسوع وإبراهيم

قرأ التّلاميذ الأوائل أحداث حياة المسيح على ضوء الكتاب المقدّس، فرأوا في ذبيحة إسحق إشارة إلى ذبيحة المسيح (رومية 8/32). ذبيحة إسحق لم تكتمل، بينما ذبيحة المسيح تمَّت على الصّليب لأجل خلاص البشر. ورأوا في رمزيّة ملكيصادق الكاهن صورة المسيح الحَبْر الأعظم الحقيقيّ (عبرانيّين 7/ 22-26).

دعوة المسيحيّين الشرقيّين المهاجرين

على المسيحيّين الشّرقيّين المؤمنين الّذين يهاجرون إلى بلدان عديدة في الغرب العلمانيّ- الاستهلاكيّ أن يفكّروا أنّ الله يدعوهم على مثال ابراهيم "بطل الإيمان"، ليكونوا كلًّا على طريقته الخاصّة، مبشِّرين وشهود إيمان ورجاء والقيَم العائليّة الوثيقة (الزّواج سرّ مقدّس، والعائلة كنيسة ومدرسة صغيرة)، فضلاً عن المداومة على الكنيسة، لكي يؤثّروا في مجتمعاتهم الجديدة!".