العراق
30 تشرين الثاني 2020, 14:30

ساكو: الكاهن أيقونة رعيّته!

تيلي لوميار/ نورسات
"الكاهن أيقونة رعيَّته، بمحبّته وصلاته والتزامه. يقتبس ملامحه من المسيح، أيقونة الكاهن الأعظم "ولَمَّا كانَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ قدِ اجْتازَ السَّمَوات، وهو يسوعُ ابنُ الله، فلْنتَمَسَّكْ بِشهادةِ الإِيمان" (الرّسالة الى العبرانيّين 4: 14). في رسامته الكهنوتيّة، تُمسح يداه بزيت الميرون المقدّس، وتعبّر حركات سجوده ورفع كفيه، وحلّته: القميص الأبيض والزّنار والهُرار والغفّارة عن هذه الأيقونة الرّائعة الّتي يتعيّن عليه أن يصون وقارها وجمالها طوال سني خدمته."

بهذه الكلمات، بدأ بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو وصفه للكاهن، في مقال نشره موقع البطريركيّة الرّسميّ، كتب فيه:

"منذ أن كنتُ مديرًا للمعهد الكهنوتيّ في نهاية التّسعينيّات، ثمّ كأسقف أبرشيّ واليوم كبطريرك عنيتُ كثيرً بتنشئة كهنتنا تنشئة راسخة وشاملة، وتقوية الرّوح القياديّة عندهم، حتّى يتمكّنوا من القيام برسالتهم الرّاعويّة على أحسن وجه، حيث ما  وجدوا، ومهما كانت الظّروف.

اليوم ينبغي على كلّ أسقف أبرشيّ أن يضمن  تنشئة مستدامة لكهنته، ويتابعهم بمحبّته الأبويّة، ويشجّعهم على التّعاون مع بعضهم كفريق واحد. من المؤسّف أنّنا في العراق توقّفنا عن برامج التّنشئة المستدامة الجماعيّة  بسبب  جائحة كورونا.

الإنسان محور رسالة الكاهن

الكاهن هو من أجل النّاس وليس العكس. إنّهم موضوع رسالته وخدمته، والطّريق إلى تقديس ذاته. عليه أن يحمل همومهم وقلقهم وآمالهم، ويرصد كلّ شيء من أجلهم، ويضحّي بكل شيء في سبيلهم، خصوصًا الفقراء. لهذا السّبب يُقال عنه "الكاهن صورة الرّعيّة وكما هو هكذا تكون الرّعيّة".  

يوجد في الكنيسة الكاثوليكيّة أكثر من أربعمائة ألف كاهن، معظمهم ملتزم وأمين لرسالته، لكن هناك أزمة هويّة وأمانة عند البعض، أيّ من هو ملتهٍ بأمور غير إنجيليّة،  لذا يبتعد النّاس عنه. على الكاهن أن يكون قريبًا من النّاس، وأن يتعامل معهم كأخ وأب وصديق، وليس كمن هو فوقهم. لا ينبغي للكاهن أن يفكّر أنّه ينتمي إلى طبقة كهنوتيّة "اكليروسانيّة" ويتصرّف بعقليّة سلطويّة! كما يجب ألّا يسمح لأيّ شيء كان أن ينزع كهنوته منه!

وجود كهنة أفاضل، ملتزمين بكهنوتهم وأمناء له،  قضيّة حيويّة في الكنيسة. ومجتمعنا يتطلّع إلى شاهدٍ للمسيح، شاهد لمستوى آخر من الحياة، شاهد لملكوت الله في عالم  يتّجه أكثر فأكثر إلى المادةّ والاستهلاك والمتعة، ويدير ظهره للقيم الرّوحيّة.

الكاهن يحمل قضيّة "ملكوت الله"

إنّ سرّ الكهنوت، والحياة المكرّسة في العزوبيّة، بالنّسبة للكاهن والشّخص المكرّس راهبًا كان أو راهبة، هو ليجعلا ملكوت الله حاضرًا  وملموسًا في شخصهما، وفي الرّعيّة أو الدّير. يقول إنجيل لوقا: "وسأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ مَتى يَأتي مَلكوتُ الله. فأَجابَهم: لا يأتي مَلَكوتُ اللهِ على وَجهٍ يُراقَب. ولَن يُقال: ها هُوَذا هُنا، أَو ها هُوَذا هُناك. فها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ في داخلكم" (17:20-21). لذلك يتعيّن على الكاهن أن يجعل قلبه شبيهً بقلب معلّمه يسوع في تجدّد دائم وسلام وفرح.

راهبات مكرَّسات يعشنَ تكريسَهنَّ في العالم والعالم في تكريسهنَّ

الكاهن شخص متحمّس، يُسخّر كلّ طاقاته في سبيل "ملكوت الله" الّذي يصلّي بوعي أو بدونه، عدّة مرّات في النّهار قائلاً: "أبانا الّذي في السّموات.. ليأتِ ملكوتك". يجب ألّا ينسى الكاهن ولو لحظة واحدة دعوته: ها أنذا أرسلني.. إذهب وقل... وتلمذ... ويتحمّل بجدارة المسؤوليّة الّتي يلقيها عليه المسيح، الكاهن الأعظم.

يتحتّم على الكاهن أن يعظ  بالإنجيل، أيّ ببلاغاته- معانيه العميقة، وليس بالكلمات الرّنّانة الجوفاء، ويوجّه النّاس إلى الله وليس إلى شخصه.

كاهن يصلّي ويرنّم ويحوّل اللّيتورجيا إلى احتفالٍ وعيد، وينبوع رحمة وسعادة، يُدهشُ، ويجذبُ ويُبهج هو أيقونة حيّة. كاهن ينتبه إلى ما حواليه، إلى علامات الأزمنة، ليكتشف فيها جديد الله، فيسِم الأشياء بروحانيّة الإنجيل وجذريَّته. ويمنحه الرّوح القدس مواهبه– النِّعَم، لكن يجب أن يعرف كيف يستقبلها، ويكون في يقظة الرّوح وتجدّد دائم فيعيش طمأنينة القلب والسّكينة.

العمل الرّاعويّ

العمل الرّعويّ، نسبة إلى الرّعيّة أو الرّاعويّ نسبة إلى الرّاعي، ويسمّى أيضًا العمل الرّسوليّ apostolic work  هو كلُّ نشاط يتمّ في الرّعيّة  بهدف خدمة أفضل. العمل الرّعويّ المتكامل يدخل في مجالات عديدة: روحيّة وثقافيّة واجتماعيّة وصحّيّة واقتصاديّة، انطلاقًا من رسالة المسيح: "أتيتُ حتّى تكون لهم الحياة وبوفرة" (يوحنّا 10/10). لذلك العمل الرّعويّ يتّخذ كلّ مساحة تفكير الرّاعي ومشاعره واهتمامه.

العمل الرّعويّ ليس أسلوبًا أو تعليمًا، إنّما هو تنشئة مؤمنين  ليغدوا رسلاً لكنيسة اليوم– للقرن الحادي والعشرين. ويُثبت الرّاعي مصداقيّته من خلال البرمجة المترجمة بالأعمال.  فهو على سبيل المثال في ظروف كظروف العراق الحاليّة، يُنتظَر منه أن يحمل كلمة رجاء ونور وفرح إلى أناس أتعبتهم الظّروف، ويشعرهم بأنّه يحبّهم، ويهتمّ بهم ويتفاعل معهم معتبرًا إيّاهم إخوة له وليس قطيعًا يقودهم.

تحدّيات عديدة

هناك تحدّيات متنوّعة يواجهها الكاهن في رسالته وخدمته، أذكر منها:

النّاس عمومًا والشّباب بشكل خاصّ يختلفون عن الجيل الّذي قبلهم. الشّابّ اليوم يبحث عن معنى لحياته، وعن مستقبله، وعن الأمل.

العلمنة، أيّ روح العالم الّذي يجعل كلّ شيء نسبيًّا ومبتذلاً. وتأثير وسائل التّواصل الاجتماعيّ الّتي فتحت الأبواب واسعة أمام النّاس ومن دون رقيب. إنّ التّعامل مع هذه الحالات طريق صعب. على الكاهن أن يميّز كلّ حالة منفردة بحكمة وصبر، ويُعين قدر المستطاع.

التّقليد والطّقوس والقوانين- الأدبيّات القديمة، مصطلحات لاهوتيّة غير مفهومة، واللّغة الطّقسيّة الّتي لا يفهمها بعض الكهنة، كذلك يجهل البعض منهم لغة البلد الّذي يخدمون فيه! من المؤسف أنّ هذه الأدبيّات لا علاقة لها بالواقع الحاليّ، وقد تؤدّي إلى حدّ يفقد المسيحيّ قدرته على الفهم. لذلك نحن بحاجة إلى تعابير ورموز وطقوس تحمل لنا الإيمان والأمل، والحماسة والفرح.

جفاء تعامل بعض الأساقفة وتقتيرهم على الكهنة يُتعب، ينبغي ألّا ينسى الأسقف أنّه كان كاهنًا! كذلك عدم  قدرة الأسقف على القيادة يعيق استجابة الكهنة لمتطلّبات التّجديد الرّوحيّ والطّقسيّ والرّاعويّ.

الوحدانيّة تُرهق حياة الكاهن، لذلك أشدّد على أهمّيّة إيجاد فرصة للحياة المشتركة بين الكهنة للصّلاة والاقتسام والتّعاضد في جوِّ أخويّ وعائليّ.

الهجرة هي التّحدّي الأكبر لكاهن الرّعيّة، عندما يرى أبناء رعيّته يسافرون الواحد تلو الآخر إلى المجهول وخاصّةً عندما تتّخذ الهجرة شكل نزوح جماعيّ.

هذه التّحدّيات وغيرها على الكهنة أن يناقشوها مع أسقفهم والمجلس الرّاعويّ لإيجاد الحلّ الملائم، خصوصًا أنّ بعض الأبرشيّات تفتقر إلى الإمكانيّات المادّيّة!".