دينيّة
08 تموز 2018, 07:00

رسول يسوع "الهَنيّ"!

غلوريا بو خليل
بعد أن رأينا في أناجيل الآحاد السّابقة من زمن العنصرة حركة يسوع مع تلاميذه من تعليمهم، إلى دعوتهم، إلى إرسالهم، تدعونا الكنيسة اليَوم في إنجيل متّى (12/ 14 - 21) لهذا الأحد الثّامن، إلى التّأمّل بـ"روحانيّة الرّسول" المُرسل إلى حقل الرّبّ". فهي تُرِيد القولَ بأنّ الرّوحانيّات على تنوّعها في المواهب والرّهبانيّات والمؤسّسات في الكنيسة تعود بجذورها وجوهرها إلى روحانيّة هذا النّصّ من الإنجيل المُفترض أن يكون القاعدة والمُنطلق لأيّ رسول، مكرّس أو علمانيّ، اختار أو مدعوّ للعمل في كرم الرّبّ." بهذا الشرح الدّقيق استهلّ رئيس أنطش سيّدة التّلّة - دير القمر وخادمه، الأب جوزف أبي عون الرّاهب المارونيّ المريميّ كلمته لموقع "نورنيوز" ليضعنا أمام مشهديّة روحانيّة الرّسول.

 

واستطرد الأب أبي عون موضحًا "في الآيات السّابقة للنّص الحاليّ، الفرّيسيّون مستاؤون من أداء يسوع وتصرّفه الحرّ مع النّاس بخاصّة منحه الشّفاء يوم السّبت. لا يهمّهم شفاء الإنسان وإنقاذه من ألم الحياة، ما يعنيهم هو تطبيق الشّريعة والتّشدُّد بها حتّى لو على راحة الإنسان وخلاصه، فهم ينظرون بهلع إلى شريعة تُخالِف يوم السّبت من أجل الإنسان ولا يَرَوْن فرح هذا الإنسان وتحرّرَه نتيجة شفائه يوم السّبت. هذا ما دفعهم إلى الخروج، ليس إلى خروج جديد نحو أرض الحرّيّة مع يسوع، بل، وهنا المشكلة المتفاقمة، إلى خروج نحو عبوديّة "التّشاور على يسوع ليهلكوه".

 

وشدّد كاهن رعيّة سيّدة التّلّة - دير القمر على أنّ "هذا الصّراع الوجوديّ بين فكرين متناقضين حتّى الصّميم أدّى إلى ولادة روحانيّة لرسول يسوع، متمايزة في التّفكير والتّعاطي، سيعبّر عنها يومًا مار بولس خير تعبير "الحرف يقتل أمّا الرّوح فيحيي": فكرُ يسوع الباحث بلهفةٍ عن الإنسان، فوق الأمكنة والأيّام، غايته الأخيرة إهداؤه الشّفاء والحرّيّة؛ وفكر الفرّيسيّين المتزمتّ، المغلِق على الإنسان منافذ الشّفاء والحرّيّة، والآسرًا إيّاه في حرفيّة الشّريعة وأحكامها، بحيث لم يعد يرى"الله الذي أحبّنا وخلقنا على صورته ومثاله" إلّا من هذا المنظار." 

وأكمل الأب أبي عون "بعد أن علِمَ يسوع بالأمر، أي بنيّتهم التّشاور ليهلكوه، يقول لنا الإنجيليّ متّى شيئًا جميلاً يتعلّق أيضًا بأهمّ ركائز روحانيّة الرّسول وخصالها: "فانصرف من هناك وتبعه كثيرون فشفاهم جميعًا"؛ فانصرف من هناك… من أجل حرّيّة البشارة وإيصال الكلمة لأوسع عدد من النّاس، ينصرف يسوع عن الفرّيسيّين وجدالاتهم، ويتوجّه إلى مدن أخرى حيث قام بشفائهم جميعًا. الوقت ثمين بالنّسبة ليسوع وهو غير مستعدّ لإضاعته في غير محلّه. لم يتحجّج يسوع بالطّريقة السّيِّئة التّي يتصرّف بها الفرّيسيّون تجاهه ليعتكف عن متابعة رسالته الخلاصيّة وزيارته لسائر النّاس. لم "يتموضع" في مكانِ معيّن منتظرًا مجيء النّاس إليه. بل انصرف عنهم متوجّهًا إلى الكثيرين المتشوّقين لرؤية وجهه وسماع كلامه ونيل الشّفاء منه. 

وأردف كاهن رعيّة سيّدة التّلّة - دير القمر قائلًا: "هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعضًا منّا نحن الكهنة في خدمتنا الرّعويّة، يأخذ القرار بعدم زيارة البيوت بسبب أنّ هذا البيت لم يُفتح لنا، أو ذاك لم يكن استقباله لنا لائقًا، أو الآخر لأنّه ينتمي إلى هذه الفئة الدّينيّة أو تلك، وخصوصًا في زمن الغطاس. روحانيّة الرّسول في هذا الإنجيل، هي روحانيّة أن ننصرف إلى سائر المؤمنين، فلا يجوز أن تشكّل صعوبة ما هنا أو تصرّف ما هناك من بعض النّاس حائلاً دون القيام بواجباتنا الرّسوليّة الرّعويّة. النّاس يفرحون بزياراتنا وينتظرونها بشوق معتبرين أنّ يسوع نفسه هو الذي يزورهم بشخص الكاهن رسوله المختار. لم يقطع يسوع التّواصل المباشر مع النّاس بسبب تصرّف الفرّيسيّين وتعنّتهم، أو يمتنع عن زيارتهم حيثما هم. لو سلّمنا جدلاً بأنّ يسوع، تجنبًا لعنف الفريسيّين وتهجّمهم عليه، ومحافظةً على شخصه وكرامته، سيُحجم عن القيام بزياراته للنّاس وإلقاء الكلمة عليهم، وقام الرّسل بعده بالشيء نفسه، أعتقد، لما كنَّا رأينا الإنجيل ينتشر في كلّ مكان، وكان النّاس سيبقون، كما يقول يسوع، مثل قطيع بدون راعٍ".

وأعقب الأب أبي عون مبيّنًا أنّ "مقياس رسالة يسوع لا يسلّط الضوء على سلبيَّة تعاطي الفرّيسيّين والكتبة تجاه رسالته وأعماله، بل على النّاس الطّيّبين الذين أحبّوه فاستقبلوه بحفاوة في مدنهم وقراهم وساحاتهم وشوارعهم وبيوتهم. من هنا، يدعونا البابا فرنسيس للذّهاب نحو "الأطراف" و"ضواحي" أمكنتنا. ليس من الضّروريّ أن تكون بعيدة جدًّا عنّا، هي قريبة أحيانًا… المهمّ ألّا ننغلق ضمن جدرانيّاتٍ مثاليّة رسمناها لذواتنا وبتنا محدودين فيها، وغاب عن بالنا روحانيّة الرّسول بيسوع  في الانصراف نحو الكثيرين المنتظرين حيثما هم ومنحهم يسوع في سبيل شفائهم من تعرّجات الحياة ومصائبها..."

"في انصراف يسوع عن الفريسيّين نحو النّاس الآخرين المنتظرين، ينطبق ما قاله لتلاميذه بنفسه "كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام" ( متى:١٠/ ١٦)"أضاف الأب أبي عون مؤكّدًا "حُسن التّصرّف في الوقت المناسب". وهنا نتذكّر قوله لتلاميذه عند إرسالهم لحمل البشارة: "إذا اضطهدوكم في هذه المدينة، أهربوا إلى غيرها". وهذا ما حدث مع الرّسل بعد صعود الرّبّ إلى السّماء وانطلاقهم للبشارة. انتقلوا من مدينة إلى مدينة باحثين عن الإنسان ومتفانين في سبيل الكلمة ونشر البشرى السّارّة."

واستشهد متّى في نهاية هذا الإنجيل بنبؤة من سفر آشعيا في العهد القديم تتوافق كلّيًّا مع شخص يسوع وتحتاجها روحانيّة الرّسول في مختلف الأمكنة والأزمانألا وهي العزيمة في تأدية الرّسالة بالهدوء والصّمت. 

 

وختم كاهن رعيّة سيّدة التّلّة - دير القمر بقول جميل معبّر، أعطته إحدى السيّدات في سهرة إنجيليّة عن هذا الـ "فتاي الذي لن يماحك ولن يصيح ولن يسمع أحد صوته في السّاحات واصفة إيّاه "بالهَنيّ"، فروحانيّة رسول يسوع في وجه الصّعوبات تُختصر بـ "الهنيّ" ونتابع المسيرة…