لبنان
08 تشرين الثاني 2024, 07:20

رسالة راعويّة للمطران بو نجم، راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة إلى الكهنة والمؤمنات والمؤمنين

تيلي لوميار/ نورسات
رسالة راعويّة للمطران أنطوان بو نجم، راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة إلى الكهنة والمؤمنات والمؤمنين بمناسبة بداية السنة الطقسيّة 2024-2025 بعنوان "في سرّ التوبة نعود إلى الشّركة مع الله ومع بعضنا البعض" "أقومُ وأمضي إلى أبي..." (لو 15/ 18)

 

مقدّمة:

يُعطينا الربّ يسوع مثَلَ الابن الشاطر الذي قرّر بملء حريّته وإرادته أن يبتعد عن البيت الوالديّ فعاش بؤسًا وذلًّا لم يُمحِهُما إلّا عناقُ أبيه الذي ظلّ منتظرًا بشوقٍ عودة ابنه، كي نُدركَ أنّ ثمنَ الخطيئة، أي الانفصال عن الله، هو الموت كما يقول القدّيس بولس في روما 6/ 23: "أُجْرَةُ الخَطِيئَةِ هِيَ المَوت". والموت ليس بالضرورة أن يكون جسديًّا. لقد مات الابن الشّاطر روحيًّا ونفسيًّا وعلائقيًّا واجتماعيًّا. كم من الخطأة في أيّامنا المعاصرة يموتون الميتةَ نفسها؟

والخطيئة هي أوّلًا ذات طبيعة لاهوتيّة قبل أن تكون أمرًا آخرًا. إنّها رفضُ الله، واستبعاده من حياتنا وهذا الاستبعاد يظهر في عالمنا من خلال اللامبالاة التي نعيش تجاهه، هو الذي يهتمّ بنا ويحبّنا. لا نحصرنّ الخطيئة بأخطاءٍ أخلاقيّة أو أعمالٍ سيّئة، بل لندرك جميعًا أنّها محوُ الله من اهتماماتنا اليوميّة، ورفض الدّخول في شركة المحبّة معه ومع الآخرين.

توبة الابن الشاطر وندامته سببهما الفراغ الذي عاشه والحالة المزرية التي وصل إليها وثقته بأنّ أباه سيستقبله لأنّه يحبّه... هذه التوبة أعادت إليه الحياة والمستقبل. كلُّ توبةٍ تُعيد إلينا الحياة والفرح وتفتح أمامنا باب المستقبل.

قرّرت أن أكتب إليكم هذه الرسالة، أحبّائي، مع مطلع هذه السّنة الطقسيّة، عن موضوع التوبة لأنّي أعرف أنّ لدى الكثيرين منكم شعورٌ بانعدام الفرح وضياع المستقبل ويباس الحياة ولكنّي أعرف أيضًا أنّ فرحنا يكتمل عندما نعيش بصحبة المسيح، عندما نعود اليه كلّ مرّةٍ تجرفنا الخطيئة نحو مسالك مُهلِكة.

 

1.    تحديد وتصويب بعض التعابير

أودّ أوّلًا أن أُصوّب معاني بعض التعابير التي نستعمل في اللاهوت عن موضوع سرّ التوبة ومفاهيمَها، وهي كثيرة نظرًا إلى أنّ الربّ من خلال هذا السرّ يُظهر لنا محبّته العظمى وغفرانه اللامتناهي بطرقٍ مختلفة:

•    النّدم": لتوضيح هذا المفهوم الروحيّ أقتطف ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظة قدّاس الميرون المقدّس يوم خميس الأسرار (28 آذار 2024): "الندم ليس شعورًا بالذّنب يلقي بنا أرضًا، ولا هو وسواس الخطيئة الذي يَشُلّنا، بل هو نَخزَة مفيدة في الدّاخل تحرق وتشفي، لأنّ قلبنا عندما يرى الشّرّ الذي اقترفه ويعترف بأنّه خاطئ، فإنّه ينفتح، ويقبل عمل الرّوح القدس، والماء الحيّ الذي يحرّكه، فيجعل الدّموع تنهمر على وجهه... إنّ الذي يزيل القناع عن وجهه ويترك نظرة الله تخترق قلبه، ينال عطيّة هذه الدّموع، وهي أقدس مياه بعد مياه المعموديّة".

•     "التوبة": تشير إلى الإرادة الثّابتة في التغيير وإصلاح المسيرة والارتداد نحو الله. إنّها اللحظة الحاسمة في مسيرة التحرّر الروحيّ.

•     "الاعتراف": هو أن نعلن أمام الكاهن ممثّل المسيح، بعد فحص الضمير، بصدقٍ ومن دون خوف، الخطايا والآثام التي اقترفنا راجين نوال المغفرة والخلاص.

•     "المصالحة": تعبير جميل يُشير إلى وجود شخصَين. الشخص الأوّل هو الله وهو مَن يرغب أن يصالحنا ويمنح الشّخص الثاني، أي الإنسان الذي يقبل مغفرته، القوّةَ للتصالح معه ومع كنيسته، ومع إخوته وأخواته وحتّى مع الطّبيعة.

•       "المغفرة": تذكّرنا أنّ الله، من خلال ابنه المصلوب والقائم من الموت، ومن خلال وساطة الكنيسة والكاهن، هو الذي يغفر مجّانًا، من دون أي شرطٍ، ويعطي القوّة "لكي نغفر بدورنا لمن أساء إلينا".  

إن سرّ التّوبة هو "سرّ الخلاص المجّانيّ". فليس هو مكافأة بل هبة مجّانيّة لا تُقاس باستحقاقنا (روم 5/8).

هو "سرّ السلام" لأنّه يهبنا السّلام الداخليّ بحيث نشعر بأنّ حِمْل الخطيئة زال عن نفوسنا، وعاد الأمان إلينا واستقرّت الطمأنينة في علاقاتنا مع الآخرين. هو أيضًا سرُّ الشّفاء كما يقول البابا فرنسيس لأنْ "عندما أذهب لكي أعترف، إنّما أذهب لكي أنال الشّفاء، الشّفاء الرّوحيّ، ولكي أخرج بمزيدٍ من الصّحّة الرّوحيّة وأنتقل من البؤس إلى الرّحمة" (نيّة شهر آذار 2021).

 

2.    رحمة الله أكبر من خطيئتنا

 

لقد خلقنا الله أحرارًا وزوّدنا بالخيرات كلّها التي نحتاج إليها لنعيش حياة سعيدة، في شركة معه ومع الآخرين. وعلى الرغم من عصياننا المتكرّر، وعلى الرغم من رفضنا له وإنكاره أحيانًا في بعض مواقف حياتنا الصعبة، إلّا أنّه يظلُّ منفتحًا على أبنائه كما فعل الأب في مثل الابن الشّاطر وهو مستعدٌّ لإنقاذنا من ضياعنا وغربتنا لأنّه "لا يريد موت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا" (حز 18/ 32).

 

غير أنّ الكثيرين منّا اليوم فقدوا حِسَّ الخطيئة وأدّى ذلك بهم إلى فقدان الحاجة إلى الخلاص، وبالتالي إلى نسيان الله باللامبالاة كما ذكرنا سابقًا. أمّا الله فيبقى ثابتًا على رحمته بل إنه الرّحمة بحدّ ذاتها وطبيعته لا تتغيّر. هو الإنسان الذي، وبسبب ثقل خطيئته، يجد صعوبة في قبول رحمة الله وهذا الموقف يشكّل عائقًا أمام التّغيير الحقيقيّ والتوبة. الله يغفر دومًا لكلّ من يعود إليه، لكنْ، قبل طلب رحمة الآب، نحن مدعوّون إلى أن نعِيَ خطيئتنا ونقرّ بها: هل ندرك فعلًا أنّنا نخطأ تجاه الله وتجاه القريب؟

 

تشكّل الأزمات المتتالية والحرب المشؤومة التي نعيش فرصةً لنا للقيام بفحص ضميرٍ جدّي - وهذا مطلوبٌ منّا يوميًّا - يقودنا إلى القرار الصحيح أي الاعتراف بخطايانا والتوجّه سريعًا نحو الآب السماويّ بروح الندامة وطلب المغفرة منه. هو بالتأكيد سيغفر لنا، لأنّ محبّته ورحمته أعظم من كلّ خطايانا وقد قال لنا بلسان النبي أشعيا: "لو كانَت خَطاياكم كالقِرمِزِ تَبيَضُّ كالثلْج ولو كانَت حَمْراءَ كالأُرجُوان تَصيرُ كالصُّوف" (آش 1/ 18). مغفرة الخطايا هي أوّلًا عطيّة وهبة منه كما يقول القدّيس بولس: "خَلَّصَنَا، لا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا، بَلْ وَفْقَ رَحْمَتِهِ، بِغَسْلِ المِيلادِ الثَّاني، وتَجْدِيدِ الرُّوحِ القُدُس" (طي 3/ 5). هذه الهبة تلتقي مع الجهد الشخصيّ المطلوب منّا جميعًا، أن نقوم به للارتداد عن الأعمال السيّئة، على أن نحرص أن "نأخذ زيتًا في آنيتنا"، غير متّكلين على مَن يُعطينا من زيته وأعماله وإيمانه ساعة لقاء العريس!

 

لقد انتصر يسوع على الشرِّ والخطيئة من على الصليب وانتصاره هذا هو تعبير عن رحمة الله تجاهنا، حيث صرخ لأبيه: "إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو 23/ 34). إنتصاره تجسيد لحقيقة أنّ "المحبّة أقوى من الخطيئة". ورحمة المسيح نفسها زرعها الله فينا نهجًا يملك على قلوبِنا ويوجّه مشاعرنا وتصرّفاتنا أمام ضعف الإنسان وشروده عن الله. لذلك نحن مدعوّون إلى أن نرحمَ كما رُحمنا. فبالرحمة والغفران المتبادل يتحقّق السّلام ويعمّ السّكونُ القلوبَ والنفوس. لا نكوننّ مثل الأخ الأكبر في مثل الابن الشّاطر! إنّ انتماءنا إلى الكنيسة يجعل كلًّا منّا "سفير" المصالحة (2 قور 5/ 20) كما يجعل منّا جميعًا "شعب المصالحة" مسؤولين عن الشهادة للعالم أنّ المغفرة ممكنة، ملتزمين برسالة إعلان هذه البشرى السّارّة عن رحمة الله المحقّقة في يسوع المسيح، بالأقوال والأفعال.

 

3.    لنأتِ إلى كرسي الحبّ، إلى كرسي الاعتراف:

 

من علامات التّوبة الحقيقيّة الذهاب إلى كرسيّ الاعتراف. إلى إخوتي وأخواتي أبناء الأبرشيّة وبناتها، أشجّعكم على أن تأتوا إلى كرسيّ الاعتراف كي تتذوّقوا محبّة الله اللامتناهية. هذا الكرسيّ هو الباب الحقيقيّ للعودة من جديد والدخول في الكنيسة "الجماعة". أدخلوا من هذا الباب في السّنة اليوبيليّة. إنّه الباب المقدّس الأساسيّ لخلاص نفوسكم. عندما نخطأ نمسي خارج الجماعة وفي سرّ التوبة يعود الكاهن فيفتح لنا، باسم يسوع، الباب إلى الأخوّة.

يمكنكم أن تفحصوا ضميركم مباشرةً أمام الربّ وهو يعرف نوايا قلوبكم الحقيقيّة طبعًا، غير أنّ الاعتراف عند الكاهن يشكّل وسيلةً لوضع حياتكم بين يدَي شخصٍ آخر وفي قلبه يتصرّف باسم يسوع وينقل لكم حبَّه، فالكاهن يتمتّع بسلطانِ الربط والحلّ من الربّ، بارتباطه المباشر بالرّسل من خلال سرّ الكهنوت الذي نال من قبل الكنيسة التي كان بطرسُ صخرتَها، وأعطى يسوعُ هذا السلطانَ لرسله قائلًا: «الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء» (متّى18/18). أمام الكاهن تصبحون حقيقيّين تواجهون واقعكم من خلال النظر إلى شخصٍ آخر، وليس إلى شخص ذاتكم منعكسٍ في المرآة.

لا تيأسوا من طلب المغفرة من الرّبّ قائلين في نفوسكم: "هل لا يزال يسامحني ويغفر لي؟". نعم، سيغفر لكم بالتأكيد ! جميل هذا الشعور بالتواضع عندما نخطأ، فالتواضع هو نعمة يجب أن نطلبها من الربّ لأنّه وسيلة جيّدة وإيجابيّة تجعلنا نشبه يسوع الوديع والمتواضع القلب.

 

وإلى إخوتي الكهنة أقول لكم أن تأتوا أنتم أيضًا إلى كرسي الاعتراف من جِهتَيها: ركوعًا في الأمام قبل الجلوس خلفها. إن لم تتذوّقوا رحمة الربّ لكم في وسط آثامكم فلن تعرفوا أن تنقلوا فرح الغفران إلى التّائبين الذين يأتون إليكم ساجدين، نادمين... في كرسي الاعتراف، نحن، الكهنة، لسنا قضاة ولا جلّادين، إنّما نحن ناقلو حنان الله. في كرسي الاعتراف نحن نمثّل الله الحنّان ولكنّنا أيضًا نمثّل الجماعة المستعدّة لقبول التائبين والفَرِحة لعودة البعيدين.  

 

4.    خاتمة

أحبّائي،

تعيش الكنيسة منذ 2021 مسيرة سينودسيّة تفكّر في خلالها في دعوتها الرساليّة: كنيسة الألفيّة الثالثة هي سينودسيّة في هويّتها وطبيعتها ونظامها. هذا النفَسُ السينودسيّ يتطلّب منّا توبة صادقة وحقيقيّة على صعيد الأشخاص كما على صعيد المؤسّسات. نحن مدعوّون إلى أن ندخل في ديناميكيّة فصحيّة بحيث نموت عن ال"أنا" كي نقوم إلى ال"نحن". وهذا ما يدفعنا إلى العودة إلى الصلاة الأولى والأعمق التي علّمها يسوع لتلاميذه "إغفر لنا كما نحن نغفر" والالتزام بها طريقًا نمشيه معًا من أجل شهادةٍ حيّة لمحبّة المسيح وفرحه في عالم يتخبّط في الحقد ويسوده الحزن.

 

تعالوا في هذه السنة اليوبيليّة إلى الغفران المتبادل سبيلنا الوحيد إلى السّلام والطمأنينة والفرح فنصبح حجّاجًا للرجاء في بيوتنا ورعايانا ومؤسّساتنا ووطننا.