الفاتيكان
12 أيلول 2019, 12:30

رسالة بابويّة من أجل إطلاق "الاتّفاقيّة التّربويّة"

صدرت ظهر اليوم رسالة البابا فرنسيس من أجل إطلاق "الاتّفاقيّة التّربويّة"، كتب فيها نقلاً عن موقع "فاتيكان نيوز":

 

"لقد دعوت الجميع في الرّسالة العامّة كن مسبَّحًا، للتّضامن من أجل حماية بيتنا المشترك ومواجهة التّحدّيات الّتي تسائلنا. وبعد بضع سنوات، أُجدّد دعوتي للحوار حول الطّريقة الّتي من خلالها نعمل على بناء مستقبل كوكب الأرض وحول ضرورة استثمار طاقات الجميع لأنّ التّغيير يحتاج إلى مسار تربويّ من أجل إنضاج تضامن عالميّ ومجتمع أكثر استقبالاً.

لذلك أرغب في دعم حدث عالميّ في الرّابع عشر من أياّر 2020 سيحمل عنوان "إعادة بناء الاتّفاقيّة التّربويّة العالميّة": لقاء من أجل إعادة إحياء الالتزام من أجل الأجيال الشّابّة ومعها، من خلال تجديد التّوق إلى تربية أكثر انفتاحًا وإدماجًا، قادرة على الإصغاء الصّبور، والحوار البنَّاء والتّفاهم المتبادل. نحن بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى لكي نوحّد قوانا في عهد تربويّ واسع النّطاق من أجل تنشئة أشخاص ناضجين، وقادرين على تخطّي الانقسامات والتّشرذمات وإعادة نسج العلاقات من أجل إنسانيّة أكثر أُخوَّة.

إنّ العالم المعاصر هو في تحوّل مستمرّ وتجتازه أزمات عديدة. نعيش تغييرًا تاريخيًّا: تحوّلٌ، لا ثقافيّ وحسب، بل انتروبولوجيّ أيضًا يخلق لغات جديدة ويهمّش، بدون تمييز، النّماذج الّتي سلّمها التّاريخ لنا. وبالتّالي تصطدم التّربية بما يسمّيه البعض في اللّغة الإسبانيّة “rapidación”  أيّ "التّراكم التّسارعيّ" الّذي يأسر الحياة في دوّامة السّرعة التّكنولوجيّة والرّقميّة ويغيّر المراجع باستمرار. وفي هذا الإطار تفقد الهويّة كيانها، وتتفكّك التّركيبة النّفسيّة إزاء تحوّل دائم يتناقض "مع البطء الطّبيعيّ للتّطوّر البيولوجيّ" (الرّسالة العامّة كن مسبَّحًا،١٨).

لكن كلّ تغيير يحتاج إلى مسيرة تربويّة تُشرِك الجميع. لذلك نحن بحاجة إلى بناء "قرية للتّربية" حيث، ومن خلال الاختلاف، يتقاسم الجميع الالتزام في خلق شبكة علاقات إنسانيّة ومنفتحة. يقول مثل إفريقيّ "نحن بحاجة إلى قرية كاملة من أجل تربية طفل واحد"، ولكن علينا أن نبني هذه القرية كشرط للتّربية. وبالتّالي علينا أوّلاً أن ننزع من الأساس كلّ تمييز عنصريّ من خلال إدخال الأُخوَّة كما أكّدتُ في "وثيقة الأُخوَّة الإنسانيّة" الّتي وقعتها مع فضيلة شيخ الأزهر في أبو ظبي في الرّابع من شباط المنصرم.

في قرية كهذه يصبح أكثر سهولة إيجاد تقارب شامل من أجل تربية باستطاعتها أن تحقّق عهدًا بين جميع مكوّنات الإنسان: بين الدّرس والحياة؛ بين الأجيال؛ بين الأساتذة والتّلاميذ؛ بين العائلات والمجتمع المدنيّ من خلال تعبيره الفكريّ، والعلميّ، والفنّيّ، والرّياضيّ، والسّياسيّ، والمهنيّ والتّعاضديّ. عهد بين سكّان الأرض و"البيت المشترك" الّذي علينا أن نعتني به ونحترمه؛ عهد يولّد السّلام، والعدالة، والضّيافة بين جميع شعوب العائلة البشريّة بالإضافة إلى الحوار بين الأديان.

من أجل تحقيق هذه الأهداف الشّاملة، يجب على مسيرة "قرية التّربية" أن تقوم بخطوات مهمّة. عليها أن تتحلّى أوّلاً بالشّجاعة لوضع الإنسان في المحور. لذلك يجب توقيع اتّفاقيّة لكي نعطي روحًا لعمليّات تربويّة رسميّة وغير رسميّة، لا يمكنها أن تتجاهل أنّ كلّ شيء في العالم مرتبط بشكل وثيق وأنّه من الضّروريّ أن نجد– وفقًا لأنتروبولوجيا سليمة– أساليب أخرى لفهم الاقتصاد، والسّياسة، والنّموّ والتّقدُّم، في مسيرة إيكولوجيّة متكاملة تُوضع فيها في المحور قيمة كلّ كائن، بالنّسبة للأشخاص والواقع الّذي يحيط به، ويُقتَرح فيها نمط حياة يرفض ثقافة التّهميش.

الخطوة الثّانية هي الشّجاعة في استثمار أفضل الطّاقات بطريقة خلّاقة وبمسؤوليّة. فالعمل الافتراضيّ والواثق يفتح التّربية على قدرة إطلاق مشاريع طويلة الأمد، لا تغرق في دائرة الأوضاع الرّاكدة. فيصبح لدينا هكذا أشخاصًا منفتحين، ومسؤولين، ومستعدّين لإيجاد وقت للإصغاء والحوار والتّفكير، وقادرين على بناء نسيج علاقات مع العائلات، وبين الأجيال ومع مختلف أوجه المجتمع المدنيّ، فتتكوّن هكذا إنسانيّة جديدة.

الخطوة الثّالثة هي الشّجاعة في تنشئة أشخاص مستعدّين لوضع أنفسهم في خدمة الجماعة. الخدمة هي ركيزة ثقافة الحوار: "هذا يعني أن ننحني على المحتاج ونمدّ له يد المساعدة بدون حسابات، وبدون خوف، بحنان وتفهُّم، على مثال يسوع الّذي انحنى ليغسل أرجل تلاميذه. لأنّ الخدمة تعني أن نعمل إلى جانب الأشدّ عوزًا، ونقيم معهم أوّلاً علاقات إنسانيّة، وعلاقات قرب وروابط تضامن". وبالتّالي نختبر من خلال الخدمة أنّ السّعادة في العطاء هي أعظم منها في الأخذ. وفي هذا المنظار، على كلّ المؤسّسات أن تتساءل عن أهدافها وعن الطُّرق الّتي من خلاها تحقّق رسالتها المنشِّئة.

ولذا، أودّ أن ألتقي بكم جميعًا في روما، أنتم الّذين، كلٌّ بحسب دوره، تعملون في حقل التّربية على كافّة الأصعدة التّعليميّة أو في حقل الأبحاث. أدعوكم كي تعزّزوا وتُفعِّلوا، من خلال اتّفاقيّة تربويّة مشتركة، تلك الأنشطة الّتي تعطي معنًى للتّاريخ وتحوّله بطريقة إيجابيّة. ومعكم أدعو أيضًا شخصيّات عامّة تحتلّ، على الصّعيد العالميّ، مراكز مسؤوليّة وتحمل في قلبها همّ مستقبل الأجيال الصّاعدة. أنا واثق بأنّهم سوف يقبلون دعوتي. أدعوكم أنتم أيضًا أيّها الشّباب لكي تشاركوا في هذا اللّقاء وتشعروا بكامل المسؤوليّة في بناء عالم أفضل. سيكون موعدنا في روما في الرّابع عشر من أيّار عام 2020، في قاعة البابا بولس السّادس في الفاتيكان. سوف تُعقد عدّة ندوات مواضيعيّة، في عدّة مؤسّسات، تحضيرًا لهذا الحدث.

لنحاول معًا أن نجد حلولًا، وأن نطلق عمليّات تحوّل بدون خوف، ونتطلّع نحو المستقبل برجاء. أدعو كلّاً منكم لأن يكون رائدًا في هذه الاتّفاقيّة، آخذًا على عاتقه التزامًا شخصيًّا وجماعيًّا لكي نوطِّد، معًا، حلمنا بإنسانيّة متضامنة تجيب على تطلّعات الإنسان ومخطط الله. أنتظركم ومنذ الآن أحيّيكم وأُبارككم".