مصر
17 نيسان 2023, 10:20

رسالة البطريرك إبراهيم إسحق لمناسبة عيد القيامة

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه بطريرك الإسكندريّة للأقباط الكاثوليك إبراهيم إسحق رسالة لمناسبة عيد القيامة، إلى المطارنة والأساقفة والقمامصة والقسوس، والرّهبان والرّاهبات والشّمامسة، وإلى أبناء الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر وبلاد المهجر، جاء فيها بحسب "المتحدّث الرّسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة بمصر":

"السّلام والنّعمة والبركة في المسيح القائم من الأموات

أرجو أن يحمل لكم هذا العيد ولعائلاتكم كلّ بركة روحيّة وفرحة سماويّة وقيامة حقيقيّة.

يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل كنيسة أفسس:

"بالأمس كنتم ظلمة، أمّا اليوم فأنتم نور في الرّبّ فسيروا سيرة أبناء النّور فإنّ ثمر النّور يكون في كلّ صلاح وبرّ وحقّ." (أف 5: 8 – 9).

أوّلاً: "بالأمس كنتم ظلمة، واليوم فأنتم نور في الرّبّ "

نحتفل بعيد القيامة وسط أحداث يوميّة، عالميّة ومحلّيّة ومخاوف كثيرة منتشرة ومخاطر بيئيّة، وسط حروب مشتعلة وأوضاع اقتصاديّة قاسية ومؤلمة، كلّها تجسّد غياب النّور وثماره. فكم من الضّمائر المظلمة الّتي تجعل الشّرّ خيرًا والخير شرًّا، والظّلام نورًا والنّور ظلامًا (أش 5: 25). فلا نستطيع التّمييز. إنّ العالم في ظلمة متعدّدة الأشكال، فقد فيه الكثيرون بيوتهم وسلامهم، وآخرون يتنفّسون القلق والاضطراب والخوف وعدم الأمان. عقول وضمائر ملتحفة بالظّلمة رداءً، صارت منتجة للإثم ولمستقبل مظلم. أحداث شبيهة بأيّام المسيح: فحُكم عليه ظلمًا، بلا عدالة وسط توتّرات سياسيّة ودينيّة وضاع الحقّ والنّور. ومن كثرة الإثم  

تبرد المحبّة وتزداد الكراهيّة وأعمال الظّلمة.

ما معنى النّور؟ وما معنى الظّلمة؟  

يحتلّ موضوع النّور مكانة متألّقة في الكتاب المقدّس بعهديه. ففي النّور نستطيع أن نرى الأشياء بوضوح، أمّا في الظّلام فلا نرى شيئًا. في النّور نسير في أمان واطمئنان، أمّا في الظّلام فنخاف ونعثر.

أوّل عمل قام به الخالق هو الفصل بين النّور والظلام (تك ١:٣-٤). خلق النّور في اليوم الأوّل وخلق الشّمس والقمر في اليوم الرّابع، وهذا دليل على أن الله هو مصدر النّور وليس الشّمس والقمر.  

الله نور وليس فيه ظلمة البتّة (١ يو ٥:١). وبما أنّ الله نور فوصاياه نور وكلامه نور. يرمز النّور أيضًا في الكتاب المقدّس إلى أمرين، جانب الفكر ويشير إلى الحقّ ومعرفة الله، وجانب الحياة والأخلاق ويشير إلى القداسة. لذلك نحن مدعوّون إلى أن نقبل الحقّ ونعيش حياة مقدّسة تليق وترضي الله.

وعلى النّقيض من ذلك فالظّلمة هي غياب النّور، فالنّور هو المعرفة والظّلمة هي العمى الّذي يمنع المعرفة ويسبّب عدم القدرة على رؤية بشارة الإنجيل. والفكر المظلم يشير إلى الجهل وعدم معرفة الله، وهذا يؤدّي إلى الظّلمة الأخلاقيّة الّتي هي الشّرّ والإثم.

أظهر السّيّد المسيح من خلال حياته وأعماله وكلامه المنير أنّه نور العالم، وأعلن قائلاً "أنا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظّلام بل يكون له نور الحياة" (يو 12:8). ولكنّه أيضًا قال لأتباعه "أنتم نور العالم"، فما الفرق إذن؟  

الفرق يظهر كما في مثال الشّمس والقمر. نور الشّمس نورٌ بذاتها، أمّا القمر فهو كوكب مظلم، ولكنّه يكتسب نوره من انعكاس نور الشّمس عليه. هكذا السّيّد المسيح هو "النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم". أمّا نحن فنصير نورًا بقدر ما نستمدّ من نوره البهيّ أيّ "بنوره نعاين النّور". وبما أنّ المسيح نور، فعلى المسيحيّين أيضًا أن يكونوا أبناء النّور ويسلكوا كذلك.

ثانيًا: "فسيروا سيرة أبناء النّور، لأنّ ثمر الرّوح هو في كلّ صلاح وبرّ وحقّ" (أف 5 :8-9) تقدّم لنا رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس نموذج الحياة المسيحيّة. ومَن هو المؤمن الحقيقيّ، وكيف يحيا في العالم، وكيف يسلك ويتصرّف كخليقة جديدة؟ ويمكن أن نلخّص ذلك في عبارتين:  

الأولى "اسلكوا كما يحقّ أو بما يتّفق" أيّ لتكن حياتكم موافقة لهويّتكم. فإن كنتم خليقة جديدة في المسيح اسلكوا بتلك الطّريقة.

والثّانية "كونوا متمثّلين بالله" أو اقتدوا به. يؤكّد ذلك أيضًا القدّيس بطرس في رسالته الأولى: "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الّذي شملنا بوافر رحمته وولدنا ثانيةً لرجاء حيّ بقيامة المسيح من بين الأموات." (ابط 1: 6).

والولادة تمنحنا صفات مَن خرجنا منه، وننالها في سرّ المعموديّة الّذي يسمّى أيضًا سرّ الاستنارة. وبالتّالي فنور القائم من بين الأموات ليس مجرّد إشراق، بل هو نورٌ يملأ کیان من يتّحد به، لذلك أصبحنا نورًا بعد أن كنّا ظلمةً. يؤكّد ذلك السّيّد المسيح ويحملنا المسؤوليّة بقوله لنا "أنتم نور العالم". فعلينا أن نجسّد نور القائم من بين الأموات لكلّ إنسان نلتقي به في واقع حياتنا اليوميّة، وسط ما يكتنف العالم من ظلمة وتحت أيّ ظروف. وذلك بأن نسلك سيرة أبناء النّور. فأبناء النّور يرَون كلّ شيء بعين الله ويسلكون في نهار روحيّ.

في الخلق قال الله "ليكن نور" ليريَنا مجدَه ونتمتّع بأعماله المنظورة. وفي قيامة المسيح وهبنا نورًا جديدًا وهو أن نصير خليقة جديدة ونتمتّع بمجده غير المنظور الّذي هو مجد القيامة فينا.  

ليسأل كلّ منّا نفسه أين أنا من المسيح؟ أين أنا من نوره؟ من حياته وتعاليمه المنيرة؟ إنّ المسيحيّ شخص يسلك في النّور، ولديه رغبة وخطّة هي أن يتمثّل بالمسيح الحيّ الّذي أحبّنا وبذل نفسه من أجلنا وهدم شوكة الخطيئة. ليست الحياة الجديدة عمليّة سحريّة ينالها المؤمن، بل عليه أن يشترك في موت وقيامة المسيح. ولكي يصبح إنسانًا جديدًا، عليه أن يخلع الإنسان العتيق بأعماله وشهواته وكبريائه، ويتجدّد بالرّوح القدس في ذهنه وعقله، فيلبس الإنسان الجديد على صورة المسيح في العدل والقداسة الّتي تثمر كلّ ما هو حقّ وبرّ وصلاح.

"ليرَوا أعمالكم الصّالحة فيمجّدوا أباكم الّذي في السّماوات" (متّى ٥: ١٤-١٦). والكتاب المقدّس مملوء بالمفاهيم الرّوحيّة والتّوجيهات العمليّة، ثمار هذه المسيرة.  

على سبيل المثال: التّحرّر من كلّ ما هو كذب وزيف ومن ظلمة الضّمائر، والتّحلّي بالعدل والاحترام والرّحمة تجاه الآخرين والإحساس بأتعابهم ومساعدتهم على أن يعيشوا بضمير حيّ مستنير. بإختصار السّيّر في المحبّة الّتي هي مقياس الكمال.  

في صلاة باكر نتذكّر النّور الحقيقيّ، نور القيامة الّذي أشرق في قلوبنا ونطلب من الله أن يخلق فينا الحواس المضيئة والأفكار النّورانيّة. ليُنِرَ الرّبّ قلوبنا وحياتنا بنور معرفته الحقيقيّة ويكمّل كلّ نقص فينا بنعمته حتّى نسمع صوته وفكره من خلال روحه القدّوس، فنكون نورًا بعضنا لبعض.

الخاتمة:

نرفع صلاتنا هذا المساء متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس، وسائر البطاركة والأساقفة وكلّ المؤمنين في مصر وكلّ بلاد العالم، شاكرين الله من أجل كلّ إنسان يجاهد ليعيش في النّور ويكون سببًا في استنارة الآخرين، في عائلاتنا وفي مجتمعنا وفي العالم أجمع.

نصلّي ونشكر من أجل كلّ إنسان يسير بضمير حيّ لرفعة الإنسان وارتقائه في كلّ مكان، بالرّغم ممّا يعانيه من صراع وعقبات وما يدفعه من ثمن غالٍ ليعيش في النّور ويسلك بضمير حيّ.

تهنئة قلبيّة خالصة لإخوتنا في الوطن، في شهر رمضان، شهر الصّوم، طالبين لهم من الله مواصلة صومًا مقبولًا وقريبًا عيد فطر سعيد على الجميع.

نصلّي من أجل وطننا الحبيب مصر، من أجل سيادة رئيس الجمهوريّة عبد الفتّاح السّيسي وكلّ المعاونين له في خدمة الوطن بأمانة وإخلاص، من أجل كرامة وسعادة كلّ المصريّين.

نلتمس شفاعة أمّنا العذراء مريم، الشّاهدة الأمينة لقيامة المسيح لكي يسكب الله رحمته ونعمته على كلّ البشريّة ويمنح العالم نوره، فننشر كلّ ما ينير الإنسان ويقدّسه كلّ إنسان وكلّ الإنسان.

المسيح قام ... حقًّا قام!

كلّ عام وحضراتكم بخير."

وكان إسحق قد ترأّس قدّاس العيد في كاتدرائيّة السّيّدة العذراء في مدينة نصر، بمشاركة لفيف من أحبار كنيسته.