الفاتيكان
11 تشرين الثاني 2022, 12:15

رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ السّادس للفقراء

تيلي لوميار/ نورسات
يُحتفل الأحد باليوم العالميّ السّادس للفقراء، وللمناسبة نعيد نشر رسالة البابا فرنسيس الّتي أصدرها تحت عنوان: "يسوع المسيح افتَقَرَ لأَجْلِكُم"، وكتب فيها:

 ""يسوع المسيح […] افتَقَرَ لأَجْلِكُم" (راجع ٢ قورنتس ٨، ٩). بهذه الكلمات خاطب الرّسول بولس المسيحيّين الأوائل في قورنتس، ليضع أساسًا لالتزامهم بالتّضامن مع الإخوة المحتاجين. وبالتّالي يعود اليوم العالميّ للفقراء مرّة أخرى هذه السّنة كتحريض سليم لكي يساعدنا على التّأمّل حول نمط حياتنا وأشكال الفقر العديدة في الزّمن الحاضر. قبل بضعة أشهر، كان العالم يخرج من عاصفة الجائحة، مُظهرًا علامات التّعافي الاقتصاديّ الّذي كان من المفروض أن يعيد الانتعاش إلى ملايين الأشخاص الّذين أفقرهم فقدان عملهم. وإنفتحت نافذة من الهدوء والصّفاء، وعدت دون أن تنسينا ألم فقدان الأحبّاء، بالقدرة أخيرًا على العودة إلى العلاقات الشّخصيّة المباشرة، واللّقاء مجدّدًا دون قيود أو تقييدات. وهنا ظهرت كارثة جديدة في الأفق، فرضت مشهدًا آخر على العالم. جاءت الحرب في أوكرانيا لتضاف إلى الحروب الإقليميّة الّتي حصدت الموت والدّمار خلال السّنوات الأخيرة. لكن الصّورة هنا تبدو أكثر تعقيدًا بسبب التّدّخل المباشر لـ"قوّة عظيمة"، تنوي فرض إرادتها ضدّ مبدأ حقّ تقرير مصير الشّعوب. فتكرّرت مشاهد ذكريات مأساويّة، ومرّة أخرى غطّت التّهديدات المتبادلة لبعض المقتدرين صوت البشريّة الّتي تطلب السّلام.

كم من الفقراء تخلِّفُ حماقة الحرب! وأينما نظرنا، يمكننا أن نرى كيف يؤثّر العنف على الأشخاص العزّل والأكثر ضعفًا. إجلاء آلاف الأشخاص عن بلادهم، ولاسيّما الأطفال، لاستئصالهم وفرض هويّة أخرى عليهم. وبالتّالي تصبح آنيّة كلمات صاحب المزامير أمام دمار أورشليم وسبي الشّباب العبرانيّين: "على أَنهارِ بابِلَ هُناكَ جَلَسْنا فبَكَينا عِندَما صِهْيونَ تَذَكَّرْنا على الصَّفْصافِ في وَسَطِها عَلَّقْنا كِنَّاراتِنا. هُناكَ سأَلَنا الَّذينَ أَسَرونا نَشيدًا والَّذينَ عَذَّبونا طَرَبًا: [...] كَيفَ نُنشِدُ نشيدَ الرَّبّ ونَحنُ في أَرضِ الغُربَة؟". يجد ملايين النّساء والأطفال والمسنّين أنفسهم مجبرين على تحدِّي خطر القنابل لكي ينقذوا ذواتهم من خلال البحث عن ملاذ كلاجئين في البلدان المجاورة. أمّا الّذين يبقون في مناطق النّزاع فيعيشون يوميًّا مع الخوف ونقص الطّعام والماء والرّعاية الطّبّيّة ولاسيّما مع غياب المودّة والمشاعر. في هذه المواقف الصّعبة، يُظلم العقل، والّذين يعانون من العواقب هم العديد من الأشخاص العاديّين، الّذين يضافون إلى العدد المرتفع للفقراء. كيف نقدّم جوابًا مناسبًا يحمل التّعزية والسّلام للعديد من النّاس، الّذين تُركوا رَهنَ ظروف غير ثابتة وغير مستقرّة؟

في هذا السّياق المليء بالتّناقضات، يأتي اليوم العالميّ السّادس للفقراء، مع الدّعوة- المأخوذة من القدّيس بولس الرّسول- لكي نحدق نظرنا إلى يسوع، الّذي "افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه". خلال زيارته إلى أورشليم، التقى بولس ببطرس ويعقوب ويوحنّا الّذين طلبوا منه ألّا ينسى الفقراء. في الواقع، كانت جماعة أورشليم تعيش في صعوبة شديدة بسبب المجاعة الّتي عصفت بالبلاد. فاهتمَّ بولس الرّسول على الفور بتنظيم حملة جمع تبرّعات كبيرة لصالح هؤلاء الفقراء. وأظهر مؤمنو قورنتس تعاطفهم وجهوزيّتهم. بتوجيه من بولس، كانوا يجمعون كلّ أوّل يوم في الأسبوع ما تمكّنوا من توفيره، وكانوا جميعًا أسخياء جدًّا. ويبدو أنّ الوقت لم يمرّ منذ تلك اللّحظة، فنحن اليوم أيضًا، كلّ أحد، خلال الاحتفال بالإفخارستيّا المقدّسة، نقوم بالتّصرُّف عينه، ونشارك تقدمتنا لكي تتمكّن الجماعة من تلبية احتياجات الأشخاص الأشدَّ فقرًا. إنّها علامة على أنّ المسيحيّين قد أتمّوا رسالتهم دائمًا بفرح وحسِّ مسؤوليّة، لكي لا ينقص أبدًا ما هو ضروريّ لأيّ أخ أو أخت. وقد شهد على ذلك القدّيس يوستينوس، الّذي وصف للإمبراطور أنطونينوس بيوس، في القرن الثّاني، احتفال المسيحيّين يوم الأحد؛ وكتب: "في اليوم الّذي يُدعى "يوم الشّمس"، نجتمع جميعًا معًا، سكّان المدن أو من الرّيف ونقرأ مذكّرات الرّسل أو كتابات الأنبياء بقدر ما يسمح الوقت بذلك. […] ويتمّ بعد ذلك تقسيم وتوزيع العناصر المكرّسة على الجميع، ويتمّ إرسالها مع الشّمامسة إلى الغائبين. فيعطي الأغنياء والّذين يرغبون في ذلك بحرّيّة، كلّ واحد ما يريده، وما يتمّ جمعه يودع لدى الكاهن. وهو يساعد الأيتام والأرامل، ومن أفقره المرض أو سبب آخر، والسّجناء والغرباء المقيمين عندنا: بإختصار، يتمّ الاعتناء بكلّ محتاج.

بالعودة إلى جماعة قورنتس، بعد الحماس الأوّل بدأ التزامهم يقلّ وفقدت المبادرة الّتي اقترحها بولس الرّسول اندفاعها. وهذا السّبب دفع بولس إلى أن يكتب بحماسة، لكي يعيد إطلاق حملة جمع التّبرّعات، "لِيَكونَ الإِتْمامُ على قَدْرِ طاقَتِكم ووَفقًا لِشِدَّةِ الرَّغبَة" (٢ قورنتس ٨، ١١). أفكّر في هذه اللّحظة في الاستعداد الّذي دفع، خلال السّنوات الأخيرة، شعوبًا بأكملها لكي تفتح الأبواب لاستقبال ملايين اللّاجئين من الحروب في الشّرق الأوسط، ووسط إفريقيا، والآن في أوكرانيا. لقد شرَّعت العائلات بيوتها وأفسحت مكانًا لعائلات أخرى، واستقبلت الجماعات بسخاء العديد من النّساء والأطفال لكي تقدّم لهم الكرامة الواجبة. ومع ذلك، فكلّما طال أمد الصّراع، اشتدّت عواقبه. وبالتّالي فالشّعوب الّتي تستقبل، بدأت تجد صعوبة متزايدة في الاستمرار في تقديم المساعدة، إذ بدأت العائلات والجماعات تشعر بثقل الوضع الّذي يذهب أبعد من حالة الطّوارئ. هذا هو الوقت المناسب لعدم الاستسلام ولتجديد الدّفع الأوّل. ما بدأناه يحتاج إلى أن يُتمَّم بالمسؤوليّة عينها. في الواقع، هذا هو التّضامن: أن نتقاسم القليل الّذي لدينا مع الّذين ليس لديهم شيء، لكي لا يتألّم أحد. كلّما زاد حسُّ الجماعة والشّركة كأسلوب حياة، يتطوّر التّضامن. من ناحية أخرى، يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار أنّ هناك بلدانًا شهدت، خلال العقود الأخيرة، نموًّا كبيرًا في رفاهيّة العديد من العائلات، والّتي بلغت إلى حالة حياة آمنة. إنّها ثمرة إيجابيّة للمبادرة الخاصّة والقوانين الّتي دعمت النّموّ الاقتصاديّ إلى جانب حافز ملموس لسياسات العائلات والمسؤوليّة الاجتماعيّة. إنَّ إرث الأمن والاستقرار الّذي تمّ بلوغه يمكن أن تتمَّ مقاسمته مع الّذين أُجبروا على ترك بيوتهم وبلدهم لكي ينقذوا أنفسهم ويبقوا على قيد الحياة. كأعضاء في المجتمع المدنيّ، لنحافظ على الدّعوة إلى قيم الحرّيّة والمسؤوليّة والأخوّة والتّضامن حيّة. وكمسيحيّين، لنجد محدّدًا على الدّوام في المحبّة والإيمان والرّجاء أساس كياننا وعملنا.

من الأهمّيّة بمكان أن نلاحظ أنّ بولس الرّسول لم يُرِدْ أن يلزم المسيحيّين ويجبرهم على عمل الخير. ويكتب في الواقع: "لا أَقولُ ذلِك على سَبيلِ الأَمْر"، بل هو ينوي "أن يختبر صدق" محبّتهم في الاهتمام بالفقراء والعناية بهم. في أساس طلب بولس، نجد بالتّأكيد الحاجة إلى مساعدة ملموسة، ولكن نيّته تذهب إلى أبعد من ذلك. فهو يدعونا لكي نقوم بجمع التّبرّعات لكي تكون علامة على المحبّة كما شهد عليها يسوع نفسه. بإختصار، يجد السّخاء تجاه الفقراء دافعه الأقوى في خيار ابن الله الّذي افتقر. إنَّ بولس الرّسول في الواقع، لا يخشى أن يؤكّد أنّ خيار المسيح هذا، أيّ "تجرّده"، هو نعمة، بل، هو "نعمة رَبِّنا يسوعَ المسيح"، ونحن بقبولنا هذه النّعمة فقط يمكننا أن نعبّر بشكل ملموس وصادق عن إيماننا. إنّ تعليم العهد الجديد بأكمله يجد وَحدته حول هذا الموضوع، ويظهر ذلك أيضًا في كلمات القدّيس يعقوب الرّسول: "كونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذه الكَلِمَة، لا مِمَّن يَكتَفونَ بِسَماعِها فيَخدَعونَ أَنفُسَهم. فمَن يَسمعَ الكَلِمَةَ ولا يَعمَلْ بِها يُشبِهْ رَجُلاً يَنظُرُ في المِرآةِ صورَةَ وَجْهِه. فما إِن نظَرَ إِلى نَفْسِه ومَضى حتَّى نَسِيَ كَيفَ كان. وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها، لا شَأْنَ مَن يَسمعُ ثُمَّ يَنْسى، بل شأنَ مَن يَعمَل، فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه".

لا يوجد كلام أو بلاغة أمام الفقراء، بل علينا أن نشمّر عن سواعدنا ونعيش الإيمان من خلال التّدخّل المباشر، الّذي لا يمكننا أن نفوّضه لأيّ شخص آخر. ومع ذلك، في بعض الأحيان، قد يدخل شكل من أشكال الاسترخاء، الّذي يؤدّي إلى تصرّفات لا تتطابق مع إيماننا، مثل اللّامبالاة تجاه الفقراء. ويصادف أيضًا أن يبقى بعض المسيحّيّين، بسبب التّعلّق المفرط بالمال، غارقين في إساءة استخدام الخيور والإرث. وهذه مواقف تبيّن الإيمان الضّعيف والرّجاء الواهم وقصير النّظر. نحن نعلم أنّ المشكلة ليست المال بحدّ ذاته، لأنّه جزء من حياة الأشخاص اليوميّة وعلاقاتهم الاجتماعيّة. وإنّما ما نحتاج إلى التّأمّل حوله هو القيمة الّتي نعطيها للمال: إذ لا يمكن للمال أن يصبح شيئًا مطلقًا، كما لو كان الغاية الرّئيسيّة. إنَّ تعلُّقًا كهذا يمنعنا من النّظر بشكل واقعيّ إلى الحياة اليوميّة ويغشّي نظرنا، ويمنعنا من رؤية احتياجات الآخرين. أكثر شيء مضرٍّ يمكنه أن يحدث لمسيحيٍّ ما ولجماعة ما هو الانبهار أمام صنم الغنى، الّذي ينتهي به الأمر بأن يقيِّد الإنسان في رؤية حياة زائلة وفاشلة. لذلك لا يتعلّق الأمر بأن نتّخذ موقف الإعالة تجاه الفقراء، كما يحدث غالبًا، وإنّما من الضّروريّ أن نلتزم لكي لا ينقص أحدًا ما هو ضروريّ. ليست النّشاطات هي الّتي تخلِّص، بل الاهتمام الصّادق والسّخيّ الّذي يسمح لنا بأن نقترب من شخص فقير كاقترابنا من أخٍ يمدّ لنا يده لكي نستيقظ من السّبات الّذي وقعنا فيه. لذلك، لا يمكن لأحد أن يقول إنّه يبقى بعيدًا عن الفقراء لأنّ خيارات حياته تفترض عليه اهتمامات أخرى. هذا عذر متكرّر في الأوساط الأكاديميّة والمؤسّساتيّة والمهنيّة وحتّى الكنسيّة. [...] إلّا أنّه لا يمكن لأحد أن يشعر بأنّه مُعفى من الاهتمام بالفقراء والعدالة الاجتماعيّة. وبالتّالي من الملِحّ أن نجد دروبًا جديدة يمكنها أن تذهب أبعد من توجيهات تلك السّياسات الاجتماعيّة الّتي تُعتبَر سياسة من أجل الفقراء ولكنّها ليست أبدًا مع الفقراء، ولا للفقراء، ولا يمكن إدراجها في مشروع يعيد توحيد الشّعوب. بل يجب أن نسعى لتبّني موقف بولس الرّسول الّذي استطاع أن يكتب إلى أهل قورنتس: "فلَيسَ المُرادُ أَن يَكونَ الآخَرونَ في يُسْرٍ وتَكونوا أَنتُم في عُسْر، بَلِ المُرادُ هو المُساواة".

هناك مفارقة يصعب قبولها اليوم كما في الماضي، لأنّها تتعارض مع المنطق البشريّ: وهي الفقر الّذي يجعلك غنيًّا. إذ يُذكّر بـ"نعمة" يسوع المسيح، يريد القدّيس بولس أن يؤكّد ما بشّر به يسوع نفسه، أيّ أنّ الغنى الحقيقيّ ليس في تكديس "كُنوز في الأَرض، حَيثُ يُفسِدُ السُّوسُ والصَّدَأ، ويَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقون"، وإنّما في المحبّة المتبادلة الّتي تجعلنا نحمل أعباء بعضنا البعض لكي لا يُترك أحد أو يُهمَّش. على خبرة الضّعف والقيود الّتي عشناها في السّنوات الأخيرة، ومأساة الحرب الآن ذات التّداعيات العالميّة، أن تُعلّمانا شيئًا حاسمًا: لسنا في العالم من أجل مجرّد البقاء على قيد الحياة، وإنّما لكي يُسمح للجميع بحياة كريمة وسعيدة. إنَّ رسالة يسوع تُظهر لنا الدّرب وتجعلنا نكتشف أنّ هناك فقرًا يُذِلّ ويقتل، وهناك فقر آخر، وهو فقره، الّذي يحرّرنا ويعطينا السّلام. الفقر الّذي يقتل هو البؤس، الّذي يولِّدُه الظّلم والاستغلال والعنف وتوزيع الموارد الظّالم. إنّه الفقر اليائس، بدون مستقبل، لأنّه مفروض من قبل ثقافة الإقصاء الّتي لا تقدّم آفاقًا ولا سبلاً للخروج. إنّه البؤس الّذي، وإذ يفرض على المرء حالة من الفقر المدقع، يؤثّر أيضًا على البعد الرّوحيّ، الّذي ولو تمّ إهماله غالبًا، لكن هذا الأمر لا يعني أنّه غير موجود أو غير مهمّ. عندما يصبح القانون الوحيد هو حساب الرّبح في نهاية اليوم، نفقد جميع ما يلجُم منطق استغلال الأشخاص الّذين يصبحون مجرّد وسائل. فلا وجود لأجور عادلة، ولا ساعات عمل عادلة، وتُخلَق أشكال جديدة من العبوديّة، يعاني منها الأشخاص الّذين ليس لديهم بديل وعليهم أن يقبلوا هذا الظّلم السَّامّ لكي يحصلوا على الحدّ الأدنى من الرّزق. أمّا الفقر الّذي يحرّر فهو الّذي يقف أمامنا كخيار مسؤول للتّخفيف من ثقل الثّانويّات، والتّركيز على الأساسيّ. في الواقع، يمكننا أن نجد بسهولة ذلك الشّعور بعدم الرّضا الّذي يشعر به الكثيرون، لأنّهم يشعرون أنّ شيئًا مهمًّا ينقصهم، فيذهبون للبحث عنه تائهين بلا هدف. وإذ يرغبون في العثور على ما يرضيهم، هم يحتاجون لأن يتمَّ توجيههم نحو الصّغار والضّعفاء والفقراء لكي يفهموا أخيرًا ما يحتاجون إليه حقًّا. إنَّ لقاء الفقراء يسمح لنا بأن نضع حدًّا للكثير من القلق والمخاوف غير المنطقيّة، لكي نصل إلى ما يهمّ حقًّا في الحياة والّذي لا يمكن لأحد أن يسرقه منّا، وهو: المحبّة الحقيقيّة والمجّانيّة. إنَّ الفقراء في الواقع، وقبل أن يكونوا موضوع صدقتنا وإحساننا، هم أشخاص يساعدوننا لكي نتحرّر من قيود القلق والسّطحيّة. كتب القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، أحد آباء وملافنة الكنيسة، الّذي نجد في كتاباته تنديدات شديدة لسلوك المسيحيّين تجاه الأشخاص الاشدَّ فقرًا: "إن كنتَ لا تصدّق أنّ الفقر يجعلك غنيًّا، فكّر في ربّك وتوقّف عن الشّكّ في هذا. لو لم يكن فقيرًا لما أصبحتَ غنيًّا؛ إنّه أمر رائع، أن يأتي الغنى الوافر من الفقر. وقد عنى بولس هنا بكلمة "غنى" معرفة التّقوى، والتّطهير من الخطايا، والبرّ والصّلاح، والتّقديس، وآلاف الأشياء الحسنة الأخرى الّتي أُعطيت لنا الآن وإلى الأبد. وقد نلنا هذا كلّه هذا بفضل الفقر.

إن نصّ بولس الرّسول والّذي يشير إليه اليوم العالميّ السّادس للفقراء يقدّم التّناقض الكبير لحياة الإيمان: فقر المسيح يُغنينا. إذا تمكّن بولس من أن يعطينا هذا التّعليم– وتمكّنت الكنيسة من أن تنشره وتشهد له عبر القرون- فذلك لأنّ الله، في ابنه يسوع، قد اختار هذا الدّرب واتّبعه. وإن افتقر لأجلنا، فإنّ حياتنا ستستنير وتتحوّل، وستكتسب قيمة لا يعرفها العالم ولا يمكنه أن يعطيها. إنَّ غنى المسيح هو محبّته الّتي لا تستبعد أحدًا، وتذهب للقاء الجميع، ولاسيّما المهمّشين والمحرومين من الضّروريّ. محبّة بنا تجرّد المسيح من ذاته واتّخذ الحالة البشريّة. ومحبّة بنا أصبح خادمًا وأطاع حتّى الموت، موت الصّليب. ومحبّة بنا، صار "خبز الحياة" لكي لا يفتقر أحد للضّروريّ ويتمكن من أن يجد الطّعام الّذي يغذّي للحياة الأبديّة. حتّى في أيّامنا هذه، يبدو من الصّعب، كما كان عليه الحال في ذلك الوقت لتلاميذ الرّبّ يسوع، قبول هذا التّعليم، لكن كلمة يسوع واضحة. إذا أردنا أن تنتصر الحياة على الموت وأن تتحرّر الكرامة من الظّلم، فالدّرب الّذي علينا اتّباعه هو دربه: أن نتبع فقر يسوع المسيح ونتقاسم الحياة محبّة بالآخرين ونكسر خبز حياتنا مع الإخوة والأخوات، بدءًا من الآخرين، من الّذين يفتقرون إلى الضّروريّ، لكي تتحقّق المساواة، ويتمّ تحرير الفقراء من البؤس، والأغنياء من الغرور والباطل، وكلاهما بلا رجاء.

في الخامس عشر من أيّار مايو الماضي، أعلنتُ قداسة الأخ شارل دي فوكو، رجلٌ ولد غنيًّا وتخلّى عن كلّ شيء لكي يتبع يسوع ويصبح معه فقيرًا وأخًا للجميع. إنَّ حياته النّسكيّة، أوّلًا في النّاصرة ومن ثمّ في الصّحراء الكبرى، قد تكوّنت من الصّمت والصّلاة والمشاركة، هي شهادة نموذجيّة للفقر المسيحيّ. وبالتّالي سيساعدنا كثيرًا أن نتأمّل في كلماته هذه: "لا نحتَقِرنَّ الفقراء والصّغار والعمّال. فهؤلاء ليسوا إخوتنا في الله فحسب، وإنّما هم أيضًا أولئك الّذين يقتدون بشكل كامل بيسوع في حياته الخارجيّة. هؤلاء يمثلّون بشكل كامل يسوع، يسوع العامل في النّاصرة. إنّهم الأبكار بين المختارين، وأوّل المدعوّين إلى مهد المخلّص. لقد كانوا رفقاء يسوع الاعتياديّين، منذ ولادته وحتّى موته [...]. لنكرّمهم، ولنكرّم فيهم صور يسوع ووالدَيه القدّيسَين [...]. ولنأخذ لأنفسنا [الحالة] الّتي أخذها لنفسه […]. ولا نكفَّنَّ أبدًا عن كوننا فقراء في كلّ شيء، وإخوة للفقراء، ورفقاء الفقراء، ولنكُن أفقر الفقراء مثل يسوع، وعلى مثاله لنحبّ الفقراء ولْنُحِط أنفسنا بهم". بالنّسبة للأخ شارل لم تكن هذه مجرّد كلمات، وإنّما أسلوب حياة ملموس، حمله لكي يتقاسَم مع يسوع عطيّة الحياة. ليصبح هذا اليوم العالميّ السّادس للفقراء لنا فرصة نعمة لكي نقوم بفحص ضمير شخصيّ وجماعيّ ونسأل أنفسنا إن كان فقر يسوع المسيح هو رفيق حياتنا الأمين."